ثامنًا: نماذِجُ من البُخلاءِ وأخبارِهم ونوادِرِهم
- عبدُ المَلِكِ بنُ زيادةِ اللهِ بنِ أبي مُضَرَ التَّميميُّ الحمانيُّ، أبو مروانَ الطُّبنيُّ المتوفَّى سنةَ 457 هجرية: عالمٌ باللُّغةِ والحديثِ، شاعِرٌ، أصلُه من "طُبنةَ" بالأندَلُسِ، وهو من أهلِ قُرطُبةَ، رحل إلى المَشرِقِ وحجَّ، وكتب عمَّن لَقِي من العُلَماءِ، وعاد فأملى كثيرًا من تقييداتِه، وقُتِل بقُرطُبةَ، قال ابنُ حيَّانَ: قتلَتْه جواريه لتقتيرِه عليهنَّ، وكان يوصَفُ بالبُخلِ المُفرِطِ
[1090] يُنظَر: ((الأعلام)) للزركلي (4/ 158). .
- كان أسَدُ بنُ جَهورٍ بخيلًا، وكان مكاشِفًا بالبُخلِ على الطَّعامِ جِدًّا، فكان نُدَماؤه يَلقَون لذلك جَهدًا، وكان يَحضُرُهم ويطالِبُهم بالجُلوسِ، ويحضِرُ كُلَّ لذيذٍ شَهيٍّ من الطَّعامِ، فإن ذاقه منهم ذائِقٌ استحَلَّ دمَه وعَجَّل عقوبتَه، وكان له ابنُ أختٍ يتجرَّأُ عليه ولا يفكِّرُ فيه، ويهتِكُ سِترَه إذا واكَلَه، فقُدِّمَت يومًا إليه دجاجةٌ، فحين أهوى ابنُ أخته إليها بيَدِه قَبَض أسدٌ عليها، وقال: (يا بارِدُ، يا سَيِّئَ العِشرةِ، يا قبيحَ الأدَبِ، أفي الدُّنيا أحَدٌ استحسَنَ إفسادَ هذه؟! فقال له ابنُ أخته: يا بخيلُ، يا لئيمُ، يا سيِّئَ الاختيارِ، فلأيٍّ تَصلُحُ؟ صنمًا للعبادةِ، أو سُرِّيَّةً يُتمتَّعُ بالنَّظَرِ إليها؟ شَهِد اللهُ أنَّني ما أدَعُها.
فتصابرا عليها، إلى أن قال له الفتى: فافتَدِها منِّي. قال: بماذا تحِبُّ حتى أفعَلَ؟ قال: ببَغْلتِك الفلانيَّةِ.
قال: قد فعَلْتُ، قال: بسَرْجِها ولِجامِها المحلَّى الفُلانيِّ. قال: قد فعَلْتُ. قال: ما أرفَعُ يدي عنها أوْ تحضِرَ ذلك. قال: يا غِلمانُ، أحضِروه. فأُحضِرَت البغلةُ والمركَبُ، فسَلَّمها الفتى إلى غلامِه وأخرجَها، ورفَع يدَه عن الدَّجاجةِ، وانقضى الطَّعامُ، وشيلَت المائدةُ، وقام أسَدٌ لينامَ فخرج ابنُ أختِه، وقال للطَّبَّاخِ: عليَّ بالفائِقةِ السَّاعةَ وبجميعِ ما شِلتُموه من المائدةِ. فأُحضِرَ إليه، وردَّ النُّدَماءَ وقعدوا، فأكلوا ذلك، وانصرَفوا وقد أكلَ الدَّجاجةَ والطَّعامَ أجمَعَ، وحصَلَت له البغلةُ والمركَبُ. قال: وإنَّما كان أسدٌ لا يُطيقُ أن يرى ذلك يؤكَلُ، فأمَّا إذا نحِّيَ مِن بَيْنِ يديه لم يَسألْ عنه ولم يطالِبْ برَدِّه!)
[1091] يُنظَر: ((البخلاء)) للخطيب البغدادي (ص: 165، 166). .
