المَبحَثُ الثَّاني: ما تُلْقيهِ الجِنُّ إلى الإنسِ
إنَّ العُلومَ والأخبارَ الَّتي يُلقيها الجِنُّ إلى الإنسِ على نَوعَين:1- ما يَتَعَلَّقُ بالأمورِ الغَيبيَّةِ.
2- ما يَتَعَلَّقُ بالأمورِ المَشهودةِ، أوِ الوَقائِعِ الماضيةِ.
القِسمُ الأوَّلُ: ما يَتَعَلَّقُ بالأمورِ الغَيبيَّةِ.
يُمكِنُ تَقسيمُه أيضًا إلى قِسمَين:
1- أن تَكونَ مِنَ الغَيبيَّاتِ الَّتي استَأثَرَ اللهُ بعِلمِها.
فهَذا مِنِ اختِصاصِ اللَّهِ، ولا يُمكِنُ لأيِّ مَخلوقٍ أن يَعرِفَ عَنه شَيئًا، سَواءٌ كانَ مِنَ المَلائِكةِ أوِ
الجِنِّ أوِ الإنسِ، ولا يَكونُ التَّحَدُّثُ عَن شَيءٍ من هَذا الغَيبِ إلَّا من قَبيلِ الِافتِراءِ على اللَّهِ، وهوَ يُناقِضُ الإيمانَ، ومُدَّعِيه كافِرٌ، لمُعارَضَتِهِ الآياتِ القِرآنيَّةَ الدَّالَّةَ على اختِصاصِ اللَّهِ بذلك.
قال اللهُ تعالى:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] .
قال
السَّعديُّ: (هذه الآيةُ العَظيمةُ من أعظَمِ الآياتِ تَفصيلًا لعِلمِه المُحيطِ، وأنَّه شامِلٌ للغُيوبِ كُلِّها، الَّتي يُطلِعُ مِنها ما شاءَ من خَلقِه، وكَثيرٌ مِنها طَوى عِلمَه عَنِ المَلائِكةِ المُقَرَّبينَ، والأنبياءِ المُرسَلينَ، فضلًا عَن غَيرِهم مِنَ العالَمينَ)
[4516] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 259). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65] .
قال الواحِديُّ: (
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ يَعني المَلائِكةَ،
وَالْأَرْضِ يَعني النَّاسَ،
الْغَيْبَ ما غابَ عَنِ العِبَادِ،
إلَّا اللَّهُ وحدَه،
وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ولا يَعلَمونَ مَتى يَكونُ البَعثُ، والمَعنى: أنَّ الله هوَ الَّذي يَعلَمُ الغَيبَ، ويَعلَمُ مَتى البَعثُ، لا غَيرُه)
[4517] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (3/ 383). .
2- أن تَكونَ مِنَ المُغَيَّباتِ الَّتي قَضى اللهُ أمْرَها في السَّماءِ وأصبَحَت مَعلومةً لذَويِ الِاختِصاصِ مِنَ المَلائِكةِ أو مِنَ البَشَرِ، مِمَّا يُطلِعُ اللهُ عليهِ من شاءَ من رُسُلِه عليهمُ السَّلامُ.
فالله تعالى إذا قَضى الأمرَ في السَّماءِ فتكلَّمَ بالأمرِ الَّذي يُوحيه إلى
جِبريلَ، أخبَرَ
جِبريلُ بذلك المَلائِكةَ، وقد يَسمَعُ مُستَرِقو السَّمعِ مِنَ
الجِنِّ الكَلِمةَ مِنَ السَّماءِ، فرُبَّما أدرَكَه الشِّهابُ قَبلَ أن يُلقيَ الكَلِمةَ للكاهِنِ في الأرضِ، ورُبَّما ألقاها قَبلَ أن يُدرِكَه، فيَكذِبُ مَعَها الكاهِنُ مِائةَ كَذْبةٍ
[4518] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قَضى اللهُ الأمرَ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكةُ بأجنِحَتِها خُضعانًا لقَولِه، كأنَّه سِلسِلةٌ على صَفْوانٍ، فإذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهم قالوا: ماذا قال رَبُّكُم؟ قالوا للَّذي قال: الحَقُّ، وهوَ العَلِيُّ الكَبيرُ، فيَسمَعُها مُستَرِقُ السَّمعِ، ومُستَرِقُ السَّمعِ هَكَذا بَعضُه فوقَ بَعضٍ -ووَصفَ سُفيانُ بكَفِّه فحَرفَها، وبَدَّدَ بَينَ أصابِعِه- فيَسمَعُ الكَلِمةَ فيُلقيها إلى من تَحتَه، ثُمَّ يُلقيها الآخَرُ إلى من تَحتَه، حَتَّى يُلقِيَها على لسانِ السَّاحِرِ أوِ الكاهِنِ، فرُبَّما أدرَكَ الشِّهابُ قَبلَ أن يُلقِيَها، ورُبَّما ألقاها قَبلَ أن يُدرِكَه، فيَكذِبُ مَعَها مِائةَ كَذْبةٍ، فيُقالُ: ألَيسَ قد قال لَنا يَومَ كذا: كذا وكَذا؟! فيُصَدَّقُ بتِلكَ الكَلِمةِ الَّتي سَمِعَ مِنَ السَّماءِ)). أخرجه البخاري (4800). .
