خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ سُوءِ الجِوارِ
1- الزِّنا بزَوجةِ الجارِ، وهو من أشنَعِ وأقبَحِ صُوَرِ سُوءِ الجِوارِ؛ عن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عِندَ اللهِ؟ قال:
((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقَك. قلتُ: إنَّ ذلك لعظيمٌ! قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: وأن تَقتُلَ ولَدَك تخافُ أن يَطعَمَ معك. قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ حليلةَ جارِك)) [4021] أخرجه البخاري (4477) واللفظ له، ومسلم (86). .
قال
ابنُ الجوزيِّ: قولُه:
((أن تُزانيَ حليلةَ جارِك)) تُزاني: تُفاعِلُ، مِنَ الزِّنا. والحليلةُ واحِدةُ الحلائِلِ: وهنَّ الأزواجُ، ولَمَّا كان الشِّركُ أعظَمَ الذُّنوبِ بدأ به؛ لأنَّه جَحدٌ للتَّوحيدِ، ثمَّ ثنَّاه بالقتلِ؛ لأنَّه محوٌ للمُوجِدِ، ثمَّ ثلَّثَ بالزِّنا؛ لأنَّه سَبَبٌ لاختلاطِ الفَرشِ والأنسابِ، وخصَّ حليلةَ الجارِ؛ لأنَّ ذنبَ الزِّنا بها يتفاقَمُ بهتكِ حُرمةِ الجارِ، وقد كان العرَبُ يتشَدَّدون في حِفظِ ذمَّةِ الجارِ، ويتمادَحون بحِفظِ امرأةِ الجارِ
[4022] يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (1/293). .
2- سُوءُ الجِوارِ الذي يَصِلُ إلى قَتلِ الجارِ:عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يَقتُلَ الرَّجُلُ جارَه وأخاه وأباه)) [4023] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (118). حسَّنه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (87). والحديثُ رُوي بلفظِ: ((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ لهَرجًا، قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما الهَرْجُ؟ قال: القَتلُ ... ليس بقَتلِ المُشرِكين، ولكِنْ يَقتُلُ بعضُكم بعضًا، حتى يقتُلَ الرَّجُلُ جارَه وابنَ عَمِّه وذا قرابتِه)). أخرجه ابن ماجه (3959) واللفظ له، وأحمد (19636) من حديثِ أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3959)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (32/ 409). .
(فقد جَعَل دَمَ الجارِ مُساويًا لدَمِ الأخِ والأبِ، وأقرَبُ ما يكونُ إلى الإنسانِ عَضُدُه وأصلُه)
[4024] يُنظَر: ((وصايا الرسول)) (ص: 328). .
3- سُوءُ الجِوارِ بإطلاقِ اللِّسانِ بالأذيَّةِ له:عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ من كثرةِ صلاتِها وصيامِها وصدَقَتِها، غيرَ أنَّها تؤذي جيرانَها بلِسانِها، قال: هي في النَّارِ)) [4025] أخرجه أحمد (9675) واللفظ له، وابن حبان (5764)، والحاكم (7304). صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2560)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/321). .
4- سُوءُ الجِوارِ بتصَرُّفِ الإنسانِ في مِلكِه بما يؤذي جارَه؛ قال
ابنُ قُدامةَ: (من كانت له أرضٌ لها ماءٌ لا طريقَ له إلَّا في أرضِ جارِه، وفي إجرائِه ضَرَرٌ بجارِه، لم يَجُزْ إلَّا بإذنِه؛ لأنَّه لا يملِكُ الإضرارَ به بالتَّصرُّفِ في مِلكِه بغيرِ إذنِه)
[4026] ((الكافي)) (2/119). .
5- سُوءُ الجِوارِ بالحَسَدِ للجارِ وتمنِّي زوالِ النِّعمةِ عنه.
6- سُوءُ الجِوارِ بالاحتقارِ والسُّخريةِ من الجارِ، وقد حرَّم اللهُ سُبحانه السُّخريةَ بأشكالِها كافَّةً، وخاطب في ذلك الرِّجالَ والنِّساءَ، ويتعاظَمُ التَّحريمُ في حَقِّ الجارِ؛ لعِظَمِ حَقِّه؛ قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] .
7- سُوءُ الجِوارِ بكَشفِ أسرارِ الجارِ التي ائتَمَن جارَه عليها، وفيه من تضييعِ الأمانةِ، وهَتكِ السِّترِ، وكُلُّ ذلك ممَّا نهى الدِّينُ عنه وقَبَّح فِعلَه، كما أنَّه خُلُقٌ من أخلاقِ اللِّئامِ؛ فالكِرامُ يحفَظون أسرارَ جيرانِهم، ويحافِظون على سَترِهم، سواءً في غَيبتِهم أو حُضورِهم.
