المَطْلَبُ الأوَّلُ: الآثارُ الإيمانيَّةُ العامَّةُ لبَعضِ صِفاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
العِلمُ بصِفاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ والإيمانُ بها علـى ما يليقُ به سُبحانَه، وتَدَبُّرُها: يُورِثُ ثمَراتٍ عَظيمةً وفوائِدَ جليلةً، تجعَلُ صاحِبَها يذوقُ حَلاوةَ الإيمانِ. ومن تلك الثَّمَراتِ:
1- أنَّ العَبدَ يسعى إلى الاتصافِ والتحلِّي بها على ما يليقُ به؛ لأنَّه من المعلومِ عند أربابِ العُقولِ أنَّ المحِبَّ يحِبُّ أن يتَّصِفَ بصِفاتِ محبوبه، كما أنَّ المحبوبَ يحِبُّ أن يتحلَّى مُحِبُّه بصِفاتِه؛ فهذا يدعو العبدَ المحِبَّ لأن يتَّصِفَ بصِفاتِ مَحبوبِه ومَعبودِه، كُلٌّ على ما يليقُ به؛ فاللهُ كريمٌ يحبُّ الكُرَماءَ، رحيمٌ يحبُّ الرُّحَماءَ، رفيقٌ يحِبُّ الرِّفـقَ، فإذا عَلِم العَبدُ ذلك سعى إلى التحَلِّي بصِفاتِ الكرَمِ والرحمةِ والرِّفقِ، وهكذا في سائِرِ الصِّفاتِ التي يُحِبُّ اللهُ تعالى أن يتحلَّى بها العبدُ على ما يليقُ بذاتِ العَبدِ.
2- أنَّ العَبدَ إذا آمن بصفةِ (الحُبِّ والمَحَبَّة) لله تعالى، وأنَّه سُبحانَه (رحيمٌ ودودٌ)؛ استأنس لهذا الرَّبُّ، وتقرَّب إليه بما يزيدُ حُبَّه ووُدَّه له، ففي الحديثِ القُدُسيِّ المَرْويِّ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه:
((وما يزال عبدي يتقَرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتى أحِبَّه )) [3645] أخرجه البخاري (6502) مطولاً. ، وسعى إلى أن يكونَ ممن يقولُ الله فيهم:
((إذا أحَبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إنَّ اللهَ يحِبُّ فُلانًا فأحْبِبْه، فيُحِبُّه جِبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ يحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ )) [3646] أخرجه البخاري (3209) واللَّفْظُ له، ومسلم (2637) من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومن آثارِ الإيمانِ بهذه الصِّفةِ العظيمةِ أنَّ من أراد أن يكونَ محبوبًا عند اللهِ اتَّبَع نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ، وحبُّ اللهِ للعبدِ مُرتَبِطٌ بحُبِّ العبدِ لله، وإذا غُرِسَت شجرةُ المَحَبَّة في القَلْب، وسُقِيَت بماءِ الإخلاصِ، ومُتابعةِ الحبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أثمرت أنواعَ الثِّمارِ، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ رَبِّها.
3- إذا آمن العبدُ بصِفاتِ (العِلمِ، والإحاطةِ، والمعِيَّة)؛ أورثه ذلك الخوفَ من اللهِ عَزَّ وجَلَّ المطَّلِعِ عليه، الرَّقيبِ الشَّهيدِ، فإذا آمن بصفةِ (السَّمعِ) عَلِمَ أنَّ اللهَ يسمَعُه؛ فلا يقولُ إلَّا خيرًا، فإذا آمن بصفاتِ (البَصَرِ، والرُّؤيةِ، والنَّظَرِ، والعينِ) عَلِمَ أنَّ اللهَ يراه؛ فلا يفعَلُ إلَّا خيرًا.
وإذا عَلِم هذا العبدُ وآمن أنَّ اللهَ (يحِبُّ، ويرضى) عمل ما يحبُّه معبودُه ومحبوبُه وما يُرضيه، فإذا آمن أنَّ مِن صفاتِه (الغَضَبَ، والكُرهَ، والسَّخَطَ، والمَقْتَ، والأَسَفَ، واللَّعْنَ) عَمِل بما لا يُغْضِبُ مولاه ولا يَكرَهُه حتى لا يسخَطَ علـيه ويمقُتَه ثم يَلعَنَه ويَطرُدَه من رحمتِه، فإذا آمن بصفاتِ (الفَرَحِ، والبَشْبَشةِ، والضَّحِكِ) أنِسَ لهذا الرَّبِّ الذي يفرَحُ لعباده ويتبشبَشُ لهم ويضحَكُ له،؛ فما عَدِمَ خيرًا من رَبِّ يَضحَكُ!
