المَطْلَبُ الثَّاني: جَزاءُ مُؤْمِنِهم في الآخِرةِ
إنَّ ظَواهِرَ الآياتِ الوارِدةِ في جَزاءِ
الجِنِّ في الآخِرةِ وعُمومَها يَقتَضي أنَّهم يُثابُونَ على أعمالِهم، فيَدخُلونَ الجَنَّةَ، ويَتَنَعَّمونَ فيها.
قال
الرَّازي: (الصَّحيحُ أنَّهم في حُكمِ بني آدَمَ، فيَستَحِقُّونَ الثَّوابَ على الطَّاعةِ والعِقابَ على المَعصيةِ، وهَذا القَولُ قَولُ ابنِ أبي ليلى و
مالِكٍ، وجَرَت بَينَه وبَينَ
أبي حَنيفةَ في هَذا البابِ مُناظَرةٌ)
[4487] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/29). .
وقال النَّوَويُّ: (الصَّحيحُ أنَّهم يَدخُلونَها ويُنعَّمونَ فيها بالأكلِ والشُّربِ وغَيرِها، وهَذا قَولُ
الحَسَنِ البَصْريِّ، والضَّحَّاكِ، و
مالِكِ بنِ أنسٍ، وابنِ أبي ليلى وغَيرِهم)
[4488] يُنظر: ((شرح مسلم)) (4/169). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا الجُمهورُ فقالوا: مُؤْمِنُهم في الجَنَّةِ كما أنَّ كافِرَهم في النَّارِ)
[4489] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418). .
وقال أيضًا: (قد ثَبَتَ أنَّ مِنهُمُ المُؤْمِنين فيَدخُلونَ في العُمومِ، كما أنَّ كافِرَهم يَدخُلُ في الكافِرين المُستَحِقِّينَ للوَعيدِ، ودُخولُ مُؤْمِنهم في آياتِ الوَعدِ أَولى من دُخولِ كافِرِهم في آياتِ الوَعيدِ؛ فإنَّ الوَعدَ فضْلُه، والوَعيدَ عَدْلُه، وفَضلُه من رَحمَتِهِ، وهيَ تَغلِبُ غَضبَه. وأيضًا فإنَّ دُخولَ عاصيهمُ النَّارَ إنَّما كانَ لمُخالَفَتِهِ أمرَ اللَّهِ، فإذا أطاعَ اللهَ أُدخِلَ الجَنَّةَ، وأيضًا فإنَّه لا دارَ للمُكَلَّفِينَ سِوى الجَنَّةِ أوِ النَّارِ، وكُلُّ من لَم يَدخُلِ النَّارَ مِنَ المُكَلَّفِينَ فالجَنَّةُ مَثْواه)
[4490] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 426). .
وقال
ابن حجر الهيتمي: (الصَّحيحُ الَّذي قاله ابنُ أبي ليلى، و
الأوزاعيُّ، و
مالِكٌ، و
الشَّافِعيُّ، و
أحمَدُ، وأصحابُهم رَضِيَ اللهُ عَنهم: أنَّهم يُثابُونَ على طاعاتِهم)
[4491] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 52). .
وقال
الألوسيُّ: (عُموماتُ الآياتِ تَدُلُّ على الثَّوابِ)
[4492] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/189). .
وقال
مُحَمَّد رَشيد رِضا: (شَذَّ من قال: إنَّ مُسْلِمي
الجِنِّ لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ؛ إذ لَيسَ لَهم ثَوابٌ، وأشَدُّ مِنه شُذوذًا من زَعَمَ أنَّهم لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ولا النَّارَ، نَقلَ ذلك
السُّيوطيُّ عَن لَيثِ بنِ أبي سليمٍ، وهوَ مُخالِفٌ لنُصوصِ القُرآنِ، ولَيثٌ هَذا مُضطَرِبُ الحَديثِ، وإنْ روى عَنه
مُسْلِمٌ، وقدِ اختَلَطَ عَقْلُه في آخِرِ عُمرِهِ، ولَعَلَّه قال هَذا القَولَ وغَيرَه مِمَّا أُنكِرَ عليهِ بَعدَ اختِلاطِه)
[4493] يُنظر: ((تفسير المنار)) (8 / 97). .