ذكر
ابنُ عبدِ البَرِّ أنَّ
مالِكَ بنَ أنَسٍ مَرَّ بقَينةٍ تُغَنِّي شِعرًا:
أنتِ أختي وأنتِ حُرمةُ جاري
وحقيقٌ عَلَيَّ حِفظُ الجِوارِ
إنَّ للجارِ إن تغيَّبَ غَيبًا
حافِظًا للمَغيبِ والأسرارِ
ما أُبالي أكان للبابِ سِترٌ
مُسبَلٌ أم بَقِيَ بغيرِ سِتارِ
فقال
مالكٌ: عَلِّموا أهليكم هذا ونحوَه
[4027] يُنظَر: ((بهجة المجالس)) (1/289، 290). .
8- سوءُ الجارِ بتتبُّعِ عَثَراتِ الجارِ، والفَرَحِ بزلَّاتِه، والواجِبُ على الجارِ أن يستُرَ جارَه، لا أن يَفرَحَ بزلَّتِه ويسعى في فَضحِه أو ابتزازِه. عن
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المُسلِمُ أخو المُسلِمِ لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فَرَّج عن مُسلِمٍ كُربةً فَرَّج اللهُ عنه كُربةً مِن كُرُباتِ يومِ القيامةِ، ومَن ستَر مُسلِمًا ستَرَه اللهُ يومَ القيامةِ)) [4028] أخرجه البخاري (2442) واللفظ له، ومسلم (2580). .
9- سُوءُ الجِوارِ بالنَّظَرِ إلى محارِمِ جارِه والتَّطلُّعِ إليهنَّ، وهذه الخَصلةُ القبيحةُ كانت العَرَبُ في الجاهليَّةِ تأنَفُ منها، وتفخَرُ بالتَّرفُّعِ عنها.
يقولُ عنترةُ:
وأغُضُّ طَرْفي إن بَدَت لي جارتي
حتَّى يواري جارتي مأواها
[4029] ((ديوان عنترة بن شداد)) (ص: 117). .
وقد رُوِيَ أنَّ الأحنَفَ بنَ قَيسٍ صَعِد فوقَ بيتِه، فأشرَفَ على جارهِ، فقال: (سَوءةٌ سَوءةٌ! دخَلْتُ على جاري بغيرِ إذنٍ! لا صَعِدتُ فوقَ هذا البيتِ أبدًا)
[4030] ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (355). .
10- سُوءُ الجِوارِ بإيصالِ أنواعِ المضايقاتِ المختَلِفةِ إلى الجارِ خصوصًا في المدُنِ، ومن صُوَرِ ذلك في الوَقتِ الحاضِرِ: محلَّاتُ العَمَلِ الذي يتطلَّبُ حَركةً شديدةً، مِثلُ الوِرَشِ تهتَزُّ منه الحيطانُ وتتأثَّرُ بسبَبِه، فمِثلُ هذا يُمنَعُ من إيذاءِ الجارِ، وإذا حدث تصدُّعٌ أو خرابٌ بسَبَبِه كان ضامنًا، أو البيوتِ، وكذلك الحالُ في المحلَّاتِ التي تحدِثُ ضجيجًا وقلَقًا للسُّكانِ، أو في جِوارِ المُستَشفياتِ أو المدارِسِ، وما يتطَلَّبُ الهدوءَ والرَّاحةَ، وكذلك صاحِبُ المذياعِ ونحوُه الذي يرفَعُ صَوتَه أكثَرَ من حدودِ بيتِه، وهؤلاء الذين يأتون إلى بيوتِ أصدقائِهم بسيَّاراتِهم وبدَلًا من أن ينزِلَ ويَطرُقَ عليه البابَ، فإنَّه يُطلِقُ صَوتَ مُنَبِّهِ السَّيَّارةِ ولا يبالي بإزعاجِ جيرانِهم، وقد يكونُ هناك المريضُ والنَّائِمُ، بل والطِّفلُ الصَّغيرُ؛ كُلُّ ذلك ممَّا ينبغي مراعاتُه في عمومِ حُقوقِ الجارِ، وممَّا يدخُلُ في حَدِّ الإلزامِ، سواءٌ كان أدبيًّا أو قضائيًّا، ممَّا تميَّز به خاصَّةً حَقُّ الجارِ
[4031] ((وصايا الرسول)) (ص: 337). .
ولقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يَحرِصون على عَدَمِ إيصالِ الأذى للجارِ ولا إلى ما يملِكُه، فالمُسلِمُ أحَقُّ بهذا منهم. عن الحَسَنِ قال: (كان الرَّجُلُ في الجاهليَّةِ يقولُ: واللهِ لا يؤذَى كَلبُ جاري)
[4032] ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (332). .