فما تَسمَعُه المَلائِكةُ بَعدَ إلقاءِ الأمرِ إلى
جِبريلَ قد خَرَجَ عَنِ الغَيبِ الَّذي اختَصَّ بهِ اللَّهُ؛ إذ عَلِمتْ بهِ المَلائِكةُ، فعِندَئِذٍ تُحاوِلُ
الجِنُّ استِماعَ ذلك، فرُبَّما يَسمَعونَ كلِمةً، ورُبَّما لا يَسمَعونَ؛ لأنَّ الشُّهُبَ لَهم بالمِرصادِ.
وأمَّا قَولُ اللَّهِ تعالى:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجِن: 26، 27] فقد قال
القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى:
عَالِمُ الغَيْبُ... الغَيبُ ما غابَ عَنِ العِبادِ...
فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنَّه يُظهِرُه على ما يَشاءُ من غَيبِه؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُؤَيَّدونَ بالمُعجِزاتِ، ومِنها الإخبارُ عَن بَعضِ الغائِباتِ، وفي التَّنزيلِ:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49]. وقال ابنُ جُبَير:
إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ هوَ
جِبريلُ عليهِ السَّلامُ. وفيه بُعدٌ، والأَولى أن يَكونَ المَعنى: أي: لا يُظهِرُ على غَيبِهِ إلَّا مَنِ ارتَضى، أي: اصطَفى للنُّبوَّةِ؛ فإنَّه يُطلِعُه على ما يَشاءُ من غَيبِهِ؛ ليَكونَ ذلك دالًّا على نُبوَّتِه... قال العُلَماءُ رَحمةُ اللَّهِ عليهم: لما تَمدَّحَ سُبْحانَه بعِلمِ الغَيبِ واستَأثَرَ بهِ دونَ خَلقِه، كانَ فيه دَليلٌ على أنَّه لا يَعلَمُ الغَيبَ أحَدٌ سِواه، ثُمَّ استَثنى مَنِ ارتَضاه مِنَ الرُّسُلِ، فأودَعَهم ما شاءَ من غَيبِه بطَريقِ الوَحيِ إليهم، وجَعلَه مُعجِزةً لَهم ودَلالةً صادِقةً على نُبوَّتِهم. ولَيسَ المُنَجِّمُ ومن ضاهاه مِمَّن يَضرِبُ بالحَصى ويَنظُرُ في الكُتُبِ ويَزجُرُ بالطَّيرِ مِمَّنِ ارتَضاه من رَسولٍ فيُطلِعَه على ما يَشاءُ من غَيبِهِ، بَل هوَ كافِرٌ باللهِ مُفتَرٍ عليهِ بحَدْسِه وتَخمينِه وكَذِبِه)
[4519] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/27). .
والآيةُ لا تُناقِضُ الأحاديثَ الدَّالَّةَ على استِراقِ
الجِنِّ للسَّمعِ بَعدَ أن يُلقيَ اللهُ كلامَه إلى
جِبريلَ؛ لأنَّ ما يَسمَعونَه عِندَئِذٍ لا يُعتَبَرُ غَيبًا بالنِّسبةِ للمَلائِكةِ ولِمُستَرِقِ السَّمعِ.
وقِصَّةُ مَوتِ نَبيِّ الله سُلَيمانَ عليهِ السَّلامُ فيها دَليلٌ على أنَّ
الجِنَّ لا يَعلَمونَ الغَيبَ.
قال اللهُ تعالى:
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14] .
قال
القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى:
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي: فلَّما حَكَمنا على سُلَيمان بالمَوتِ حَتَّى صارَ كالأمرِ المَفروغِ مِنه ووَقَعَ بهِ المَوتُ
مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، وذلك أنَّه كانَ مُتَّكِئًا على المِنسَأةِ وهيَ العَصا... فمات كذلك وبَقيَ خافيَ الحالِ إلى أنَّ سَقَطَ ميتًا لانكِسارِ العَصا لأكلِ الأَرَضةِ إيَّاها، فعُلِمَ مَوتُه بذلك، فكانَتِ الأَرَضةُ دالَّةً على مَوتِه، أي: سَبَبًا لظُهورِ مَوتِه)
[4520] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/278). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (
الجِنُّ لا يَعلَمونَ الغَيبَ، ولا يَعلَمُ مَن في السَّمَواتِ والأرضِ الغَيبَ إلَّا اللهُ، واقرَأْ قَولَه تعالى:
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14] ومَنِ ادَّعى عِلمَ الغَيبِ فهوَ كافِرٌ. ومن صَدَّق مَن يَدَّعي عِلمَ الغَيبِ فإنَّه كافِرٌ أيضًا؛ لقَولِه تعالى:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] ، فلا يَعلَمُ غَيبَ السَّمَواتِ والأرضِ إلَّا اللهُ وَحْدَه)
[4521] يُنظر: ((فتاوى أركان الإسلام)) (ص: 98). .