وقال
ابنُ باز: (
الجِنُّ والإنسُ سَواءٌ سَواءٌ، من آمَنَ مِنهم ومات على الإيمانِ دَخلَ الجَنَّةَ، ومن مات على الكُفْرِ دَخلَ النَّارَ سَواءٌ جِنًّا أو إنسًا)
[4494] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 219). .
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:قَولُ اللهِ تعالى:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أي: في الخَيرِ والشَّرِّ يُوفَّونَها، ولا يُظلَمونَ شَيئًا من أعمالِهم، وهوَ ظاهِرٌ جِدًّا في ثَوابِهم وعِقابِهم، وأنَّ مُسيئَهم يَستَحِقُّ العَذابَ بإساءَتِه، ومُحْسِنُهم يَستَحِقُّ الدَّرَجاتِ بإحسانِه)
[4495] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 419). .
وقال الشبليُّ: (قال
ابنُ الصَّلاحِ في بَعضِ تَعاليقِه: حُكِي عَنِ ابنِ عَبدِ الحَكَمِ... أنَّه سُئِلَ عَنِ
الجِنِّ: هَل لَهم جَزاءٌ في الآخِرةِ على أعمالِهم؟ فقال: نَعَم، والقُرآنُ يَدُلُّ على ذلك، قال تعالى:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواالآية)
[4496] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 89). .
وقال
مُحَمَّد رَشيد رِضا: (أي: ولِكُلٍّ من مَعْشَرَيِ
الجِنِّ والإنسِ الَّذينَ بلَغَتْهم دَعوةُ الرُّسُلِ دَرَجاتٌ ومَنازِلُ من جَزاءِ أعمالِهم، تَتَفاوَتُ بتَفاوُتِهم فيها)
[4497] يُنظر: ((تفسير المنار)) (8/97). .
وقال اللهُ سُبحانَه حِكايةً عن
الجِنِّ الذين استمعوا القُرآنَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووَلَّوا إلى قَومِهم مُنذِرينَ:
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31] .
قال
البَغَويُّ: (اختَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِ مُؤْمِني
الجِنِّ، فقال قَومٌ: لَيسَ لَهم ثَوابٌ إلَّا نَجاتُهم مِنَ النَّارِ، وتَأوَّلوا قَولَه:
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وإليهِ ذَهَبَ
أبو حَنيفةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنه. وحَكى سُفيانُ عَن لَيثٍ قال:
الجِنُّ ثَوابُهم أن يُجارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقالُ لَهم كونوا تُرابًا، وهَذا مِثلُ البَهائِمِ.
وعَن أبيِ الزِّنادِ قال: إذا قُضِيَ بَينَ النَّاسِ قِيلَ لمُؤْمِني
الجِنِّ: عودوا تُرابًا، فيَعودونَ تُرابًا، فعِندَ ذلك يَقولُ الكافِرُ:
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النَّبأ: 40] .
وقال الآخَرونَ: يَكونُ لَهُمُ الثَّوابُ في الإحسانِ كما يَكونُ عليهمُ العِقابُ في الإساءةِ كالإنسِ، وإليهِ ذَهَبَ
مالِكٌ وابنُ أبي ليلى)
[4498] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 206). .
وقال
القُرطُبيُّ: (هذه الآيُ تَدُلُّ على أنَّ
الجِنَّ كالإنسِ في الأمرِ والنَّهيِ والثَّوابِ والعِقابِ)
[4499] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). .
