خامِسًا: الوَسائِلُ المُعينةُ على كَظمِ الغَيظِ
1- مَعرِفة الأجرِ المُتَرَتِّبِ على كَظمِ الغَيظِ وما ينتُجُ عنه مِن فوائِدَ.
2- خُلُقُ الرَّحمةِ والشَّفَقةِ مِمَّا يُعينُ على كَظمِ الغَيظِ، وإخمادِ نارِ الغَضَبِ.
3- أن يُرَبِّيَ المُؤمِنُ نفسَه على سَعة الصَّدرِ؛ فإنَّ سَعةَ الصَّدرِ تَحمِلُ على الصَّبرِ في حالِ الغَضَبِ، والعَفوِ عندَ المقدِرةِ؛ لذا قيل قديمًا: (أحسَنُ المَكارِمِ عَفوُ المُقتَدِرِ وجُودُ المُفتَقِرِ)
[8025] ((صيد الأفكار)) لحسين بن محمد المهدي (1/590). ، وقَبلَ ذلك قَولُ اللهِ تبارَك وتعالى:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] .
4- شَرَفُ نفسِ المَرءِ واتِّصافُه بعُلوِّ الهِمَّةِ مِن الأسبابِ المُؤَدِّيةِ إلى كَظمِ الغَيظِ؛ فهو يتَرَفَّعُ عن التَّلَفُّظِ بما يُنزِلُ نفسَه، ويحُطُّ مِن قدرِها:
لن يبلُغَ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا
حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوامِ
ويُشتَموا فترى الألوانَ مُشرِقةً
لا عَفوُ ذُلٍّ ولكِنْ عَفوُ أحلامِ
[8026] ((اللطائف والظرائف)) للثعالبي (ص: 115). 5- الحَياءُ مِن التَّلَبُّسِ بأخطاءِ المُخطِئِ، ومُقابلتِه فيما يَفعَلُ؛ قال بَعضُ الحُكَماءِ: (احتِمالُ السَّفيهِ خَيرٌ مِن التَّحَلِّي بصورَتِه، والإغضاءُ عن الجاهِلِ خَيرٌ مِن مُشاكَلتِه)
[8027] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (253). .
قال الشَّاعِرُ:
سأُلزِمُ نفسي الصَّفحَ عن كُلِّ مُذنِبٍ
وإنْ كَثُرَت منه عليَّ الجرائِمُ
وما النَّاسُ إلَّا واحِدٌ من ثلاثةٍ
شريفٌ ومشروفٌ ومِثلي مُقاوِمُ
فأمَّا الذي فوقي فأعرِفُ فَضلَه
وألزَمُ فيه الحَقَّ والحَقُّ لازِمُ
وأمَّا الذي دوني فإن قال صُنتُ عن
مقالتِه نفسي وإن لام لائِمُ
وأمَّا الذي مِثلي فإن زَلَّ أو هَفا
تفضَّلْتُ إنَّ الفَضلَ للحُرِّ حاكِمُ
[8028] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/142). 6- تعويدُ النَّفسِ وتَدريبُها على خُلُقِ الصَّبرِ؛ فهو خَيرُ مُعينٍ عندَ الغَضَبِ.
7- أن يقطَعَ المَرءُ المُلاحاةَ والجَدَلَ في مَواقِفِ الخُصومةِ، وأن يمسِكَ عن السِّبابِ والشَّتائِمِ؛ فقد حُكيَ أنَّ رَجُلًا قال لضِرارِ بنِ القَعقاعِ: (واللهِ لو قُلتَ واحِدةً لسَمِعتَ عَشرًا! فقال له ضِرارٌ: واللهِ لو قُلتَ عَشرًا لم تسمَعْ واحِدةً!)
[8029] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (254). .
8- أن يُقدِّمَ المَرءُ مَصلَحةَ الاجتِماعِ والأُلفةِ على الانتِقامِ للنَّفسِ؛ فإنَّ ذلك يحمِلُه على كَظمِ غَيظِه، والتَّنازُلِ عن حَقِّه؛ ولهذا أثنى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الحَسَنِ رَضيَ اللهُ عنه بقَولِه:
((ابني هذا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللهَ أن يُصلِحَ به بَينَ فِئَتَينِ مِن المُسلِمينَ)) [8030] رواه البخاري (3629) من حديثِ أبي بكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
9- تذكيرُ النَّفسِ بما في الانتِقامِ مِن نَفرةِ القُلوبِ عن المُتَشَفِّي، ومِن نِسبتِه إلى الخِفَّةِ والطَّيشِ، وأشَدُّ مِن ذلك على الرُّؤَساءِ إعمالُ الحيلةِ عليهم في طَلَبِ الخَلاصِ منهم متى عُرِفوا بسُرعةِ البَطشِ ومُعالَجةِ الانتِقامِ
[8031] ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لابن الأزرق (1/113). .
