المَبحَثُ الأوَّلُ: الِاستِعانةُ بالجِنِّ
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (المَقصودُ هُنا أنَّ
الجِنَّ مَعَ الإنسِ على أحوالٍ: فمَن كانَ مِنَ الإنسِ يَأمُرُ
الجِنَّ بما أمرَ اللهُ به ورَسولُه من عِبادةِ اللَّهِ وحدَه وطاعةِ نَبيَّهِ، ويَأمُرُ الإنسَ بذلك؛ فهَذا من أفضَلِ أولياءِ اللَّهِ تعالى، وهوَ في ذلك من خُلفاءِ الرَّسولِ ونُوَّابِه. ومَن كانَ يَستَعمِلُ
الجِنَّ في أمورٍ مُباحةٍ لَه فهوَ كمَنِ استَعمَلَ الإنسَ في أمورٍ مُباحةٍ لَه، وهَذا كأن يَأمُرَهم بما يَجِبُ عليهم ويَنهاهم عَمَّا حَرُمَ عليهم، ويَستَعمِلَهم في مُباحاتٍ لَه، فيَكونُ بمَنزِلةِ المُلوكِ الَّذينَ يَفعَلونَ مِثلَ ذلك، وهَذا إذا قدِّرَ أنَّه من أولياءِ اللهِ تعالى فغايَتُه أن يَكونَ في عُمومِ أولياءِ اللَّهِ مِثلَ النَّبيِّ المَلكِ مَعَ العَبدِ الرَّسولِ؛ كسُلَيمانَ ويوسُفَ مَعَ إبراهيمَ وموسى وعيسى ومُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أجمَعينَ. ومَن كانَ يَستَعمِلُ
الجِنَّ فيما يَنهى اللهُ عَنه ورَسولُه إمَّا في الشِّركِ وإمَّا في قَتلِ مَعصومِ الدَّمِ، أو في العُدوانِ عليهم بغَيرِ القَتلِ كتَمريضِهِ وإنسائِهِ العِلمَ وغَيرِ ذلك مِنَ الظُّلمِ، وإمَّا في فاحِشةٍ كجَلبِ مَن يَطلُبُ مِنه الفاحِشةَ؛ فهَذا قدِ استعانَ بهم على الإثمِ والعُدوانِ، ثُمَّ إنِ استعانَ بهم على الكُفْرِ فهوَ كافِرٌ، وإنِ استعانَ بهم على المَعاصي فهوَ عاصٍ؛ إمَّا فاسِقٌ وإمَّا مُذنِبٌ غَيرُ فاسِقٍ، وإن لَم يَكُن تامَّ العِلمِ بالشَّريعةِ فاستعان بهم فيما يَظُنُّ أنَّه مِنَ الكَراماتِ؛ مِثلَ أن يَستَعينَ بهم على الحَجِّ، أو أن يَطِيروا بهِ عِندَ السَّماعِ البِدْعيِّ أو أن يَحمِلوه إلى عَرَفاتٍ ولا يَحُجَّ الحَجَّ الشَّرعيَّ الَّذي أمرَه اللهُ بهِ ورَسولُه، وأن يَحمِلوه من مَدينةٍ إلى مَدينةٍ، ونَحو ذلك؛ فهَذا مَغرورٌ قد مَكَروا بهِ. وكَثيرٌ من هَؤُلاءِ قد لا يَعرِفُ أنَّ ذلك مِنَ
الجِنِّ، بَل قد سَمِعَ أنَّ أولياءَ اللهِ لَهم كراماتٌ وخَوارِقُ للعاداتِ ولَيسَ عِندَه من حَقائِقِ الإيمانِ ومَعرِفةِ القُرآنِ ما يُفَرِّقُ بهِ بَينَ الكَراماتِ الرَّحمانيَّةِ وبَينَ التَّلبيساتِ الشَّيطانيَّةِ، فيَمكُرونَ بهِ بحَسَبِ اعتِقادِه، فإن كانَ مُشرِكًا يَعبدُ الكَواكِبَ والأوثانَ أوهَموه أنَّه يَنتَفِعُ بتِلكَ العِبادةِ، ويَكونُ قَصدُه الِاستِشفاعَ و
التَّوَسُّلَ ممَّن صُوِّرَ ذلك الصَّنمُ على صورَتِهِ من مَلَكٍ أو نَبيٍّ أو شَيخٍ صالِحٍ، فيَظُنُّ أنَّه صالِحٌ، وتَكونُ عِبادَتُه في الحَقيقةِ للشَّيطانِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41].