- وقال ابنُ حسَّان: (كان عندَنا رجلٌ مُقِلٌّ، وكان له أخٌ مُكثِرٌ، وكان مُفرِطَ البُخلِ. فقال له يومًا أخوه: ويحَك! أنا فقيرٌ مُعيلٌ، وأنت غنيٌّ خفيفُ الظَّهرِ، لا تعينُني على الزَّمانِ، ولا تواسيني ببعضِ مالِك، ولا تتفَرَّجُ لي عن شيءٍ؟! واللهِ ما رأيتُ قَطُّ ولا سَمِعتُ بأبخلَ منك! قال: ويحَك! ليس الأمرُ كما تظُنُّ، ولا المالُ كما تحسَبُ، ولا أنا كما تقولُ في البُخلِ ولا في اليُسرِ. واللهِ لو ملَكْتُ ألفَ ألفِ دِرهَمٍ لوهَبْتُ لك منها خمسَمائةِ ألفِ دِرهَمٍ! يا هؤلاء، فرجُلٌ يَهَبُ ضربةً واحدةً خمسَمائةِ ألفٍ يُقالُ له: بخيلٌ)
[1092] ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 252). ؟!
- وكان أبو الهُذَيلِ أهدى إلى مُوَيسٍ دجاجةً. وكانت دجاجتُه التي أهداها دونَ ما كان يتَّخَذُ لمُويسٍ، ولكِنَّه بكَرَمِه وبحُسنِ خُلُقِه أظهَرَ التَّعجُّبَ مِن سِمَنِها وطِيبِ لَحمِها، وكان يعرِفُه بالإمساكِ الشَّديدِ. فقال: (وكيف رأيتَ يا أبا عِمرانَ تلك الدَّجاجةَ؟؟ قال: كانت عجَبًا من العَجَبِ! فيقولُ: وتدري ما جِنسُها؟ وتدري ما سِنُّها؟ فإنَّ الدَّجاجةَ إنَّما تطيبُ بالجِنسِ والسِّنِّ. وتدري بأيِّ شيءٍ كنَّا نُسَمِّنُها؟ وفي أيِّ مكانٍ كنَّا نَعلِفُها؟ فلا يزالُ في هذا، والآخَرُ يضحَكُ ضَحِكًا نعرِفُه نحن، ولا يَعرِفُه أبو الهُذَيلِ!
وكان أبو الهُذَيلِ إذا ذكَروا دجاجةً قال: أين كانت يا أبا عِمرانَ من تلك الدَّجاجةِ؟! فإن ذكَروا بَطَّةً أو عَناقًا أو جَزروًا أو بَقَرةً قال: فأين كانت هذه الجَزُورُ في الجُزُرِ من تلك الدَّجاجةِ في الدَّجاجِ؟! وإن استَسْمَنَ أبو الهُذَيلِ شيئًا من الطَّيرِ والبهائمِ قال: لا واللهِ، ولا تلك الدَّجاجةُ! وإن ذكَروا ميلادَ شيءٍ أو قدومَ إنسانٍ قال: كان ذلك بعدَ أن أهديتُها لك بسَنةٍ، وما كان بَيْنَ قدومِ فلانٍ وبَينَ البعثةِ بتلك الدَّجاجةِ إلَّا يومٌ! وكانت مثَلًا في كُلِّ شيءٍ، وتاريخًا في كُلِّ شيءٍ)
[1093] ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 179). !
- وقال الأصمَعيُّ أو غيرُه: (حمل بعضُ النَّاسِ مدينيًّا على بِرذَونٍ
[1094] البِرْذَونُ: الدَّابَّةُ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 32). ، فأقامه على الأريِّ
[1095] الأرِيُّ: هنا المَعلَفُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 42). ، فانتبه من نَومِه فوجَدَه يعتَلِفُ، ثمَّ نام فانتَبَه فوَجَده يعتَلِفُ، فصاح بغلامِه: يا ابنَ أُمَّ، بِعْه وإلَّا فهَبْه، وإلَّا فرُدَّه، وإلَّا فاذبَحْه؛ أنامُ ولا ينامُ، يذهَبُ بحُرِّ مالي، ما أراد إلَّا استِئصالي)
[1096] ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 175). !