عن الجُنَيدِ بنِ مُحَمَّدٍ قال: سَأل سائِلٌ الحارِثَ بنَ أسَدٍ:... إنِّي لا أقوى على الحِلمِ عِندَ الشَّتمِ والأذى، فقال: ثَقُل عليك كظمُ الغَيظِ وخَفَّ عليك الاشتِفاءُ. قُلتُ: مِمَّ ثَقُلَ عَليَّ كظمُ الغَيظِ وخَفَّ عَليَّ التَّشَفِّي؟ قال: لأنَّك تَعُدُّ الحِلمَ ذُلًّا، وتَستَعمِلُ السَّفَهَ أنفًا. قُلتُ: فبمَ أقوى على كظمِ الغَيظِ؟ قال: بصَبرِ النَّفسِ وحَبسِ الجَوارِحِ. قُلتُ: بمَ أجتَلبُ صَبرَ النَّفسِ وكَفَّ الجَوارِحِ؟ قال: بأن تَعقِلَ وتَعلَمَ أنَّ الحِلمَ عِزٌّ وزَينٌ، والسَّفَهَ ذُلٌّ وشَينٌ. قُلتُ: كيفَ أعقِلُ ذلك وقد حَلَّ بقَلبي ضِدُّه، فغَلَبَ عليه أنِّي إن صَبَرتُ على كظمِ الغَيظِ كان ذلك إذلالًا لي مِمَّن آذاني، ولَزِمَ قَلبي الأنَفُ أن يكونَ من شَتَمَني قد قَهَرَني وعَجَزتُ عن الانتِقامِ مِنه وإشفاءِ غَيظي؟ قال: إنَّما لزِمَ قَلبَك ذلك؛ لأنَّك لم تَعقِلْ ظاهرَ قُبحِ السَّفَهِ مِنك، وحُسنَ سَترِ الحِلمِ عليك، وجَزيلَ مَثوبةِ اللَّهِ لك في آخِرَتِك. قُلتُ: وبمَ أعرِفُ هاتَينِ الخَصلَتينِ؟ قال: أمَّا قُبحُ السَّفَهِ وزَوالُ حُسنٍ رَدِّ الحِلمِ فبما تَرى مِن أحوالِ شاتِمِك ومُؤذيك بالغَيظِ والغَضَبِ مِن لونِه، وفَتحِ عَينَيه وحُمرةِ وجهِه، وانقِلابِ عَينَيه وكَراهيةِ مَنظَرِه واستِخفافِه بنَفسِه، وزَوالِ السَّكينَةِ والوَقارِ عن بَدَنِه؛ فأنت تَبَيَّنُ ذلك منه ويراه كُلُّ عاقِلٍ مِن فاعِله، فإذا بُليتَ بذلك فاذكُر ما أعَدَّ اللَّهُ سُبحانَه وتعالى للكاظِمينَ الغَيظَ مِن إيجابِ مَحَبَّتِه وجَزيلِ ثَوابِه؛ فإنَّ الاشتِفاءَ ينقَضي سَريعًا ويبقى سوءٌ عاقِبتِه في آخِرتِك.
وكَظمُ غَيظِك يسكُنُ سَريعًا، ويُدَّخَرُ ثَوابُ اللَّهِ بذلك في مَعادِه، ولا ينبَغي للعاقِل أن يرضى بدَناءةِ نَفسِه وسوءِ رَغبَتِه بأن يكونَ مِمَّن تُرضيه اللَّمحةُ فيستَشرِقُ لها وجهُه فرَحًا، وتُغضِبُه الكَلمةُ فيستَطيرُ مِن أجلها سَفَهًا، حتَّى يُظلِمَ لها وجهُه، وتَضطَرِبَ لها فرائِصُه، وإنَّما هي كلمةٌ لم تَعْدُ قائِلَها إلى المَشتومِ بها، ولكِنَّها أزْرَت بقائِلها وأوجَبَت السَّفَهَ عليه في آخِرتِه، واستَخَفَّ بنَفسِه ولم تَضُرَّ من أسمَعَها في دينٍ ولا دُنيا، فقائِلُها –واللهِ- يستَحِقُّ أن يُرحَمَ؛ لِما قد أنزَلَ بنَفسِه ووَضعَ مِن قيمَتِه وقدْرِه وعَصى بها رَبَّه، وعلى المَشتومِ بها الشُّكرُ للهِ إذ لم يُسلِمْه اللَّهُ ولم يخذُلْه حتَّى يصيرَ مِثلَ حالِ شاتِمِه، مع ما قد صارَ له مِن التَّبِعةِ في رَقَبتِه يأخُذُها مِنه في يومِ فاقَتِه وفَقرِه)
[8032] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (10/ 96، 97). .
10- النَّظَرُ في سيرَةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والسَّلَفِ الصَّالحِ والاقتِداءُ بهم.
11- تَهذيبُ النَّفسِ بالعِبادةِ، ومِنها الصَّومُ؛ فعن أبي هرَيرَةَ رَضي اللَّهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((... والصِّيامُ جُنَّةٌ [8033] أي: سُترةٌ ومانعٌ من الرَّفَثِ والآثامِ، ومانعٌ أيضًا من النَّارِ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/ 30). ، وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ، فإن سابَّه أحَدٌ أو قاتَله، فليقُلْ إنِّي امرُؤٌ صائِمٌ)) [8034] أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151). . في رِوايةٍ:
((فليقُلْ: إنِّي صائِمٌ، مَرَّتَينِ)) [8035] البخاري (1894) ومسلم (1151). .
(فلا يَرُدَّ عليه بالمِثلِ، وليضبِطْ أعصابَه، ولْيكظِمْ غَيظَه "فليقُلْ" في نَفسِه كَيدًا لشَيطانِه، وبلسانِه رَدعًا لخَصمِهَ: "إنِّي صائِمٌ" فلن أرُدَّ عليك لئَلَّا أُعكِّرَ صَومي، "إنِّي صائِمٌ" سأكظِمُ غَيظي وأعفو عنك لأنال الأجرَ ومَثوبةَ الكاظِمينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ)
[8036] ((فتح المنعم شرح صحيح مسلم)) لموسى شاهين لاشين (5/ 18). .