القِسمُ الثَّاني: ما يَتَعَلَّقُ بالعُلومِ والأخبارِ ذاتِ الصِّلةِ بالأمورِ المَشهودةِ، أوِ الوَقائِعِ الماضيةِ.
هَذا مِمَّا يُمكِنُ للجِنِّ أن تُخبِرَ بهِ الإنسَ؛ لأنَّ لَدَيهم القُدرةَ على الِانطِلاقِ في آفاقٍ فسيحةٍ، والتَّنَقُّلِ بَينَ الأماكِنِ البَعيدةِ؛ لِما مَيَّزهُمُ اللهُ بذلك عَنِ الإنسانِ، وهَذا بالنِّسبةِ للإنسانِ غَيبٌ مِنَ الغُيوبِ لكَونِهِ لَم يُشاهِدْه، ولَم يَبلُغْه بطَريقٍ من طُرُقِ العِلمِ المُعتادةِ، وأمَّا بالنِّسبةِ للجِنِّ فهوَ واقِعٌ مَحسوسٌ ومُشاهَدٌ
[4522] يُنظر: ((التفسير القرآني للقرآن)) للخطيب (11/794). .
وقد يُخبِرونَ الإنسَ عَنِ الوَقائِعِ الماضيةِ بحُكمِ أعمارِهمُ الطَّويلةِ الَّتي تَزيدُ على أعمارِ الإنسِ؛ فقد يُخبِرونَ شَخصًا يَعيشُ اليَومَ عَن حَدَثٍ وقَعِ قَبلَ مِائةِ عامٍ أو أكثَرَ، وقد يَموتُ المَيِّتُ ويَبقى قَرينُه مِنَ
الجِنِّ، فيُخبِرونَ عَن أحوالِ المَيِّتِ، وقد حَصَلَ من ذلك الكَثيرُ كما ذَكرَ
ابنُ تَيميَّةَ [4523] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 283). .
وهَذا الإخبارُ من قِبَلِ
الجِنِّ للإنسِ عَنِ الأحوالِ الماضيةِ والأمورِ المُغَيَّبةِ عَنِ الإنسانِ قد يَكونُ
الجِنِّيُّ فيها صادِقًا وقد يَكونُ كاذِبًا؛ إذ في
الجِنِّ من يُشبِهونَ الإنسَ في الصِّدقِ والكَذِبِ.
كما أنَّه لا يَصِحُّ الوُثوقُ بشَيءٍ من أخبارِهم لانعِدامِ مَقاييسِ تَحديدِ الصَّادِقينَ والكاذِبينَ مِنهم بالنِّسبةِ إلينا؛ لكَونِه عالَمًا مُغَيَّبًا عَنَّا، ولِفُجورِ من تُلْقي إليهمُ
الجِنُّ بهذه الأخبارِ، فيُذيعونَها بدَورِهم بَينَ النَّاسِ، مَعَ ما يَدُسُّونَه فيها مِنَ الكَذِبِ.
وكَثيرٌ مِنَ النَّاسِ في الجاهِليَّةِ كانَتِ
الجِنُّ تُخبِرُهم ببَعضِ الأمورِ الَّتي تَغيبُ عَنِ الإنسِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (الأسوَدُ العَنسيُّ الَّذي ادَّعى النَّبوةَ كانَ لَه مِنَ الشَّياطينِ من يُخبِرُه ببَعضِ الأمورِ المُغيَّبةِ، فلمَّا قاتَلَه المُسْلِمونَ كانوا يَخافونَ مِنَ الشَّياطينِ أن يَخبِروه بما يَقولونَ فيه، حَتَّى أعانَتْهم عليهِ امرَأتُه لَمَّا تَبَيَّنَ لَها كُفْرُه، فقَتلوه، وكَذلك مُسَيلِمةُ الكَذَّابُ كانَ مَعَه مِنَ الشَّياطين من يُخبِرُه بالمُغَيَّباتِ، ويُعينُه على بَعضِ الأمورِ، وأمثالُ هَؤُلاءِ كثيرون)
[4524] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 284). .