4- إذا عَلِم العَبدُ وآمن بصِفاتِ اللهِ من (الرَّحمةِ، والرأفةِ، والتَّوْبِ، واللُّطفِ، والعَفْوِ، والمغفرةِ، والسَّترِ، وإجابةِ الدُّعاءِ) فإنَّه كُلَّما وقع في ذنبٍ دعا الله أن يرحمَه ويغفِرَ له ويتوبَ عليه، وطَمِع فيما عند اللهِ من سَترٍ ولُطفٍ بعبادِه المؤمنين، فأكسبه هذا رَجعةً وأَوْبةً إلى الله كُلَّما أذنبَ، ولا يجِدُ اليأسُ إلى قَلْبِه سبيلًا، وكيف يَيْأَسُ من يؤمِنُ بصِفاتِ (الصَّبرِ، والحِلمِ)؟! كيف ييأَسُ من رحمةِ اللهِ من عَلِمَ أنَّ اللهَ يتَّصِفُ بصِفةِ (الكَرَمِ، والجُودِ، والعَطاءِ)؟!
5- أنَّ العبدَ الذي يعلَمُ أنَّ اللهَ متَّصِفٌ بصِفاتِ (القَهرِ، والغَلَبةِ، والسُّلطانِ، والقُدرةِ، والهَيْمنةِ، والجَبَروتِ) يعلَمُ أنَّ اللهَ لا يُعجِزُه شَيءٌ؛ فهو قادِرٌ على أن يخسِفَ به الأرضَ، وأن يُعَذِّبَه في الدنيا قبل الآخرةِ؛ فهو القاهِرُ فوق عبادِه، وهو الغالِبُ لمن غالَبَه، وهو المهيمِنُ على عبادِه، ذو المَلَكوت والجَبَروت؛ فسُبحانَ اللهِ العظيمِ!
6- أنَّ العَبدَ يَظَلُّ دائِمَ السُّؤالِ لرَبِّه، فإن أذنب سأله بصفاتِ (الرحمةِ، والتَّوْبِ، والعَفْوِ، والمغفرةِ) أن يرحمَه ويتوبَ عليه ويعفوَ عنه ويغفِرَ له، وإن خَشِيَ على نَفْسِه من عدوٍّ مُتجَهِّمٍ جَبَّارٍ، سأل اللهَ بصفات (القُوَّةِ، والغَلَبةِ، والسُّلطانِ، والقَهرِ، والجبروتِ) رافعًا يديه إلى السـَّماء، قائلًا: يا رَبِّ! يا ذا القُوَّةِ والسُّلطانِ والقَهرِ والجبروتِ، اكفِنِيه. فإن آمــن أنَّ اللهَ (كفيلٌ، حفيظٌ، حَسيبٌ، وكيلٌ) قال: حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيلُ، وتوكَّلَ على (الواحِدِ، الأحَدِ، الصَّمَدِ)، وعلم أنَّ اللهَ ذا (العِزَّةِ، والشِّدَّةِ، والْمِحالِ، والقُوَّةِ، والمَنَعةِ) مانِعُه من أعدائِه، ولن يَصِلوا إليه بإذنهِ تعالى، فإذا أصيب بفقرٍ دعا اللهِ بصِفاتِ (الغِنى، والكَرَمِ، والجُودِ، والعَطاءِ)، فإذا أصيبَ بمرضٍ دعاه؛ لأنَّه هو (الطَّبيبُ، الشَّافي، الكافي)، فإن مُنِعَ الذُرِّيَّةَ سأل اللهَ أن يرزُقَه ويَهَبَه الذُّرِّيَّةَ الصالحةَ؛ لأنَّه هو (الرَّزَّاق، الوهَّابُ). وهكذا فإنَّ من ثمراتِ العِلمِ بصِفاتِ اللهِ والإيمانِ بها دعاؤه بها.
