سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ نُكْرانِ الجَميلِ
لنُكْرانِ الجَميلِ صُوَرٌ عديدةٌ ومظاهِرُ كثيرةٌ؛ منها:
1- نُكرانُ العبدِ جميلَ اللهِ عزَّ وجَلَّ عليه، وجُحودُ نِعَمِه ونِسيانُها، وهو أقبَحُ صُوَرِ نُكْرانِ الجَميلِ؛ ولهذا استحَقَّ صاحِبُه أن ينساه اللهُ يومَ القيامةِ.
عن أبي هُرَيرةَ قال: قالوا: يا رسولَ اللهِ هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ قال:
((هل تُضارُّونَ [6953] رُويَ (تُضارُّون) بتشديدِ الرَّاءِ وبتخفيفِها، ومعنى المشَدَّدِ: هل تُضارُّون غيرَكم في حالةِ الرُّؤيةِ بزحمةٍ أو مخالفةٍ في الرُّؤيةِ أو غيرِها؛ لخفائِه، كما تفعَلون أوَّلَ ليلةٍ من الشَّهرِ، ومعنى المخَفَّفِ: هل يَلحَقُكم في رؤيتِه ضَيرٌ، وهو الضَّرَرُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/ 18). في رُؤيةِ الشَّمسِ في الظَّهيرةِ، ليست في سَحابةٍ؟ قالوا: لا، قال: فهل تُضارُّونَ في رُؤيةِ القَمَرِ لَيلةَ البَدرِ، ليس في سَحابةٍ؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نَفسي بيدِه لا تُضارُّونَ في رُؤيةِ رَبِّكم إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤيةِ أحَدِهما، قال: فيَلقى العَبدَ، فيَقولُ: أيْ فُلُ، ألمْ أُكرِمْك وأُسَوِّدْك، وأزَوِّجْك وأُسخِّرْ لَك الخَيلَ والإبلَ، وأذَرْك تَرأَسُ وتَرْبعُ [6954] أي: ألم أجعَلْك رئيسًا مُطاعًا، أَذَرْك: أي: أدَعْك. ترأَسُ: أي: تكونُ رئيسًا على قومِك. وتَرْبَعُ: أي: تأخُذُ المِرباعَ الذي كانت ملوكُ الجاهليَّةِ تأخُذُه من الغنيمةِ، وهو رُبعُها. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 103)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3529). ؟ فيَقولُ: بَلى، قال: فيَقولُ: أفَظنَنتَ أنَّك مُلاقِيَّ؟ فيَقولُ: لا، فيَقولُ: فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني، ثُمَّ يَلقى الثَّانيَ فيَقولُ: أيْ فُلُ، ألمْ أُكرِمْك وأُسَوِّدْك، وأزَوِّجْك وأُسخِّرْ لَك الخَيلَ والإبلَ، وأذَرْك تَرأَسُ وتَرْبعُ؟ فيَقولُ: بَلى أيْ رَبِّ، فيَقولُ: أفَظنَنتَ أنَّك مُلاقِيَّ؟ فيَقولُ: لا، فيَقولُ: فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني)) [6955] أخرجه مسلم (2968) مطولًا. .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (فاليومَ أنساك كما نسيتَني: فهذا يقتضي أنَّه لا يَذكُرُه كما يَذكُرُ أهلَ طاعتِه)
[6956] ((مجموع الفتاوى)) (13/135). .
2- كُفرانُ نعمةِ اللهِ على العبدِ في الدُّنيا بتَركِ شُكرِها ومَنعِ الحَقِّ الذي أوجبه اللهُ فيها، كما وقع لأصحابِ الجنَّةِ الذين ذكَرَهم اللهُ في القُرآنِ؛ قال تعالى:
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم: 17] .
قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: (كان أبوهم قد خلَّف لهم هذه الجنَّةَ، وكانوا من أهلِ الكِتابِ، وقد كان أبوهم يسيرُ فيها سيرةً حسنةً، فكان ما استغَلَّه منها يرُدُّ فيها ما يحتاجُ إليها، ويدَّخِرُ لعيالِه قوتَ سَنَتِهم، ويتصَدَّقُ بالفاضِلِ، فلمَّا مات وَرِثَه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمَقَ؛ إذ كان يَصرِفُ من هذه شيئًا للفُقَراءِ! ولو أنَّا منَعْناهم لتوفَّرَ ذلك علينا، فلمَّا عزَموا على ذلك عُوقِبوا بنقيضِ قَصْدِهم، فأذهَبَ اللهُ ما بأيديهم بالكُلِّيَّةِ: رأسُ المالِ، والرِّبحُ، والصَّدَقةُ، فلم يَبْقَ لهم شيءٌ)
[6957] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/197). .
3- نُكرانُ الأبناءِ جميلَ الوالِدَينِ أو أحَدِهما في التَّربيةِ وحُسنِ الرِّعايةِ؛ ولذلك كانوا يُحَذِّرون من صُحبةِ عاقٍّ والِدَيه، الذي قابَل إحسانَهم بالإساءةِ والعُقوقِ، ويعتَقِدون أنَّه غيرُ مأمونٍ. قال
عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ لابنِ مِهرانَ: (لا تَصحَبَنَّ عاقًّا؛ فإنَّه لن يَقبَلَك وقد عَقَّ والِدَيه)
[6958] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) للأبشيهي (ص: 259). .