ولِهَذا كانَ الَّذينَ يَسجُدونَ للشَّمسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ يَقصُدونَ السُّجودَ لَها فيقارِنُها
الشَّيطانُ عِندَ سُجودِهم؛ ليَكونَ سُجودُهم لَه؛ ولِهَذا يَتَمَثَّلُ
الشَّيطانُ بصورةِ مَن يَستَغيثُ بهِ المُشْرِكونَ. فإن كانَ نَصرانيًّا واستغاثَ بجِرجِس أو غَيرِه، جاءَ
الشَّيطانُ في صورةِ جِرجِس أو مَن يَستَغيثُ بهِ، وإن كانَ مُنتَسِبًا إلى الإسلامِ واستَغاثَ بشَيخٍ يُحسِنُ الظَّنَّ بهِ من شُيوخِ المُسْلِمينَ، جاءَ في صورةِ ذلك الشَّيخِ، وإن كانَ من مُشرِكي الهِندِ جاءَ في صورةِ مَن يُعظِّمُه ذلك المُشركُ)
[4528] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 307-309). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (مَسألةٌ: هَل يُمكِنُ التَّعاوُنُ بَينَ
الجِنِّ والإنسِ؟
والجَوابُ: أنَّ التَّعاوُنَ بَينَهُما إذا أمكَنَ فلا بَأسَ بهِ، وقد ذَكَرَ شَيخُ الإسلامِ رَحِمَه اللهُ أنَّ الِاستِعانةَ ب
الجِنِّ جائِزةٌ بشَرطَينِ: ألَّا يَكونَ الطَّريقُ الموصلُ إليها مُحَرَّمًا، وألَّا يَستَعينَ بهم على شَيءٍ مُحَرَّمٍ، فإن كانَتِ الطَّريقةُ مُحَرَّمةً، كأن يَقولوا: لا نُعينُكَ حَتَّى تَسجُدَ لَنا مَثَلًا. وهَذا لا يُمكِنُ أن يَقَعَ من مُؤْمِني
الجِنِّ؛ لأنَّ مُؤْمِنَ
الجِنِّ لا يُمكِنُ أن يَأمُرَ بالشِّركِ، لَكِن قد يَكونُ مُؤْمِنًا أو يَكونُ مُسْلِمًا وعِندَه فِسقٌ، فيَقولُ مَثَلًا للمَرأةِ: لا أعينُكِ حَتَّى تُمَكِّنيني من نَفسِكِ، أو يَكونُ عِندَه فاحِشةُ اللِّواطِ ويَقولُ للشَّابِّ: لا أعينُكَ حَتَّى تُمَكِّنَني من نَفسِكَ؛ فهَذا حَرامٌ، أو يَستَعينُ بهم على شَيءٍ مُحَرَّمٍ بأن يَقولَ لَهم: أحضِروا لي مالَ فلانٍ، فيَذهَبونَ ويُحضِرونَ إليهِ مالَ فلانٍ، فهَذا حَرامٌ؛ لأنَّه استعان بهم على المَعصيةِ وهيَ سَرِقةُ مالِ النَّاسِ، لَكِن إذا استَعانَ بهم على شَيءٍ مُباحٍ وبِطريقٍ مُباحٍ، فيَقولُ شَيخُ الإسلامِ رَحِمَه اللَّه: إنَّه لا بَأسَ بذلك)
[4529] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 498). .
وقد يَقَعُ من مُسْلِمي
الجِنِّ مُساعَدةٌ لإخوانِهم مِنَ الإنسِ أوِ العَكسُ دونَ طَلَبِ ذلك.