7- أنَّ العَبْدَ إذا تدَبَّر صِفاتِ اللهِ من (العَظَمةِ، والجَلالِ، والقُوَّةِ، والجَبروتِ، والهَيمنةِ) استصغر نَفْسَه، وعَلِم حقارتَها، وإذا علم أنَّ اللهَ مختَصٌّ بصِفةِ (الكبرياء) لم يتكبَّرْ على أحدٍ، ولم ينازِعِ اللهَ فيما خصَّ به نَفْسَه من الصِّفاتِ، وإذا علم أنَّ اللهَ متَّصِفٌ بصفةِ (الغِنى، والمُلْك، والعَطاءِ) استشعر افتقارَه إلى مولاه الغنيِّ، مالكِ المُلْكِ، الذي يُعطي من يشاءُ ويمنَعُ من يشاء.
8- أنَّ العبدَ إذا علم أنَّ اللهَ يتَّصِفُ بصِفةِ (القُوَّةِ، والعِزَّةِ، والغَلَبةِ)، وآمن بها؛ علم أنَّه إنما يكتَسِبُ قُوَّتَه من قُوَّةِ اللهِ، وعِزَّتَه مِن عِزَّةِ اللهِ؛ فلا يَذِلُّ ولا يخنَعُ لكافِرٍ، وعَلِمَ أنَّه إن كان مع اللهِ؛ كان اللهُ معه، ولا غالِبَ لأمرِ اللهِ.
9- ألَّا ينازِعَ العبدُ اللهَ في صفةِ (الحُكمِ، والألوهيَّةِ، والتشريعِ، والتحليلِ، والتحريمِ)؛ فلا يَحكُمُ إلَّا بما أنزل اللهُ، ولا يتحاكَمُ إلَّا إلى ما أنزل اللهُ، فلا يحرِّم ما أحلَّ اللهُ، ولا يحِلُّ ما حرَّم اللهُ.
10- أنَّ صِفاتِ (الكيدِ، والمكْرِ، والاستهزاءِ، والخِداعِ) إذا آمن بها العبدُ على ما يليقُ بذاتِ اللهِ وجَلالِه وعظَمَتِه؛ عَلِمَ أنْ لا أحدَ يستطيعُ أن يكيدَ لله أو يمكُرَ به، وهو خيرُ الماكرين سُبحانَه، كما أنَّه لا أحَدَ من خَلْقِه قادِرٌ على أن يستهزئَ به أو يخدَعَه؛ لأنَّ اللهَ سيستهزئُ به ويخادِعُه، ومن أثَرِ استهزاءِ اللهِ بالعَبدِ أن يغضَبَ عليه ويمقُتَه ويُعَذِّبَه.
11- أنَّ العَبدَ الذي يعلَمُ أنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ بصِفةِ (السَّلامِ، والمؤمِنِ، والصِّدقِ)؛ فإنَّه يشعُرُ بالطُّمَأنينةِ والهدوءِ النَّفسيِّ؛ فاللهُ هو السَّلامُ، ويحِبُّ السَّلامَ، فيَنشُرُ السَّلامَ بين المؤمنين، وهو المؤمِنُ الذي أمِنَ الخلقُ من ظُلْمِه، وإذا اعتقد العبدُ أنَّ اللهَ متَّصِفٌ بصفة (الصِّدقِ)، وأنَّه وعدَه إن هو عَمِل صالحًا جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ؛ علم أنَّ اللهَ صادِقٌ في وَعدِه لن يُخلِفَه، فيدفَعُه هذا لمزيدٍ من الطاعةِ، طاعةِ عبدٍ عاملٍ يثقُ في سيِّده، وأجيرٍ في مُستأجِرِه: أنَّه مُوَفِّيه حقَّه وزيادةً.
13- أنَّ صِفاتِ اللهِ الخَبَريَّةَ ؛كـ (الوَجهِ، واليَدينِ، والأصابِعِ، والأنامِلِ، والقَدَمينِ، والسَّاقِ، وغيرِها) تكونُ كالاختبارِ الصَّعبِ للعبادِ، فمن آمن بها وصَدَّق بها على وَجهٍ يليقُ بذاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بلا تمثيلٍ ولا تحريفٍ ولا تكييفٍ، وقال: كلٌّ من عندِ رَبِّنا، ولا فَرْقَ بين إثباتِ صِفةِ العِلمِ والحياةِ والقُدرةِ وبين هذه الصِّفاتِ؛ فقد أفلح بإذنِ اللهِ.
