ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
- عن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه)) [5877] أخرجه البخاري (5986) ومسلم (2557). .
قوله:
((يُنسَأَ)) أي: يُؤخَّرَ، و(الأثرُ): الأجَلُ؛ لأنَّه تابعٌ للحياةِ في أثَرِها. وبسطُ الرِّزقِ توسيعُه وكثرتُه، وقيل: البركةُ فيه
[5878] ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 114). قال ابنُ تَيميَّةَ: (وقد قال بعضُ النَّاسِ: إنَّ المرادَ به البركةُ في العُمُرِ، بأن يعمَلَ في الزَّمَنِ القصيرِ ما لا يعمَلُه غيرُه إلَّا في الكثيرِ، قالوا: لأنَّ الرِّزقَ والأجَلَ مقدَّرانِ مكتوبانِ. فيقال لهؤلاء: تلك البركةُ وهي الزِّيادةُ في العَمَلِ والنَّفعِ هي أيضًا مقدَّرةٌ مكتوبةٌ وتتناوَلُ لجميعِ الأشياءِ. والجوابُ المحَقَّقُ: أنَّ اللهَ يكتُبُ للعَبدِ أجَلًا في صُحُفِ الملائكةِ، فإذا وصل رحِمَه زاد في ذلك المكتوبِ، وإن عَمِل ما يوجِبُ النَّقصَ نُقِص من ذلك المكتوبِ... واللهُ سُبحانَه عالِمٌ بما كان وما يكونُ وما لم يكنْ لو كان كيف كان يكونُ؛ فهو يعلَمُ ما كتبه له وما يزيدُه إيَّاه بعدَ ذلك، والملائكةُ لا عِلمَ لهم إلَّا ما عَلَّمَهم اللهُ، واللهُ يعلَمُ الأشياءَ قَبلَ كَونِها وبعدَ كَونِها). مجموع الفتاوى (14/ 490). وقال في موضِعٍ آخَرَ: (الرِّزقُ نوعانِ: أحدُهما: ما عَلِمه اللهُ أنَّه يرزُقُه، فهذا لا يتغَيَّرُ. والثَّاني: ما كتبه وأعلَمُ به الملائكةَ، فهذا يزيدُ ويَنقُصُ بحسَبِ الأسباب؛ فإنَّ العبدَ يأمُرُ اللهُ الملائكةَ أن تكتُبَ له رِزقًا، وإن وَصَل رَحِمَه زاده اللهُ على ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (8/ 540). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من كان يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ ضَيفَه، ومن كان يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَصِلْ رَحِمَه...)) [5879] أخرجه البخاري (6138). .
فقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من كان يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ)) فليفعَلْ كذا وكذا، يدُلُّ على أنَّ هذه الخصالَ من خصالِ الإيمانِ
[5880] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 333). .
وفيه إشارةٌ إلى أنَّ القاطِعَ كأنَّه لم يؤمِنْ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ؛ لعَدَمِ خَوفِه من شِدَّةِ العقوبةِ المترتِّبةِ على القَطيعةِ
[5881] ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 2732). .
- وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الرَّحِمُ معَلَّقةٌ بالعَرشِ تقولُ: مَن وصَلَني وصَلَه اللَّهُ، ومن قطَعَني قطَعَه اللَّهُ)) [5882] أخرجه البخاري (5989)، ومسلم (2555) واللفظ له. .
قوله:("من وَصَلني وصَلَه اللَّهُ"، أي: بحسنِ رعايتِه وبجميلِ حمايتِه، "ومن قطعَني قطعَه اللَّهُ"أي: عن عينِ عنايتِه، ومن كمالِ رحمتِه ورأفتِه، فالوَصلُ كنايةٌ عن الإقبالِ إليه والقَبولِ منه، والقَطعُ عبارةٌ عن الغَضَبِ عليه والإعراضِ عنه)
[5883] ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3086). .
- وعن أبي أيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أنَّ رجُلًا قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبِرْني بعَمَلٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، قال: ما له ما له؟! وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أَرَبٌ ما له، تعبُدُ اللَّهَ ولا تُشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ)) [5884] أخرجه البخاري (1396) واللفظ له، ومسلم (13). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال:
((لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)) [5885] أخرجه مسلم (2558). .
قال
النَّوويُّ: (هو تشبيهٌ لِما يَلحَقُهم من الإثمِ بما يَلحَقُ آكِلَ الرَّمادِ الحارِّ من الألمِ، ولا شيءَ على هذا المُحسِنِ إليهم، لكِنْ ينالُهم إثمٌ عظيمٌ بتقصيرِهم في حقِّه، وإدخالِهم الأذى عليه. وقيل: معناه أنَّك بالإحسانِ إليهم تُخزيهم، وتحَقِّرُهم في أنفُسِهم؛ لكثرةِ إحسانِك، وقبيحِ فِعلِهم من الخِزيِ والحقارةِ عِندَ أنفُسِهم، كمن يُسَفُّ المَلَّ)
[5886] ((شرح النووي على مسلم)) للنووي (16/ 115). .
فهذا الحديثُ عزاءٌ لكثيرٍ من النَّاسِ ممَّن ابتُلوا بأقارِبَ شَرِسينَ، يقابلون الإحسانَ بالإساءةِ، وفيه تشجيعٌ للمُحسِنين على أن يستَمِرُّوا على طريقتِهم المثلى؛ فإنَّ اللَّهَ معهم، وهو مؤيِّدُهم وناصِرُهم ومُثيبُهم
[5887] ((قطيعة الرحم)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 33، 34). .
- وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما
((أنَّ أبا سفيانَ بنَ حَربٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أخبرَه: أنَّ هِرَقلَ أرسل إليه في ركبٍ من قريشٍ، وكانوا تجارًا بالشَّامِ في المدَّةِ التي كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مادَّ [5888] أي: جَعَل بينَه وبينَه مدَّةَ صُلحٍ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 186). فيها أبا سفيانَ وكفَّارَ قُرَيشٍ، فأتَوه وهم بإيلياءَ، فدعاهم في مجلِسِه وحولَه عُظَماءُ الرُّومِ...الحديثَ، وفيه: ماذا يأمُرُكم؟ قلتُ: يقولُ: اعبُدوا اللَّهَ وَحدَه ولا تُشرِكوا به شيئًا، واتركوا ما يقولُ آباؤكم، ويأمرُنا بالصَّلاةِ والصِّدقِ، والعَفافِ والصِّلةِ. فقال للتَّرجمانِ: قُلْ له: سألتُك عن نسَبِه فذكَرْتَ أنَّه فيكم ذو نَسَبٍ، فكذلك الرُّسُلُ تُبعَثُ في نَسَبِ قَومِها... وسألتُك بما يأمرُكم، فذكَرْتَ أنَّه يأمُركم أن تعبُدوا اللَّهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادةِ الأوثانِ، ويأمُرُكم بالصَّلاةِ والصِّدقِ والعَفافِ، فإن كان ما تقولُ حَقًّا فسيملِكُ مَوضِعَ قَدَميَّ هاتينِ)) [5889] أخرجه البخاري (7) واللفظ له، ومسلم (1773). .
قال
النَّوويُّ: (أمَّا الصِّلةُ فصِلةُ الأرحامِ وكُلِّ ما أمَر اللَّهُ به أن يوصَلَ، وذلك بالبِرِّ والإكرامِ وحُسنِ المراعاةِ)
[5890] ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 106). .
قال الكَرمانيُّ: (فإن قُلتَ: ما ذكَرَ هِرَقلُ لَفظَ "الصِّلةِ" التي ذكَرها أبو سفيانَ، فلِمَ تركَها؟ قلتُ: لأنَّها داخلةٌ في العفافِ؛ إذ الكَفُّ عن المحارِمِ وخوارِمِ المروءةِ تستلزِمُ الصِّلةَ)
[5891] ((الكواكب الدراري)) (1/ 59). .
- وعن سَلمانَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ الصَّدقةَ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وعلى ذي الرَّحمِ اثنتانِ: صَدَقةٌ وصِلةٌ)) [5892] أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)واللفظ له، وابن ماجه (1844). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3344)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/411)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2582)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (3344). .
فالصَّدَقةُ على ذي الرَّحِمِ (فيها أجرانِ بخِلافِ الصَّدَقةِ على الأجنبيِّ؛ ففيها أجرٌ واحدٌ، وفيه التَّصريحُ بأنَّ العَمَلَ قد يجمَعُ ثوابَ عمَليِن لتحصيلِ مقصودِهما به، فلعامِلِه سائِرُ ما ورَد في ثوابِهما بفضلِ اللَّهِ ومنَّتِه)
[5893] ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 193). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (يعني: فيها أجرانِ: أجرُ الصَّدقةِ، وأجرُ الصِّلةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه يجوزُ للإنسانِ أن يتصدَّقَ على أولادِه عِندَ الحاجةِ، ويتصَدَّقَ على زوجتِه، وكذلك الزَّوجةُ تتصَدَّقُ على زوجِها، وأنَّ الصَّدقةَ عليهم صَدَقةٌ وصِلةٌ)
[5894] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 195). .
- عن
ميمونةَ بنتِ الحارِثِ أمِّ المُؤمِنين رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها أعتَقَت وليدةً ولم تستأذِنِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا كان يومُها الذي يدورُ عليها فيه قالت: أشعَرَتْ يا رسولَ اللهِ أنِّي أعتَقْتُ وَليدتي؟ قال:
((أوَفعَلْتِ؟ قالت: نعم، قال: أمَا إنَّكِ لو أعطَيتِها أخوالَكِ كان أعظَمَ لأجْرِك)) [5895] أخرجه البخاري (2592)، ومسلم (999). .
وقد دلَّ هذا الحديثُ على أنَّ صِلةَ الأقاربِ وإغناءَ الفُقَراءِ منهم أفضَلُ من العِتقِ والصَّدَقةِ على الأجانِبِ
[5896] ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (4/ 433). .
- وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس الواصِلُ بالمكافئِ، ولكِنَّ الواصِلَ الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلها)) [5897] أخرجه البخاري (5991). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (يعنى: ليس الواصِلُ رَحِمَه من وصَلَهم مكافأةً لهم على صِلةٍ تقدَّمَت منهم إليه، فكافأهم عليها بصِلةٍ مِثلِها)
[5898] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 208). .
وقال
القَسطَلَّانيُّ: (والحاصِلُ ثلاثةٌ: مواصِلٌ، ومكافئٌ، وقاطِعٌ؛ فالواصِلُ: من يتفضَّلُ ولا يُتفَضَّلُ عليه، والمكافِئُ: الذي لا يزيدُ في الإعطاءِ على ما يأخُذُ، والقاطِعُ: الذي يُتفَضَّلُ عليه ولا يَتفَضَّلُ)
[5899] ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/ 14). .