سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ التَّسَرُّعِ والتَّهَوُّرِ والعَجَلةِ
1- التَّهَوُّرُ والتَّسَرُّعُ في القراراتِ الفَرديَّةِ والشَّخصيَّةِ.
2- التَّهَوُّرُ والتَّسَرُّعُ في القراراتِ الأُسَريَّةِ، مِثلُ إيقاعِ الطَّلاقِ بسَبَبِ الانفعالِ والغَضَبِ.
3- التَّسَرُّعُ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ بلا حِكمةٍ، ودونَ مُراعاةِ الضَّوابطِ الشَّرعيَّةِ، وربَّما أدَّى ذلك إلى مفاسِدَ أكبَرَ من مفسَدةِ المُنكَرِ الذي يريدُ تغييرَه.
قال
ابنُ بازٍ: (الواجِبُ تشجيعُ الشَّبابِ على الخيرِ، وشُكرُهم على نشاطِهم في الخيرِ، مع توجيهِهم إلى الرِّفقِ والحِكمةِ وعَدَمِ العَجَلةِ في الأمورِ؛ لأنَّ الشَّبابَ وغيرَ الشَّبابِ يكونُ عندَهم زيادةُ غَيرةٍ فيقعون فيما لا ينبغي، فالواجِبُ توجيهُ الشَّيخِ والشَّابِّ إلى أن يتثبَّتَ في الأمورِ وأن يتحَرَّى الحَقَّ في كُلِّ أعمالِه حتَّى تقَعَ الأمورُ منه في موقِعِها. وقد رأى رجُلٌ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ المُنكَراتِ فحمَلَتْه الغَيرةُ للهِ على أن قال لصاحِبِ المُنكَرِ:
((واللَّهِ لا يغفِرُ اللَّهُ لك! فقال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: مَن ذا الذي يتألَّى علَيَّ ألَّا أغفِرَ لفلانٍ؟! إنِّي قد غفَرْتُ له، وأحبَطْتُ عمَلَك)) [1546] أخرجه مسلم (2621) من حديثِ جندَبِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حدَّث: ((أنَّ رجُلًا قال: واللهِ لا يغفِرُ اللهُ لفُلانٍ. وإنَّ اللهَ تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألَّا أغفِرَ لفُلانٍ؟! فإنِّي قد غفَرْتُ لفُلانٍ، وأحبَطْتُ عَمَلَك)). ، وما ذلك إلَّا لأنَّه تجاوَز الحَدَّ الشَّرعيَّ بجَزمِه بأنَّ اللَّهَ لا يغفِرُ لصاحِبِ هذا المُنكَرِ، وذلك يوجِبُ على المُؤمِنِ التَّثبُّتَ والحذَرَ من خَطَرِ اللِّسانِ وشِدَّةِ الغَيرةِ، والمقصودُ أنَّ الشَّابَّ والشَّيخَ وغيرَهما كلُّهم عليهم واجِبُ إنكارِ المُنكَرِ، لكِنْ بالرِّفقِ والحِكمةِ والتَّقيُّدِ بنُصوصِ الشَّرعِ، فلا يزيدون على الحَدِّ الشَّرعيِّ فيكونون غُلاةً كالخوارجِ والمعتزلةِ ومَن سلك سبيلَهم، ولا ينقُصون فيكونون جُفاةً متساهِلين بأمرِ اللَّهِ. ولكِنْ يتحَرَّون الوَسَطَ في كلامِهم وإنكارِهم وتحرِّيهم للأسبابِ التي تجعَلُ قَولَهم مقبولًا ومؤثِّرًا، ويبتَعِدون عن الوسائِلِ التي قد تُنَفِّرُ مِن قَبولِ قولِهم ولا ينتَفِعُ بهم المجتمَعُ؛ لقولِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ:
وَلَوْ كُنْتُ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] الآية، وقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ
[1547] أخرجه مسلم (2594) من حديثِ عائشةَ رَضيَ الله عنها. : «إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلَّا شانَه»)
[1548] يُنظَر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 51، 52). .
4- التَّسَرُّعُ بإنزالِ العُقوبةِ بمن خالَفه من الزَّوجةِ أو الأولادِ دونَ رَويَّةٍ أو تمَهُّلٍ، ورُبَّما تهَوَّر فيها وجاوَز الحَدَّ.
5- التَّهَوُّرُ في التَّكفيرِ والتَّسَرُّعُ في التَّبديعِ دونَ عِلمٍ وبَيِّنةٍ، وقَبلَ النَّظَرِ في توَفُّرِ الشُّروطِ وانتفاءِ الموانِعِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (فليس لأحَدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا من المُسلِمين وإنْ أخطأ وغَلِط، حتَّى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتَبِينَ له المحَجَّةُ، ومَن ثَبَت إيمانُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يُزالُ إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)
[1549] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/ 501(. .
6- التَّسَرُّعُ في طَلَبِ العِلمِ، وقد تضَمَّنَ قَولُه تعالى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ[القيامة: 16] التَّأنِّيَ والتَّثَبُّتَ في تلقِّي العِلمِ، وألَّا يحمِلَ السَّامِعَ شِدَّةُ محبَّتِه وحِرصِه وطَلَبِه على مبادرةِ المُعَلِّمِ بالأخذِ قبلَ فراغِه من كلامِه، بل من الآدابِ التي أدَّب اللَّهُ بها نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمْرُه بتركِ الاستعجالِ على تلقِّي الوَحيِ، بل يصبِرُ إلى أن يَفرُغَ جبريلُ من قراءتِه، ثمَّ يقرؤُه بعدَ فراغِه عليه، فهكذا ينبغي لطالِبِ العِلمِ ولسامِعِه أن يصبِرَ على مُعَلِّمِه حتَّى يقضيَ كلامَه، ثمَّ يعيدَه عليه، أو يسألَ عمَّا أشكَلَ عليه منه، ولا يبادِرَه قبلَ فَراغِه
[1550] يُنظَر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 159). ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا تسرَّع في تلقِّي العِلمِ فرُبَّما يتلقَّاه على غيرِ ما ألقاه إليه شَيخُه
[1551] يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/393). .