وقال
البَيضاويُّ: (الأظهَرُ أنَّهم في تَوابِعِ التَّكليفِ كبَني آدَمَ)
[4500] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 117). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قد ثَبَتَ أنَّهم إذا أجابوا داعيَ اللهِ غَفرَ لَهم وأجارَهم من عَذابِه، وكُلُّ من غُفِرَ لَه دَخلَ الجَنَّةَ ولا بُدَّ، ولَيسَ فائِدةُ المَغفِرةِ إلَّا الفَوزُ بالجَنَّةِ والنَّجاةُ مِنَ النَّارِ)
[4501] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 426). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (الحَقُّ أنَّ مُؤْمِنَهم كمُؤْمِنيِ الإنسِ يَدخُلونَ الجَنَّةَ، كما هوَ مَذهَبُ جَماعةٍ مِنَ السَّلَفِ، وقدِ استَدَلَّ بَعضُهم لهَذا بقَولِه:
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرَّحمن: 74] وفي هَذا الِاستِدلالِ نَظَرٌ، وأحسَنُ مِنه قَولُه تعالى:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرَّحمن: 46، 47]، فقدِ امتَنَّ تعالى على الثَّقلَينِ بأنْ جَعلَ جَزاءَ مُحْسِنِهم الجَنَّةَ، وقد قابَلتِ
الجِنُّ هذه الآيةَ بالشُّكرِ القَوليِّ أبلَغَ مِنَ الإنسِ، فقالوا: "ولا بشَيءٍ من آلائِكَ رَبَّنا نُكَذِّبُ؛ فلَكَ الحَمدُ" فلَم يَكُن تعالى ليَمتَنَّ عليهم بجَزاءٍ لا يَحصُلُ لَهم، وأيضًا فإنَّه إذا كانَ يُجازي كافِرَهم بالنَّارِ -وهوَ مَقامُ عَدْلٍ- فلَأَن يُجازيَ مُؤْمِنَهم بالجَنَّةِ -وهوَ مَقامُ فَضلٍ- بطريقِ الأَولى والأَحرى. ومِمَّا يَدُلُّ أيضًا على ذلك عُمومُ قَولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكَهفُ: 107] ، وما أشبَه ذلك مِنَ الآياتِ، وقد أفرَدْتُ هذه المَسألةَ في جُزءٍ على حِدَةٍ، ولِلَّهِ الحَمدُ والمَنَّةُ. وهذه الجَنَّةُ لا يَزالُ فيها فضلٌ حَتَّى يُنشِئَ اللهُ لَها خَلقًا، أفلا يَسكُنُها من آمَنَ بهِ وعَمِلَ لَه صالِحًا؟! وما ذَكروه هاهُنا مِنَ الجَزاءِ على الإيمانِ من تَكفيرِ الذُّنوبِ والإجارةِ مِنَ العِذابِ الأليمِ، هوَ يَستَلزِمُ دُخولَ الجَنَّةِ؛ لأنَّه لَيسَ في الآخِرةِ إلَّا الجَنَّةُ أوِ النَّارُ، فمن أجيرَ مِنَ النَّارِ دَخلَ الجَنَّةَ لا مَحالةَ. ولَم يَرِدْ مَعَنا نَصٌّ صَريحٌ ولا ظاهِرٌ عَنِ الشَّارِعِ أنَّ مُؤْمِني
الجِنِّ لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ وإنْ أُجيروا مِنَ النَّارِ، ولَو صَحَّ لَقُلْنا بهِ، واللهُ أعلَمُ. وهَذا نوحٌ عليهِ السَّلامُ يَقولُ لقَومِهِ:
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: 4] ، ولا خِلافَ أنَّ مُؤْمِني قَومِهِ في الجَنَّةِ، فكَذلك هَؤُلاءِ. وقد حُكِيَ فيهم أقوالٌ غَريبةٌ؛ فعن
عُمرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ: أنَّهم لا يَدخُلونَ بحبوحةَ الجَنَّةِ، وإنَّما يَكونونَ في رَبَضِها وحَولَها وفي أرجائِها. ومِنَ النَّاسِ من زَعَمَ أنَّهم في الجَنَّةِ يَراهمُ بنو آدَمَ ولا يَرونَ بني آدَمَ عَكسَ ما كانوا عليهِ في الدَّارِ الدُّنيا. ومِنَ النَّاسِ من قال: لا يَأكُلونَ في الجَنَّةِ ولا يَشرَبونَ، وإنَّما يُلْهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ والتَّقديسَ، عِوَضًا عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ كالمَلائِكةِ؛ لأنَّهم من جِنسِهم. وكُلُّ هذه الأقوالِ فيها نَظَرٌ، ولا دَليلَ عليها)