و (إنَّ مِن سُوءِ الطَّالِعِ أن يَعُقَّ الولَدُ أبَوَيه، فيقابِلَ الحَسَنةَ بالسَّيِّئةِ، والنِّعَمَ والفَضلَ بالجُحودِ والكُفرانِ، والعِنايةَ بالتَّركِ والإهمالِ، إنَّ في هذا لبَوارًا وخُسرانًا في الدُّنيا، وغَضَبًا من اللهِ وحِرمانًا من رِضوانِه في الآخرةِ)
[6959] ((التفسير الوسيط)) لمجموعة من العلماء (5/746). .
4- نُكرانُ الزَّوجةِ مَعروفَ زَوجِها ونِعمَتَه وجميلَه معها؛ عن أسماءَ بنتِ يزيدَ -إحدى نساءِ بني عبدِ الأشهَلِ- رَضِيَ اللَّهُ عنها، قالت: مرَّ بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في نِسوةٍ، فسَلَّم علينا وقال:
((إيَّاكُنَّ وكُفرَ المُنعِمينَ. فقُلْنا: يا رسولَ اللَّهِ، وما كُفرُ المُنعِمينَ؟ قال: لعَلَّ إحداكُنَّ أن تطولَ أيمَتُها بَيْنَ أَبَويها، وتَعنُسَ، فيَرزُقَها اللهُ عزَّ وجَلَّ زوجًا، ويَرزُقَها منه مالًا ووَلَدًا، فتَغضَبَ الغَضبةَ فتقولَ: ما رأيتُ منه يومًا خيرًا قَطُّ! وقال مرَّةً: خيرًا قَطُّ)) [6960] أخرجه أبو داود (5204)، وابن ماجه (3701) مختصرًا، وأحمد (27561) واللَّفظُ له. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5204)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27561). .
قال عبدُ الرَّحمنِ السَّاعاتيُّ: (يعني: تَكفُرُ نِعمَتَه عِندَ غَضَبِها، وهذا معنى قولِه: إيَّاكُنَّ وكُفرَ المُنعِمينَ، يحَذِّرُ من ذلك؛ لأنَّه لا يجوزُ فِعلُه)
[6961] ((الفتح الرباني)) (16/230). .
5-نُكرانُ المرأةِ نِعمةَ النِّكاحِ، وطَلَبُها الطَّلاقَ من غيرِ بأسٍ؛ عن ثوبانَ: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أيُّما امرأةٍ سألت زوجَها طَلاقًا من غيرِ بأسٍ، فحرامٌ عليها رائِحةُ الجنَّةِ)) [6962] أخرجه أبو داود (2226)، والترمذي (1187) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2055). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4184)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1187)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22379)، وحسَّنه التِّرمذيُّ. .
قال
القاريُّ: (محظورٌ لِما فيه من كُفرانِ نِعمةِ النِّكاحِ)
[6963] ((مرقاة المفاتيح)) (5/ 2137). .
6-نُكرانُ جميلِ صاحِبِ الفَضلِ والغَدرُ به ومقابلةُ مَعروفِه بالسُّوءِ؛ عن
أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
((أنَّ ناسًا من عُرَينةَ اجتَوَوا المدينةَ، فرَخَّص لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأتوا إبِلَ الصَّدَقةِ، فيَشْرَبوا من ألبانِها وأبوالِها، فقَتَلوا الرَّاعيَ واستاقوا الذَّودَ! فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُتِيَ بهم، فقَطَّع أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَر أعيُنَهم، وتركَهم بالحَرَّةِ يَعَضُّون الحِجارةَ)) [6964] أخرجه البخاري (1501). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (وأمَّا العُرَنيُّونَ فإنَّهم غَدَروا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وارتدُّوا عن الإسلامِ، وذَهَبوا بإبِلِه، فجمعوا بَيْنَ الكُفرِ والغَدرِ والغَصبِ؛ فلذلك قَطَّع أيديَهم في جزاءِ السَّرِقةِ، وسَمَر أعيُنَهم قصاصًا؛ لأنَّهم سَمَروا أعيُنَ الرِّعاءِ؛ لئلَّا يَدُلُّوا على صَوبِهم الذي ذهبوا فيه، وقَتَلهم في جوابِ شِركِهم باللهِ)
[6965] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/160). .
8-نُكرانُ المعروفِ والجميلِ ولو مع بهيمةٍ عَجْماءَ؛ فقد أسَر العَدُوُّ امرأةً من المُسلِمين، لكِنَّها تمكَّنَت من الهَرَبِ على ناقةٍ، ثمَّ نذَرَت بعد أن نجَّاها اللهُ من الأسْرِ عليها أن تذبَحَها، فلمَّا عَلِمَ بذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سُبحانَ اللهِ! بِئسَما جَزَتْها! نذَرَت للهِ إن نجَّاها اللهُ عليها لَتَنحَرَنَّها! لا وفاءَ لنَذرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ)) [6966] أخرجه مسلم (1641) مطوَّلًا من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال القُرطبيُّ: (إنَّما صدَر هذا الذَّمُّ منه؛ لأنَّ ذلك النَّذرَ مُستقبَحٌ عادةً؛ لأنَّه مُقابلةُ الإحسانِ بالإساءةِ، وذلك أنَّ النَّاقةَ نجَّتْها من الهَلَكةِ، فقابلَتْها على ذلك بأن تُهلِكَها)
[6967] ((المفهم)) (4/613). .