ومن ثمراتِ الإيمانِ بهذه الصِّفاتِ الخَبَرية أنَّك إذا آمَنْتَ أنَّ لله وجهًا يليقُ بجلالِه وعَظَمتِه، وأنَّ النَّظَرَ إليه من أعظَمِ ما يُنعِمُ اللهُ به على عَبْدِه يومَ القيامةِ، وقد وعد به عبادَه الصالحين؛ سألْتَ اللهَ النَّظَرَ إلى وَجْهِه الكريمِ، فأعطاكه، وأنَّك إذا آمَنْتَ أنَّ لله يدًا ملأى لا يَغيضُها نَفَــقةٌ، وأنَّ الخيرَ بين يديه سُبحانَه؛ سأَلْتَه ممَّا بين يديه، وإذا عَلِمْتَ أنَّ قَلْبَك بين إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ؛ سأَلْتَ اللهَ أن يُثبِّتَ قَلْبَك على دينِه.
14- تَنْزِيهُ الله وتقديسُه عن النَّقائصِ، ووَصْفُه بصفاتِ الكَمالِ، فمن عَلِمَ أنَّ من صفاتِه (القُدُّوسَ، السُّبُّوحَ) نَزَّه اللهَ مـن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وعَلِمَ أنَّ اللهَ تعالى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
15- أنَّ من عَلِمَ أنَّ من صِفاتِ اللهِ (الحياةَ، والبقاءَ)، عَلِم أنَّه يعبُدُ إلهًا لا يموتُ، ولا تأخُذُه سِنَةٌ ولا نومٌ، فأورثه ذلك حُبًّا وتعظيمًا وإجلالًا ومراقبةً له وتوكُّلًا عليه.
16- أنَّ العبدَ المؤمِنَ بصفةِ (العُلُوِّ، والفوقيَّةِ، والاستواءِ على العَرشِ، والنُّزُولِ، والقُربِ، والدُّنُوِّ) يعلَمُ أنَّ اللهَ مُنَـزَّهٌ عن الحلولِ بالمخلوقاتِ، وأنَّه فوق كُلِّ شيءٍ، مطَّلعٌ على كُلِّ شيءٍ، بائِنٌ عن خَلْقِه، مستوٍ على عرشِه، وهو قريبٌ من عبدِه، فإذا احتاج العبدُ إلى ربِّه وجده قريبًا منه، فيَدْعوه، فيستجيبُ دُعاءَه، ويَنـزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا في الثُّلُثِ الآخِـِر من اللَّيلِ كما يليقُ به سُبحانَه، فيقولُ:
((من يَدعوني فأَستجيبَ له )) [3647] أخرجه البخاري (7494)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فيورِثُ ذلك حِرصًا عند العَبدِ بتفَقُّدِ هذه الأوقاتِ التي يخلو فيها مع رَبِّه القريبِ منه؛ فهو سُبحانَه قريبٌ في عُلُوِّه، بعيدٌ في دُنُوِّه.
17- أنَّ الإيمانَ بصفة (الكلام) وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ يجعَلُ العَبدَ يَستشعِرُ وهو يقرأُ القُرآنَ أنَّه يقرأُ كلامَ اللهِ، فإذا قرأ:
يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الإنفطار: 6] أحسَّ أنَّ اللهَ يكَلِّمُه ويتحَدَّثُ إليه، وأنَّه إذا آمن بهذه الصِّفةِ، وقرأ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ اللهَ سيُكَلِّمُه يومَ القيامةِ، ليس بينه وبينه تَرجمانٌ
[3648] أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016) من حَديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ استحى أن يعصِيَ اللهَ في الدُّنيا، وأعَدَّ لذلك الحِسابِ والسُّؤالِ جوابًا.
فما من صِفةٍ لله تعالى إلَّا وللإيمانِ بها ثمراتٌ عَظيمةٌ، وآثارٌ كبيرةٌ مترتِّبةٌ على ذلك الإيمانِ؛ فما أعظَمَ نِعَمَ اللهِ على أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين آمَنوا بكُلِّ ذلك على الوَجهِ الذي يليقُ باللهِ تعالى
[3649] يُنظر: ((صفات الله الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص 30). .