قال
ابنُ باز: (قد يُعينُهُمُ الإنسُ في بَعضِ المَسائِلِ وإن لَم يَعلَم بذلك الإنسُ؛ فقد يُعينونَهم على طاعةِ اللَّهِ ورَسولِهِ بالتَّعليمِ والتَّذكيرِ مَعَ الإنسِ، وقد يحضُرُ
الجِنُّ دَروسَ الإنسِ في المَساجِدِ وغَيرِها فيِستَفيدونَ من ذلك، وقد يَسمَعُ الإنسُ مِنهم بَعضَ الشَّيءِ الَّذي يَنفَعُهم، وقد يوقِظونَهم للصَّلاةِ، وقد يُنَبِّهونَهم على أشياءَ تَنفَعُهم وعَن أشياءَ تَضُرُّهم. فكُلُّ هَذا واقِعٌ وإن كانوا لا يَتَمَثَّلونَ للنَّاسِ. وقد يَتَمَثَّلُ
الجِنِّيُّ لبَعضِ النَّاسِ في دَلالَتِه على الخَيرِ أو في دَلالَتِه على الشَّرِّ؛ فقد يَقَعُ هَذا ولَكِنَّه قَليلٌ، والغالِبُ أنَّهم لا يَظهَرونَ للإنسانِ وإن سَمعَ صَوتَهم في بَعضِ الأحيانِ يوقِظونَه للصَّلاةِ أو يُخبِرونَه ببَعضِ الأخبارِ. فالحاصِلُ أنَّ
الجِنَّ مِنَ المُؤْمِنينَ لَهم مُساعَدةٌ للمُؤْمِنينَ وإن لَم يَعلَمِ المُؤْمِنونَ ذلك، ويُحِبُّونَ لَهم كُلَّ خَيرٍ. وهَكَذا المُؤْمِنونَ مِنَ الإنسِ يُحِبُّونَ لإخوانِهمُ المُؤْمِنين مِنَ
الجِنِّ كُلَّ خَيرٍ ويَسألونَ اللهَ لَهُمُ الخَيرَ. وقد يَحضُرونَ الدُّروسَ، ويُحِبُّونَ سَماعَ القُرآنِ والعِلمِ كما تقدَّمَ؛ فالمُؤْمِنونَ مِنَ
الجِنِّ يَحضُرونَ دُروسَ الإنسِ، في بَعضِ الأحيانِ وفي بَعضِ البِلادِ، ويَستَفيدونَ من دُروسِ الإنسِ، كُلُّ هَذا واقِعٌ ومَعلومٌ. وقد صَرَّحَ بهِ كثيرٌ من أهلِ العِلمِ مِمَّنِ اتَّصَلَ بهِ
الجِنُّ وسَألوه عَن بَعضِ المَسائِلِ العِلميَّةِ وأخبَرُوه أنَّهم يَحضُرونَ دُروسَه، كُلُّ هَذا أمرٌ مَعلومٌ، واللهُ المُستَعانُ)
[4530] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/ 372). .
أمَّا استِخدامُهم في العِلاجِ فلا يَنبَغي، وفيه مَحاذيرُ، قال
ابن باز: (لا يَنبَغي للمَريضِ استِخدامُ
الجِنِّ في العِلاجِ ولا يَسألُهم، بَل يَسألُ الأطِبَّاءَ المَعروفينَ، وأمَّا اللُّجوءُ إلى
الجِنِّ فلا؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى عِبادَتِهم وتَصديقِهم؛ لأنَّ في
الجِنِّ من هوَ كافِرٌ، ومن هوَ مُسْلِمٌ، ومن هوَ مُبتَدِعٌ، ولا تُعرَفُ أحوالُهم، فلا يَنبَغي الِاعتِمادُ عليهم، ولا يُسألونَ، ولَو تَمَثَّلوا لَكَ، بَل عليكَ أن تَسألَ أهلَ العِلمِ والطِّبِّ مِنَ الإنسِ، وقد ذَمَّ اللهُ المُشرِكينَ بقَولِه تعالى:
وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجِن: 6] ولِأنَّه وسيلةٌ للِاعتِقادِ فيهم والشِّركِ، وهوَ وسيلةٌ لطَلَبِ النَّفعِ مِنهم والِاستِعانةِ بهم، وذلك كُلُّه مِنَ الشِّركِ)
[4531] يُنظر: ))مجلة الدعوة)) (العدد: 1602/ ص: 34). .