وقال أيضًا: (
الشَّيطانُ يُضِلُّ بني آدَم بحَسَبِ قُدرَتِهِ؛ فمن عَبدَ الشَّمسَ والقَمَرَ والكَواكِبَ، ودَعاها كما يَفعَلُ أهلُ دَعوةِ الكَواكِبِ، فإنَّه يَنزِلُ عليهِ شَيطانٌ يُخاطِبُه ويُحدِّثُه ببَعضِ الأمورِ، ويُسَمُّونَ ذلك: رُوحانيَّةَ الكَواكِبِ، وهوَ شَيطانٌ. و
الشَّيطانُ وإنْ أعانَ الإنسانَ على بَعضِ مَقاصِدِهِ فإنَّه يَضُرُّه أضعافَ ما يَنفَعُه، وعاقِبةُ من أطاعَه إلى شَرٍّ، إلَّا أن يَتَوبَ اللهُ عليهِ، وكَذلك عُبَّادُ الأصنامِ قد تُخاطِبُهُمُ الشَّياطينُ، وكَذلك مَنِ استَغاثَ بميِّتٍ أو غائِبٍ)
[4525] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 292). .
وقال أيضًا: (لهَذا مَن تَكون أخبارُه عَن شياطينَ تُخبِرُه لا يُكاشِفُ أهلَ الإيمانِ والتَّوحيدِ وأهْلَ القُلوبِ المُنوَّرةِ بنُورِ اللهِ، بَل يَهرُبُ مِنهم، ويَعتَرِفُ أنَّه لا يُكاشِفُ هَؤُلاءِ وأمثالَهم، وتَعتَرِفُ
الجِنُّ والإنسُ -الَّذينَ تَكونُ خَوارِقُهم بمُعاوَنةِ
الجِنِّ لَهم- أنَّهم لا يُمكِنُهم أن يُظهِروا هذه الخَوارِقَ بحَضرةِ أهلِ الإيمانِ والقُرآنِ، ويَقولونَ: أحوالُنا لا تَظهَرُ قُدَّامَ الشَّرعِ والكِتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّما تَظهَرُ عِندَ الكُفَّارِ والفُجَّارِ، وهَذا لأنَّ أولَئِكَ أولياءُ الشَّياطينِ، ولَهم شياطينُ يُعاوِنونَ شياطينَ المَخدومين، ويَتَّفِقونَ على ما يَفعَلونَه مِنَ الخَوارِقِ الشَّيطانيَّةِ)
[4526] يُنظر: ((النبوات)) (2/ 1023). .
ويَنبَغي أن يُعلَمَ أنَّ ما تُخبِرُ بهِ الأنبياءُ مِنَ الأمورِ المَشهودةِ لَيسَ مِمَّا تَقدِرُ عليهِ الشَّياطينُ، وإن قدِّرَ أنَّه من جِنسِ ما تَقْدِرُ الشَّياطينُ عليهِ، فالمُمَيِّزُ في هذه الحالِ بَينَ النَّبيِّ والكاهِنِ اختِلافُ حالَيهما قَولًا وعَمَلًا.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا ما يَعلَمُه بَعضُ المَخلوقين فهوَ غَيبٌ عَمَّن لَم يَعلَمْه، وهوَ شَهادةٌ لِمن عَلِمَه.
فهَذا أيضًا تُخبِرُ مِنه الأنبياءُ بما لا يُمكِنُ الشَّياطينُ أن تُخبِرَ به، كما في إخبارِ المَسيحِ بقَولِه:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فإنَّ
الجِنَّ قد يُخبِرونَ بما يَأكُلُه بَعضُ النَّاسِ، وبِما يَدَّخِرونَه، لَكِنَّ الشَّياطينَ إنَّما تَتَسَلَّطُ على مَن لا يَذكُرُ اسمَ اللَّهِ، كالَّذي لا يَذكُرُ اسمَ اللَّهِ إذا دَخَلَ، فيَدخُلونَ مَعَه، وإن لَم يَذكُرِ اسمَ اللهِ إذا أكَلَ، فإنَّهم يَأكُلونَ مَعَه.
وكَذلك إذا ادَّخَرَ شَيئًا، ولَم يَذكُرِ اسمَ اللهِ عليهِ، عَرَفوا بهِ، وقد يَسرِقونَ بَعضَه، كما جَرى هَذا لكَثيرٍ مِنَ النَّاسِ.
وأمَّا مَن يَذكُرُ اسمَ اللَّهِ على طَعامِه، وعلى ما يَختارُه، فلا سُلطانَ لَهم عليهِ، لا يَعرِفونَ ذلك، ولا يَستَطيعونَ أخذَه.
والمُسيحُ عليهِ السَّلامُ كانَ يُخبِرُ المُؤْمِنينَ بما يَأكُلونَ وما يَدَّخُرونَ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ، والشَّياطينُ لا تَعلَمُ به)
[4527] يُنظر: ((النبوات)) (2/ 1022). .