المَبحَثُ الخامِسُ: مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّمثيلِ
التَّمثيلُ: ذِكرُ مماثِلٍ للشَّيءِ، وبيْنه وبيْن
التَّكييفِ عمومٌ وخصوصٌ مُطلَقٌ؛ لأنَّ كُلَّ ممثِّلٍ مكيِّفٌ، وليس كلُّ مكَيِّفٍ مُمثِّلًا.
فالتَّمثيلُ: ذِكرُ الصِّفةِ مقيَّدةً بمُماثِلٍ؛ فتقولُ: يد فلانٍ مِثلُ يدِ فُلانٍ، و
التَّكييفُ: ذِكرُ الصِّفةِ غيرَ مُقيَّدةٍ بمُماثِلٍ، مِثلُ أن تقولَ: كيفيَّةُ يدِ فلانٍ كذا وكذا.
والكَيفيَّةُ لا تكونُ إلَّا في الصِّفةِ والهيئةِ، والتَّمثيلُ يكونُ في ذلك وفي العَدَدِ.
والتَّعبيرُ ب
التَّمثيلِ أَولى من التَّعبيرِ بالتَّشبيهِ؛ لأن القرآنَ عبَّرَ به.
قال الله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وكلُّ تعبيرٍ عَبَّر به القرآُن فهو أولى من غَيرِه؛ إذ لا أفصَحَ من القُرآنِ، ولا أدَلَّ على المعنى المرادِ منه.
ولأنَّ التَّشْبيهَ عندَ بَعضِ النَّاسِ يعني إثباتَ الصِّفاتِ، فإذا قُلْنا: من غيرِ تَشبيهٍ، فكأنَّنا نقولُ له: من غيرِ إثباتِ صِفاتٍ، فصار لفظُ التَّشْبيهِ يوهِمُ معنًى فاسدًا؛ فالعدولُ عنه أَولى.
ولأنَّ نَفْيَ التَّشْبيهِ على الإطلاقِ غيرُ صحيحٍ؛ فما من شيئينِ مِن الأعيانِ أو من الصِّفاتِ إلَّا وبينهما اشتراكٌ مِن بَعضِ الوُجوهِ، والاشتراكُ نوعُ تشابُه، فلو نَفَيتَ التَّشْبيهَ مُطلقًا؛ لكُنتَ نفيتَ كُلَّ ما يَشتَرِكُ فيه الخالِقُ والمخلوقُ في شيءٍ ما؛ فمثلًا: الوُجودُ يشترِكُ في أصلِه الخالقُ والمخلوقُ، لكِنْ فرقٌ بين الوجودينِ، وكذلك السَّمعُ فيه اشتراكٌ؛ فالخالِقُ له سمعٌ، والإنسانُ له سَمعٌ، لكِنَّ بينهما فرقًا.
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُثبتون لله عزَّ وجَلَّ الصِّفاتِ بدونِ مماثلةٍ؛ فاللهُ عزَّ وجَلَّ لا يماثِلُ خَلْقَه فيما وَصَفَ به نَفْسَه.
قال اللهُ تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة: 22] أي: نُظَراءَ مماثِلينَ.
فلا يمكِنُ التَّماثُلُ بين الخالِقِ والمخلوقِ أبدًا، فثمَّةَ تباينٌ عظيمٌ بين الخالِقِ والمخلوقِ؛ في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه.
وإنَّنا نشاهِدُ في المخلوقاتِ أشياءَ تتَّفِقُ في الأسماءِ وتختَلِفُ في المسمَّياتِ، وبينهما تفاوتٌ عَظيمٌ في حقيقةِ الأمرِ؛ فاليَدُ شيءٌ مُشترَكٌ بين الإنسانِ والحيوانِ، ولكِنَّ يدَ الإنسانِ ليست كيدِ الجَمَل مثلًا، فإذا كان التَّفاوتُ واقعًا بين المسمَّياتِ في المخلوقاتِ مع اتِّفاقِ الاسمِ، فحُصولُ هذا التَّفاوتِ بين الخالِقِ والمخلوقِ أَولى وأعظَمُ
[174] يُنظر: ((الصفدية)) (1/101)، ((منهاج السنة النبوية)) كلاهما لابن تَيميَّةَ (8/29)، ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/102). .
قال ابنُ أبي العِزِّ: (المشهورُ من استِعمالِ هذا اللَّفظِ عند عُلَماءِ السُّنَّةِ المشهورينَ: أنَّهم لا يُريدونَ بنَفيِ التَّشْبيهِ نفيَ الصِّفاتِ، ولا يَصِفونَ به كُلَّ من أثبَتَ الصِّفاتِ، بل مرادُهم أنَّه لا يُشْبِهُ المخلوقَ في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، كما تقدَّم من كلامِ
أبي حنيفةَ رحمه اللهُ؛ أنَّه تعالى يعلَمُ لا كعِلْمنا، ويقدِرُ لا كقُدرتِنا، ويرى لا كرُؤيتِنا، وهذا معنى قَولِه تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، فنفى المِثْلَ وأثبَتَ الصِّفةَ)
[175] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/87). .