[4502] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 303). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ حُكمَ
الجِنِّ حُكمُ الإنسِ في الثَّوابِ والعِقابِ والتَّعَبُّدِ بالأوامِرِ والنَّواهي. وقال الحَسَنُ: لَيسَ لمُؤْمِني
الجِنِّ ثَوابٌ غَيرُ نَجاتِهم مِنَ النَّارِ، وبِهِ قال
أبو حَنيفةَ. والأوَّلُ أَولى، وبِهِ قال
مالِكٌ و
الشَّافِعيُّ وابنُ أبي ليلى. وعلى القَولِ الأوَّلِ، فقال القائِلونَ بهِ: إنَّهم بَعدَ نَجاتِهم مِنَ النَّارِ يُقالُ لَهم: كونوا تُرابًا، كما يُقالُ للبَهائِمِ. والثَّاني أرجَحُ. وقد قال اللهُ سُبْحانَه في مُخاطَبةِ
الجِنِّ والإنسِ:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 46، 47]، فامَتَنَّ سُبْحانَه على الثَّقَلَينِ بأنْ جَعلَ جَزاءَ مُحْسِنِهم الجَنَّةَ، ولا يُنافي هَذا الِاقتِصارَ هاهُنا على ذِكرِ إجارَتِهم من عَذابٍ أليمٍ، ومِمَّا يُؤَيِّدُ هَذا أنَّ اللهَ سُبْحانَه قد جازى كافِرَهم بالنَّارِ وهوَ مَقامُ عَدْلٍ، فكَيفَ لا يُجازي مُحْسِنَهم بالجَنَّةِ وهوَ مَقامُ فضلٍ؟! ومُمَّا يُؤَيِّدُ هَذا أيضًا ما في القُرآنِ الكَريمِ في غَيرِ مَوضِعٍ أنَّ جَزاءَ المُؤْمِنينَ الجَنَّةُ، وجَزاءَ مَن عَمِلَ الصَّالِحاتِ الجَنَّةُ، وجَزاءَ مَن قال لا إلَهَ إلَّا اللهُ الجَنَّةُ، وغَيرُ ذلك مِمَّا هوَ كثيرٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ)
[4503])) يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 31). .
وقال
السَّعْديُّ: (
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وإذا أجارَهم مِنَ العِذابِ الأليمِ فما ثَمَّ بَعدَ ذلك إلَّا النَّعيمُ، فهَذا جَزاءُ من أجابَ داعِيَ اللَّهِ)
[4504] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 783). .
وقال
الشِّنْقيطيُّ: (أمَّا دُخولُ المُؤْمِنين المُجيبين داعيَ اللَّهِ مِنَ
الجِنِّ الجَنَّةَ، فلَم تَتَعَرَّض لَه الآيةُ الكَريمةُ بإثباتٍ ولا نَفيٍ، وقد دَلَّت آيةٌ أخرى على أنَّ المُؤْمِنين مِنَ
الجِنِّ يَدخُلونَ الجَنَّةَ، وهيَ قَولُه تعالى في سورةِ «الرَّحمَنِ»:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 46، 47]. وبِهِ تَعلَمُ أنَّ ما ذَهَبَ إليهِ بَعضُ أهلِ العِلمِ قائِلينَ: إنَّه يُفهَمُ من هذه الآيةِ من أنَّ المُؤْمِنين مِنَ
الجِنِّ لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ، وأنَّ جَزاءَ إيمانِهم وإجابَتِهم داعيَ اللَّهِ هوَ الغُفرانُ وإجارَتُهم مِنَ العَذابِ الأليمِ فقَط، كما هوَ نَصُّ الآيةِ، كُلُّه خِلافُ التَّحقيقِ.
وقد أوضَحْنا ذلك في كِتابِنا «دَفع إيهامِ الِاضطِرابِ عَن آياتِ الكِتابِ» في الكَلامِ على هذه الآيةِ، من سورةِ «الأحقافِ» فقُلْنا فيه ما نَصُّه: هذه الآيةُ يُفهَمُ من ظاهِرِها أنَّ جَزاءَ المُطيعِ مِنَ
الجِنِّ غُفَرانُ ذُنُوبِه وإجارَتُه من عَذابٍ أليمٍ، لا دُخولُه الجَنَّةَ.
