تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
المَلائِكةُ تُبَشِّرُ المُؤمِنين بأمرِ اللهِ تعالى لهم. قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[فصلت: 30] . قال السَّمعانيُّ: (قَولُه: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أي: عند الموت، ويقال: عند البعثِ. في التفسيرِ: أنَّه إذا بُعِث العبدُ تلقَّاه الملَكانِ اللَّذانِ كانا يحفَظانِه ويَكتُبانِ عليه، ويقولان له: لا تخَفْ ولا تحزَنْ، وأبشِرْ بالجنَّةِ التي كنتَ تُوعَدُ، ولا يَهولُك الذي تراه، فإنَّما أريدَ به غَيرُك. وعن أبي العاليةِ الرياحيِّ قال: يُبَشَّرُ المُؤمِنُ في ثلاثةِ مواطِنِ: عند دُخولِ القَبرِ، وعند البَعثِ، وعند دُخُولِه الجنَّةَ) [4108] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 50). . وقد بَشَّرَت المَلائِكةُ في الدُّنيا إبراهيمَ عليه السَّلامُ بالذُّرِّيةِ الصَّالحةِ. قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ[الذاريات: 24-28]. وبشَّرت كذلك زكريَّا بيحيى عليهما السَّلامُ. قال اللهُ سُبحانَه: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى[آل عمران: 39] . وليس هذا مَقصورًا على الأنبياءِ والمُرسَلين عليهم السَّلامُ، بل قد تُبَشِّرُ المُؤمِنين كذلك. عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ رَجُلًا زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد اللهُ له على مَدرَجَتِه [4109] قال النووي: (معنى أرصده: أقعده يَرقُبُه. والمَدْرَجة -بفتح الميم والراء- هي الطريقُ، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ النَّاسَ يَدرُجون عليها، أي: يَمضُون ويمشُون). ((شرح مسلم)) (16/ 124). وقال المظهري: (قوله: "فأرصد الله على مَدْرَجَتِه مَلَكًا"، أي: فأرسل اللهُ على طريقه، (الإرصادُ): أن يوقَفَ أحدٌ في الطريق لينتَظِرَ أحدًا، (المدْرَجة): الطريقُ). ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 230). مَلَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريدُ؟ قال: أريدُ أخًا لي في هذه القريةِ، قال: هل لك عليه من نِعمةٍ تَرُبُّها [4110] قال النووي: (أي: تقومُ بإصلاحِها، وتنهض إليه بسَبَبِ ذلك). ((شرح مسلم)) (16/ 124). ؟ قال: لا، غيرَ أنِّي أحبَبْتُه في اللهِ عزَّ وجَلَّ، قال: فإنِّي رَسولُ اللهِ إليك بأنَّ اللهَ قد أحَبَّك كما أحبَبْتَه فيه )) [4111] رواه مسلم (2567). . قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (جعل اللهُ مَلَكًا على طريقِه يَرصُدُه، أي: يرتَقِبُه، وينتَظِرُه لِيُبَشِّرَه) [4112] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 543). . وقال النووي: (فيه أنَّ الآدميِّينَ قد يَرَون المَلائِكةَ) [4113] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/124). . وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى جبريلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ هذه خديجةُ قد أتتك معها إناءٌ فيه إِدامٌ، أو طعامٌ، أو شرابٌ، فإذا هي أتتك، فاقرَأْ عليها السَّلامَ من ربِّها عَزَّ وجَلَّ ومِنِّي، وبَشِّرْها ببيتٍ في الجنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ )) [4114] رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432) واللَّفظُ له. . قال علي القاري: («من قَصَبٍ»، بفتحتين، أي: لؤلؤٍ مُجَوَّفٍ واسِعٍ، كالقَصرِ المنيفِ. وقال ابنُ حَجَر، أي: من قَصَبِ اللؤلؤِ، ولم يقُلْ: من لؤلؤٍ؛ إذ في لفظِ القَصَبِ مناسبةٌ؛ لأنها أحرزت قَصَبَ السَّبقِ لمبادرتها إلى الإيمانِ دون غيرها. ... «لا صَخَبَ»: بفتح الصاد والخاء المعجمة، ولا: لنَفيِ الجِنسِ، أي: لا صياحَ أو لا اختلاطَ صَوتٍ. «فيه»، أي: في القَصَبِ المعبَّرَ به عن القصرِ، وفي نسخةٍ: فيها، فالضميرُ راجعٌ إلى الجنَّةِ. ويؤَيِّدُه قَولُه: «ولا نَصَب». بفتحتين. قال تعالى: لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ[فاطر: 35] أي: كلالٌ... لا يكونُ لها شاغِلٌ يَشغَلُها عن لذائِذِ الجنَّةِ ولا تَعبٌ يَنقُصُها. وقال القاضي: نفى عن القَصَبِ الصَّخَبَ والنَّصَبَ؛ لأنَّه ما من بيتٍ في الدُّنيا يسكُنُه قومٌ إلَّا كان بين أهلِه صَخَبٌ وجَلَبةٌ، وإلا كان في بنائِه وإصلاحِه نَصَبٌ وتعَبٌ، فأخبر اللهُ تعالى أنَّ قُصورَ الجنَّةِ خاليةٌ عن هذه الآفاتِ. قال الطِّيبي: ويؤَيِّدُه الوَجهُ الثَّاني أنَّ بناءَ بَيتِ الجنَّةِ حاصِلٌ بقَولِه: كُنْ، ليس كأبنيةِ الدُّنيا؛ فإنها إنما يتسَبَّبُ بناؤها بصَخَبٍ ونَصَبٍ، وكذا السُّكونُ فيها لا يخلو عنهما، وليس حُكمُ بَيتِ الجَنَّةِ كذلك) [4115] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3989). . وقد أبدى السُّهَيليُّ لنَفيِ هاتين الصِّفتينِ حِكمةً لطيفةً، فقال: (أمَّا قَولُه: ((لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ)) فإنَّه أيضًا مِن بابِ ما كنَّا بسَبِيلِه؛ لأنَّه عليه السَّلامُ دعاها إلى الإيمانِ، فأجابَتْه عَفْوًا، لم تحْوِجْه إلى أن يَصخَبَ كما يَصخَبُ البَعْلُ إذا تعَصَّتْ عليه حَلِيلتُه، ولا أن يَنصَبَ، بل أزالت عنه كُلَّ نَصَبٍ، وآنسَتْه من كُلِّ وَحشةٍ، وهَوَّنت عليه كُلَّ مكروهٍ، وأراحَتْه بمالها مِن كُلِّ كَدٍّ ونَصَبٍ، فوُصِفَ مَنزِلُها الذي بُشِّرَت به بالصِّفةِ المُقابِلةِ لفَعالِها وصُورَتِه) [4116] يُنظر: ((الروض الأنف)) (2/ 428). .