ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
1- عن
أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اتَّقِ اللهَ حيثما كُنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحَسَنةَ تَمْحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ)) [555] أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد (21354). صحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/349)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((الأمالي المطلقة)) (131)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1987)، وحسَّنه لغيرِه شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (35/ 284). .
قال
القاري: «
((بخُلُقٍ حَسَنٍ)): وهو بَسطُ المحَيَّا، وبَذلُ النَّدى، وتحمُّلُ الأذى»
[556] ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3178). .
وقال
السَّعديُّ: (وأوَّلُ الخُلُقِ الحَسَنِ: أن تكُفَّ عنهم أذاك من كُلِّ وَجهٍ، وتعفوَ عن مساوِئِهم وأذيَّتِهم لك، ثمَّ تعامِلَهم بالإحسانِ القوليِّ والإحسانِ الفِعليِّ، وأخَصُّ ما يكونُ بالخُلُقِ الحَسَنِ: سَعةُ الحِلمِ على النَّاسِ، والصَّبرُ عليهم، وعدَمُ الضَّجَرِ منهم، وبشاشةُ الوَجهِ، ولُطفُ الكلامِ، والقَولُ الجميلُ المُؤنِسُ للجَليسِ، المُدخِلُ عليه السُّرورَ، المُزيلُ لوَحشتِه ومَشقَّةِ حِشمتِه، وقد يحسُنُ المزحُ أحيانًا إذا كان فيه مصلحةٌ، لكِنْ لا ينبغي الإكثارُ منه، وإنَّما المزحُ في الكلامِ كالمِلحِ في الطَّعامِ، إن عَدِمَ أو زاد على الحَدِّ فهو مذمومٌ.
ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: أن تُعامِلَ كُلَّ أحدٍ بما يليقُ به، ويناسِبُ حالَه من صغيرٍ وكبيرٍ، وعاقِلٍ وأحمَقَ، وعالمٍ وجاهِلٍ، فمَن اتَّقى اللهَ، وحقَّق تقواه، وخالَقَ النَّاسَ على اختِلافِ طبَقاتِهم بالخُلُقِ الحَسَنِ؛ فقد حاز الخيرَ كُلَّه؛ لأنَّه قام بحَقِّ اللهِ وحقوقِ العبادِ، ولأنَّه كان من المُحسِنين في عبادةِ اللهِ، المحسِنين إلى عبادِ اللهِ)
[557] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 51). .
2- وعن
جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ مِن أحَبِّكم إليَّ وأقرَبِكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكم أخلاقًا)) [558] أخرجه الترمذي (2018) واللَّفظُ له، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (23)، والطبراني في ((مكارم الأخلاق)) (6). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2018)، وقال الترمذي: (حَسَنٌ غريبٌ)، وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (1738). .
قال
ابنُ دقيقِ العيدِ: (حُسنُ الخُلُقِ مِن صفاتِ النَّبيِّين والمُرسَلين وخيارِ المُؤمِنين؛ لا يَجزُون بالسَّيِّئةِ، بل يَعفون ويَصفَحون، ويُحسِنون مع الإساءةِ إليهم)
[559] ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 74). .
3- وعن
عائشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يا عائِشةُ، إنَّ اللهَ رفيقٌ يحِبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ، وما لا يُعطي على ما سِواه)) [560] أخرجه مسلم (2593). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (الرِّفقُ محبوبٌ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وإنَّه ما كان في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِع مِن شيءٍ إلَّا شانَه؛ ففيه الحثُّ على أن يكونَ الإنسانُ رفيقًا في جميعِ شُؤونِه، رفيقًا في معاملةِ أهلِه، وفي معاملةِ إخوانِه، وفي معاملةِ أصدقائِه، وفي معاملةِ عامَّةِ النَّاسِ، يَرفُقُ بهم؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ رفيقٌ يحِبُّ الرِّفقَ؛ ولهذا فإنَّ الإنسانَ إذا عامَل النَّاسَ بالرِّفقِ يجِدُ لذَّةً وانشِراحًا، وإذا عامَلَهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ نَدِم، ثمَّ قال: ليتَني لم أفعَلْ، لكِنْ بَعدَ أن يفوتَ الأوانُ، أمَّا إذا عامَلَهم بالرِّفقِ واللِّينِ والأناةِ انشَرَح صدرُه، ولم يَندَمْ على شيءٍ فَعَله)
[561] ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 578). .
4- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ليس الشَّديدُ بالصُّرَعةِ، إنَّما الشَّديدُ الذي يملِكُ نَفسَه عندَ الغَضَبِ)) [562] أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (الصُّرَعةُ: الذي يَصرَعُ النَّاسَ ويَكثُرُ منه ذلك، كما يقالُ للكثيرِ النَّومِ: نُوَمةٌ، وللكثيرِ الحِفظِ: حُفَظةٌ، فأراد عليه السَّلامُ أنَّ الذي يقوى على مَلْكِ نفسِه عند الغَضَبِ ويَرُدُّها عنه هو القَويُّ الشَّديدُ والنِّهايةُ في الشِّدَّةِ؛ لغَلَبتِه هواه المُرْدي الذي زَيَّنه له الشَّيطانُ المُغْوي، فدَلَّ هذا أنَّ مجاهدةَ النَّفسِ أشَدُّ من مجاهَدةِ العَدُوِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ جَعَل للذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضَبِ من القُوَّةِ والشِّدَّةِ ما ليس للذي يغلِبُ النَّاسَ ويَصرَعُهم)
[563] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 296). .
5- وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المؤمِنُ الذي يخالِطُ النَّاسَ ويَصبِرُ على أذاهم أعظَمُ أجرًا من المؤمنِ الذي لا يخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبِرُ على أذاهم)) [564] أخرجه ابن ماجه (4032) واللَّفظُ له، وأحمد (5022) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4032)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/94)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9/ 64)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (10/528). وأخرجه الترمذي (2507)، وابن أبي شيبة (26744)، والبيهقي (20670) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ شَيخٍ من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2507). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (يخالِطُهم يعني: يذهَبُ معهم، ويجيءُ معهم، ويجلِسُ إليهم، ويتكَلَّمُ معهم، وضِدُّه مَن لا يخالِطُ النَّاسَ، وهو المعتَزِلُ للنَّاسِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ويصبِرُ على أذاهم)؛ لأنَّ الإنسانَ الذي يخالِطُ النَّاسَ لا بُدَّ له من أذيَّةٍ، لا بُدَّ أن يسمَعَ كلامًا يُؤذيه، لا بُدَّ أن يرى فِعلًا يُؤذيه، لا بُدَّ أن يُهانَ، المُهِمُّ هذا شيءٌ معروفٌ، لكن يصبِرُ على أذاهم ويصابِرُ، ويقولُ: الذي لا يأتي اليومَ يأتي غدًا، ويستَحضِرُ دائمًا قولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] . هذه الآيةُ اجعَلْها دائمًا أمامَك في معاملةِ النَّاسِ لك
خُذِ الْعَفْوَ أي: ما عفا وسَهُل فخُذْه، وما لا فلا تهتَمَّ به؛ ولهذا قال:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، كذلك يقولُ: (خيرٌ من المؤمِنِ الذي لا يخالِطُ النَّاسَ)، وعلى هذا فقولُه: (من الذي)، الذي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، والتَّقديرُ: من المؤمِنِ، دليلُ ذلك وجودُها في الجملةِ الأولى: (الذي لا يخالِطُ النَّاسَ ولا يصبِرُ على أذاهم)، ثمَّ إنَّ المؤمِنَ الذي يخالِطُ النَّاسَ يَعرِفُ النَّاسَ ويَعرِفُ أحوالَهم ويَعرِفُ ما أخطؤوا فيه، فيُحاوِلُ أن يُعَدِّلَه، ويَعرِفُ مشاكِلَ النَّاسِ، ويحاوِلُ أن يحُلَّها؛ فمُخالطةُ النَّاسِ فيها خيرٌ)
[565] ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) (6/455). .