وقد تَمسَّك جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ مِنهم
الإمامُ أبو حَنيفةَ رَحِمَه اللهُ تعالى بظاهِرِ هذه الآيةِ، فقالوا: إنَّ المُؤْمِنين المُطيعِينَ مِنَ
الجِنِّ لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ، مَعَ أنَّه جاءَ في آيةٍ أخرى ما يَدُلُّ على أنَّ مُؤْمِنيهم في الجَنَّةِ، وهيَ قَولُه تعالى:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ؛ لأنَّه تعالى بَيَّنَ شُمولَه للجِنِّ والإنسِ بقَولِه:
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
ويُستَأنَسُ لهَذا بقَولِه تعالى:
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ؛ فإنَّه يُشيرُ إلى أنَّ في الجَنَّةِ جِنًّا يَطمِثونَ النِّساءَ كالإنسِ.
والجَوابُ عَن هَذا أنَّ آيةَ «الأحقافِ» نُصَّ فيها على الغُفرانِ والإجارةِ مِنَ العَذابِ، ولَم يُتَعَرَّض فيها لدُخولِ الجَنَّةِ بنَفيٍ ولا إثباتٍ، وآيةُ «الرَّحمَنِ» نُصَّ فيها على دُخولِهمُ الجَنَّةَ؛ لأنَّه تعالى قال فيها:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ.
وقد تَقَرَّر في الأصولِ أنَّ المَوصولاتِ من صيَغِ العُمومِ، فقَولُه:
وَلِمَنْ خَافَ يَعُمُّ كُلَّ خائِفٍ مَقامَ رَبِّه، ثُمَّ صَرَّحَ بشُمولِ ذلك
الجِنَّ والإنسَ مَعًا بقَولِه:
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
فبَيَّنَ أنَّ الوَعدَ بالجَنتَينِ لِمَن خافَ مَقامَ رَبِّه- من آلائِهِ، أي: نِعَمِه على الإنسِ و
الجِنِّ، فلا تَعارُضَ بَينَ الآيَتَينِ؛ لأنَّ إحداهُما بَيَّنَت ما لَم تَعرِضْ لَه الأُخرى.
ولَو سَلَّمْنا أنَّ قَولَه:
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يُفهَمُ مِنه عَدَمُ دُخولِهمُ الجَنَّةَ، فإنَّه إنَّما يَدُلُّ عليهِ بالمَفهومِ، وقَولُه:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَدُلُّ على دُخولِهمُ الجَنَّةَ بعُمومِ المَنطوقِ.
والمَنطوقُ مُقدَّمٌ على المَفهومِ كما تَقَرَّرَ في الأُصولِ.
ولا يَخفى أنَّا إذا أرَدْنا تَحقيقَ هَذا المَفهومِ المُدعى وجَدْناه مَعدومًا من أصلِه)
[4505])) يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 236). .
وفي قَولِ اللهِ تعالى:
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 56]. قال
الشَّوكانيُّ: (في هذه الآيةِ بَل في كثيرٍ من آياتِ هذه السُّورةِ دَليلٌ على أنَّ
الجِنَّ يَدخُلونَ الجَنَّةَ إذا آمَنوا باللهِ سُبْحانَه، وعَمِلوا بفَرائِضِه، وانتَهَوا عَن مَناهيه)
[4506] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/170). .
وقال
الألوسيُّ: (استُدِلَّ بالآيةِ على أنَّ
الجِنَّ يَدخُلونَ الجَنَّةَ، ويُجامِعونَ فيها كالإنسِ، فهم باقُون فيها مُنعَّمِينَ، كبَقاءِ المُعَذَّبينَ مِنهم في النَّارِ، وهوَ مُقتَضى ظاهِرِ ما ذَهَبَ إليهِ
أبو يوسُفَ و
مُحَمَّدٌ وابنُ أبي ليلى و
الأوزاعيُّ، وعليهِ الأكثَرُ، كما ذَكَره
العَينيُّ في شَرحِ البُخاريِّ من أنَّهم يُثابونَ على الطَّاعةِ، ويُعاقَبونَ على المَعصيةِ، ويَدخُلونَ الجَنَّةَ؛ فإنَّ ظاهِرَه أنَّهم كالإنسِ يَومَ القيامةِ)
[4507] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/118). .