- وقال
الجاحِظُ: (صَحِبَني محفوظٌ النَّقَّاشُ من مَسجِدِ الجامعِ ليلًا، فلمَّا صِرتُ قُربَ منزلِه، وكان منزِلُه أقرَبَ إلى مسجدِ الجامعِ مِن منزلي، سألني أن أبيتَ عِندَه، وقال: أين تذهَبُ في هذا المطَرِ والبردِ؟! ومنزلي مَنزِلُك، وأنت في ظُلمةٍ وليس معك نارٌ، وعندي لِبَأٌ
[1097] اللِّبَأُ: أوَّلُ اللَّبَنِ في النِّتاجِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 278). لم يَرَ النَّاسُ مِثْلَه، وتَمرٌ ناهيك به جودةً لا تصلُحُ إلَّا لك! فمِلتُ معه، فأبطأ ساعةً ثم جاءني بجَأمِ لِبَأٍ وطَبَقِ تمرٍ، فلمَّا مدَدْتُ قال: يا أبا عُثمانَ، إنَّه لِبَأٌ وغِلَظُه، وهو اللَّيلُ ورُكودُه! ثمَّ ليلةُ مَطَرٍ ورطوبةٍ، وأنت رجُلٌ قد طعَنْتَ في السِّنِّ، ولم تَزَلْ تشكو من الفالِجِ طرَفًا، وما زال الغليلُ يُسرِعُ إليك، وأنت في الأصلِ لستَ بصاحِبِ عَشاءٍ! فإنْ أكَلْتَ اللِّبَأَ ولم تبالِغْ كنتَ لا آكِلًا ولا تارِكًا، وحرَّشْتَ طِباعَك، ثمَّ قطَعْتَ الأكلَ أشهى ما كان إليك!
وإن بالَغْتَ بِتْنا في ليلةِ سُوءٍ من الاهتمامِ بأمرِك، ولم نُعِدَّ لك نبيذًا ولا عَسَلًا! وإنَّما قلتُ هذا الكلامَ؛ لئلَّا تقولَ غدًا: كان وكان! واللهِ قد وقعتُ بَيْنَ نابَيْ أسَدٍ؛ لأنِّي لو لم أجِئْك به وقد ذكَرْتُه لك، قُلتَ: بَخِل به وبدا له فيه، وإن جِئتُ به ولم أحَذِّرْك منه ولم أذَكِّرْك كُلَّ ما عليك فيه، قُلتَ: لم يُشفِقْ عَلَيَّ ولم ينصَحْ؛ فقد بَرِئتُ إليك من الأمرَينِ جميعًا؛ فإن شئتَ فأَكلةٌ وموتةٌ، وإن شِئتَ فبعضُ الاحتمالِ، ونومٌ على سلامةٍ! فما ضَحِكتُ قَطُّ كضَحِكي تلك اللَّيلةَ! ولقد أكَلْتُه جميعًا فما هضَمَه إلَّا الضَّحِكُ والنَّشاطُ والسُّرورُ، فيما أظُنُّ
[1098] ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 165). .
- قال أحَدُ البُخلاءِ وهو يوصي ابنَه: (أي بُنَيَّ، إنَّ إنفاقَ القراريطِ يَفتَحُ عليك أبوابَ الدَّوانيقِ، وإنفاقَ الدَّوانيقِ يفتَحُ عليك أبوابَ الدَّراهِمِ، وإنفاقَ الدَّراهمِ يفتحُ عليك أبوابَ الدَّنانيرِ. والعَشَراتُ تفتَحُ عليك أبوابَ المِئينَ، والمِئونَ تفتَحُ عليك أبوابَ الألوفِ، حتَّى يأتَي ذلك على الفَرعِ والأصلِ، ويَطمِسَ على العينِ والأثَرِ، ويحتَمِلَ القليلَ والكثيرَ)
[1099] يُنظَر: ((البخلاء)) للجاحظ (143). !
- وقال المكِّيُّ: (كان لأبي عَمٌّ يُقالُ له: سُلَيمانُ الكَثريُّ، سمِّيَ بذلك لكثرةِ مالِه، وكان يُقَرِّبُني وأنا صبيٌّ إلى أن بلَغْتُ، ولم يَهَبْ لي مع ذلك التَّقريبِ شيئًا قَطُّ، وكان قد جاوز في ذلك حدَّ البُخلاءِ. فدخلتُ عليه يومًا وإذا قُدَّامَه قِطَعُ دارَصينيٍّ
[1100] الدَّارصِينيُّ: قِرفةٌ سيلانيَّةٌ. يُنظَر: ((تكملة المعاجم العربية)) لدوزي (4/ 271). لا تَسوى قيراطًا، فلمَّا نال حاجتَه منها مدَدْتُ يدي لآخُذَ قِطعةً، فلمَّا نظَر إليَّ قبضْتُ يدي، فقال: لا تنقَبِضْ، وانبَسِطْ واسترسِلْ، ولْيَحسُنْ ظَنُّك؛ فإنَّ حالَك عندي على ما تحِبُّ، فخُذْه كُلَّه؛ فهو لك بزَوْبَرِه وبحذافيرِه، وهو لك جميعًا! نفسي بذلك سَخِيَّةٌ، واللهُ يعلَمُ أني مسرورٌ بما وصَل إليك من الخيرِ؛ فتركتُه بَيْنَ يَدِه، وقُمتُ من عندِه وجعَلْتُ وجهي كما أنا إلى العراقِ، فما رأيتُه وما رآني حتَّى مات!