7- العَجَلةُ والتَّسَرُّعُ في التَّصدُّرِ قَبلَ التَّأهُّلِ؛ قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (تفَقَّهوا قبل أن تُسَوَّدوا)
[1552] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزمِ قبل حديث (73)، وأخرجه موصولًا الدارمي (250)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1669). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (1/199). .
8- التَّعَجُّلُ في طَلَبِ الرِّزقِ والحُصولِ على الأموالِ، ولا يخفى خَطَرُ ذلك؛ فإنَّ تعَجُّلَ الرِّزقِ قد يجعَلُ الإنسانَ يطلُبُه من الحرامِ، مع أنَّ الرِّزقَ أمرٌ مُقَدَّرٌ؛ فعن
جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ [1553] أي: أحسِنوا فيه بأن تأتوه من وَجهِه الشَّرعيِّ، واكتَسِبوا المالَ بوَجهٍ جميلٍ. يُنظَر: ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (2/ 138)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (10/ 3337). ؛ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رِزقَها وإن أبطَأَ عنها، فاتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، خُذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُمَ)) [1554] أخرجه من طرُقٍ: ابن ماجه (2144) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (556)، وابن حبان (3239). صحَّحَه ابنُ حِبَّان، والحاكِمُ على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2135)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2144)، وحسَّنه ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (24/435). .
9- استعجالُ المُؤمِنين لنَصرِ اللَّهِ؛ فعن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال:
((شكَونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو متوَسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبةِ، قُلْنا له: ألَا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألَا تَدْعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجلُ فيمَنْ قبلَكم يُحفَرُ له في الأرْضِ، فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثْنتَينِ، وما يصُدُّه ذلك عن دِينِه، ويُمشَطُ بأمْشاطِ الحَديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يصُدُّهُ ذلك عن دِينِه، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يَخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئْبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلونَ)) [1555] رواه البخاري (3612). .
10- الاستِعجالُ في الدَّعوةِ وطَلَبُ ثَمَرتِها من استجابةِ المدعوِّين وحُصولِ التَّغييرِ ما بَيْنَ يومٍ وليلةٍ.
سُئِل
ابنُ بازٍ: (ما هي نصيحتُكم للدُّعاةِ الذين يَستعجِلون قَطْفَ ثمارِ الدَّعوةِ ونتائجِها؟
فقال: (الواجِبُ على الدُّعاةِ التَّحمُّلُ والصَّبرُ وعَدَمُ العَجَلةِ، حتَّى يُفَقِّهوا النَّاسَ وحتَّى يُرشِدوا النَّاسَ، فيَعلَموا ما أوجب اللَّهُ عليهم وما حَرَّم عليهم عن بصيرةٍ، الواجِبُ التَّأنِّي والتَّثبُّتُ حتى يفقَهَ العامِّيُّ، ويفقَهَ المتعَلِّمُ ما قيل له، ولا مانِعَ من تَردادِ الكلامِ وإيضاحِه بأنواعِ العباراتِ التي توضِّحُ للسَّائِلِ أو للحاضِرين مُرادَ المعَلِّمِ ومرادَ المُرشِدِ؛ لأنَّ الحاضِرين قد يكونُ فيهم من لا يفهَمُ لُغةَ المعَلِّمِ ولغةَ المُرشِدِ، فيُكَرِّرُ العباراتِ ويوضِّحُها بالعباراتِ التي يفهمونَها والألفاظِ التي يفهمونَها؛ حتَّى يكوَن البيانُ كامِلًا، وحتى تقومَ الحُجَّةُ، ولا بدَّ من الصَّبرِ، كما قال اللَّهُ تعالى:
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، وقال سُبحانَه:
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[النحل: 127] ، واللَّهُ وليُّ التَّوفيقِ)
[1556] يُنظَر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/ 237(. .
11- التَّسَرُّعُ في الفتوى دونَ تأنٍّ أو تثَبُّتٍ. عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، قال: (أدركتُ عِشرين ومائةً من الأنصارِ من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما منهم رجلٌ يُسأَلُ عن شيءٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه)
[1557] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (58)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (6/110)، والدارمي في ((سننه)) (135). . وقال أبو حُصَينٍ عُثمانُ بنُ عاصِمٍ: (إنَّ أحدَهم ليُفتي في المسألةِ، ولو ورَدَت على عُمَرَ بنِ الخطَّابِ لجَمَع لها أهلَ بَدرٍ!)
[1558] يُنظَر: ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مُفلِح (2/ 61). . وقيل: أسرَعُهم إلى الفُتيا أقلُّهم عِلمًا، وأشَدُّهم دَفعًا لها أورَعُهم
[1559] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 70). .
12- التَّهَوُّرُ في قيادةِ السَّيَّاراتِ بتجاوُزِ السُّرعةِ المسموحِ بها على الطُّرُقِ، أو قَطعِ الإشاراتِ، إلى غيرِ ذلك.
13- التَّسَرُّعُ بإنهاءِ العَلاقاتِ وقَطعِ الصَّداقاتِ وإعلانِ الخُصوماتِ.