- واشترى رجُلٌ من البُخلاءِ دارًا وانتقل إليها، فوقَف ببابِه سائِلٌ، فقال له: فتَح اللهُ عليك. ثمَّ وقف ثانٍ، فقال له مِثلَ ذلك، ثمَّ وقف ثالثٌ، فقال له مِثلَ ذلك، ثم التفَت إلى ابنتِه، فقال لها: ما أكثَرَ السُّؤَّالَ في هذا المكانِ! قالت: يا أبتِ، ما دُمتَ مُستَمسِكًا لهم بهذه الكَلِمةِ، فما تُبالِي كَثُروا أم قَلُّوا
[1101] يُنظَر: ((المستطرف)) للأبشيهي (183). !
- وقال دِعبِلٌ: كُنَّا عِندَ سَهلِ بن هارونَ، فلم نبرَحْ حتى كاد يموتُ من الجوعِ، فقال: وَيلَك يا غلامُ! آتِنا غداءَنا، فأُتيَ بقَصعةٍ فيها ديكٌ مطبوخٌ تحتَه ثَريدٌ قليلٌ، فتأمَّل الدِّيكَ فرآه بغيرِ رأسٍ، فقال لغُلامِه: وأين الرَّأسُ؟ فقال: رميتُه، فقال: واللهِ إني لأكرَهُ من يرمي برِجلِه، فكيف برأسِه؟! ويحَك! أمَا عَلِمتَ أنَّ الرَّأسَ رئيسُ الأعضاءِ، ومنه يَصيحُ الدِّيكُ؟ ولولا صوتُه ما أُريدَ، وفيه فَرْقُه
[1102] فَرقُ الرَّأسِ: ما بَيْنَ الجَبينِ إلى الدَّائرةِ. يُنظَر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (6/384)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/301). الذي يُتبَرَّكُ به، وعينُه التي يُضرَبُ بها المثَلُ، فيُقالُ: شرابٌ كعَينِ الدِّيكِ، ودماغُه عجيبٌ لوَجعِ الكُليةِ، ولم نَرَ عَظمًا أهَشَّ تحتَ الأسنانِ من عَظمِ رأسِه، وهَبْك ظنَنْتَ أنِّي لا آكُلُه، أمَا قُلتَ: عندَه من يأكُلُه؟! انظُرْ في أيِّ مكانٍ رميتَه فأْتِني به. فقال: واللهِ لا أدري أين رميتُه؟ فقال: ولكنِّي أنا أعرِفُ أين رميتَه؟ رَميتَه في بَطنِك، اللهُ حَسْبُك
[1103] يُنظَر: ((المستطرف)) للأبشيهي (182). !
- وقال ابنُ مجاهِدٍ المقرئُ شِعرًا يهجو فيه صديقًا له، ويذُمُّه على شِدَّةِ بُخلِه وحِرصِه:
لنا صاحِبٌ من أبرَعِ النَّاسِ في البُخلِ
وأفضَلِهم فيه وليس بذي فَضلِ
دعاني كما يدعو الصَّديقُ صديقَه
فجئتُ كما يأتي إلى مِثلِه مِثلي
فلمَّا جلَسْنا للغَداءِ رأيتُه
يرى أنَّما من بعضِ أعضائِه أكْلي
ويَغتاظُ أحيانًا ويَشتِمُ عَبدَه
وأعلَمُ أنَّ الغيظَ والشَّتمَ مِن أجْلي
أمُدُّ يدي سِرًّا لآكُلَ لُقمةً
فيَلحَظُني شَزْرًا
[1104] يقُالُ: نظَر إليه شَزْرًا: وهو نظَرُ الغَضبانِ بمُؤخِرِ عَينِه. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 164). فأعبَثُ بالبَقلِ
إلى أن جَنَت كفِّي لحَيْني جنايةً
وذلك أنَّ الجوعَ أعدَمَني عَقْلي
فأهوَتْ يميني نحوَ رِجلِ دَجاجةٍ
فجُرَّت كما جَرَّت يَدِي رِجْلَها رِجْلي
[1105] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 98). .