المَبحَثُ الثَّاني: من خصائِصِ القُرْآنِ الكَريمِ إعجازُه
القُرْآنُ الكريمُ هو الحُجَّةُ التي أظهرها اللهُ سُبحانَه وتعالى على يَدِ نبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتحدى النَّاسَ أن يأتوا بمِثْلِه، أو بشَيءٍ منه، فما استطاعوا ولن يَستطيعوا.
وجاءت المُعْجِزةُ قُرْآنًا يَقرَؤُه العَرَبُ بألسِنَتِهم، ويَسمَعونه بآذانِهم، ويَزِنونَه بموازينِ كَلامِهم، فإذا به أبلَغُ من بليغِ الكَلامِ، وأفصَحُ مِن فَصيحِه، لا يرتقي إليه بيانٌ، ولا يُدرِكُه لسانٌ، فمَلَك
البلاغةَ بألوانِها، وحاز الفصاحةَ بأركانِها. وجاءهم بما لا قِبَلَ لهم برَدِّه، ولا قُدرةَ لهم في دَفْعِه.
ثمَّ هذا الكلامُ لم يأخُذْ من اللُّغةِ صَنْعَتَها، ومن الأسلوبِ جمالَه، ومن الفصاحةِ رَونَقَها، ومن
البلاغةِ سُمُوَّها فحَسْبُ، بل أخذ مع هذا كُلِّه من المعاني أسماها، ومن المقاصِدِ أعلاها، فجاء بالدِّينِ بأصولِه وحُجَجِه، وبراهِينِه وشريعتِه وآدابِه، على أكمَلِ وَجهٍ وأحسَنِه، فهو إعجازٌ في إعجازٍ
[283] يُنظر: ((خصائص القرآن الكريم)) لفهد الرومي (ص: 95). !
قال عِياضٌ في ذِكْرِه المكَفِّراتِ المجمَعِ عليها: (وكذلك من أنكر القُرْآنَ أو حرفًا منه، أو غَيَّرَ شيئًا منه، أو زاد فيه -كفِعلِ الباطنيَّةِ والإسماعيليَّةِ- أو زعم أنَّه ليس بحُجَّةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو ليس فيه حُجَّةٌ ولا مُعْجِزةٌ)
[284])) يُنظر: ((الشفا)) (2/ 289). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (القُرْآنُ مُعْجِزٌ بلَفْظِه ونَظْمِه ومَعناه)
[285])) يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 220). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (القُرْآنُ العَظيمُ مُعجِزٌ مِن وُجوهٍ كثيرةٍ؛ من فصاحتِه، وبلاغتِه، ونَظْمِه، وتراكيبِه، وأساليبِه، وما تضَمَّنه من الإخبارِ بالغُيوبِ الماضيةِ والمُستقبَلةِ، وما اشتمل عليه من الأحكامِ المُحْكَمةِ الجَلِيَّة؛ فالتحدِّي ببلاغةِ ألفاظِه يخُصُّ فُصَحاءَ العَرَبِ، والتحَدِّي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحةِ الكاملةِ -وهي أعظَمُ في التحدِّي عند كثيرٍ من العُلَماءِ- يعُمُّ جميعَ أهلِ الأرضِ مِن المِلَّتينِ؛ أهلِ الكِتابَينِ وغَيرِهم من عُقَلاءِ اليونانِ والهندِ والفُرسِ والقِبطِ وغَيرِهم من أصنافِ بني آدمَ في سائرِ الأقطارِ والأعصارِ)
[286])) يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 547). .
وقال
ابنُ رجب: (قَولُه تعالى:
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران: 164] يعني: يتلو عليهم ما أنزله اللهُ عليه من آياتِه المتلُوَّةِ، وهو القُرْآنُ، وهو أعظَمُ الكُتُبِ السَّماويَّةِ، وقد تضمَّن من العلومِ والحِكَمِ والمواعِظِ والقَصَصِ والترغيبِ والترهيبِ، وذِكْرِ أخبارِ من سبق وأخبارِ ما يأتي من البَعثِ والنُّشورِ والجنَّةِ والنَّارِ؛ ما لم يشتَمِلْ عليه كِتابٌ غيرُه، حتى قال بعضُ العُلَماءِ: لو أنَّ هذا الكِتابَ وُجِد مكتوبًا في مُصحَفٍ في فلاةٍ مِن الأرضِ ولم يُعلَمْ من وضعه هناك، لشهدت العقولُ السليمةُ أنَّه مُنَزَّلٌ من عند اللهِ، وأنَّ البشَرَ لا قُدرةَ لهم على تأليفِ ذلك، فكيف إذا جاء على يدَيْ أصدَقِ الخَلقِ وأبَرِّهم وأتقاهم، وقال: إنَّه كلامُ اللهِ، وتحدى الخَلْقَ كُلَّهم أن يأتوا بسورةٍ مِثْلِه فعجزوا فيه؟! فكيف مع هذا شَكٌّ؟! ولهذا قال تعالى:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ، وقال:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] فلو لم يكن لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المعجزاتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِه غيرُ هذا الكِتابِ لكفاه)
[287])) يُنظر: ((لطائف المعارف)) (ص: 84). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قد جمع بعضُهم إعجازَ القُرْآنِ في أربعةِ أشياءَ:
أحَدُها: حُسنُ تأليفِه والتئامُ كَلِمِه، مع الإيجازِ و
البلاغةِ.
ثانيها: صورةُ سِياقِه وأسلوبُه المخالِفُ لأساليبِ كَلامِ أهلِ
البلاغةِ مِنَ العَرَبِ نَظمًا ونثرًا، حتى حارت فيه عقولُهم، ولم يَهْتَدُوا إلى الإتيانِ بشَيءٍ مِثْلِه، مع توفُّرِ دواعيهم على تحصيلِ ذلك، وتقريعِه لهم على العَجزِ عنه.
ثالِثُها: ما اشتمل عليه من الإخبارِ عمَّا مضى من أحوالِ الأُمَمِ السَّالِفةِ والشَّرائعِ الدَّاثِرةِ، ممَّا كان لا يَعلَمُ منه بَعْضَه إلَّا النَّادِرُ من أهلِ الكِتابِ.
رابعُها: الإخبارُ بما سيأتي من الكوائِنِ التي وقع بعضُها في العَصرِ النَّبَويِّ وبَعضُها بَعْدَه.
ومن غَيرِ هذه الأربعةِ آياتٌ وردت بتعجيزِ قَومٍ في قضايا أنَّهم لا يفعَلونها فعَجَزوا عنها، مع توفُّرِ دواعيهم على تكذيبِه، كتمَنِّي اليهودِ الموتَ.
ومنها: الرَّوعةُ التي تحصُلُ لسَماعِه.
ومنها: أنَّ قارِئَه لا يَمَلُّ مِن تَردادِه، وسامِعَه لا يَمجُّه، ولا يزدادُ بكثرةِ التَّكرارِ إلَّا طراوةً ولذاذةً.
ومنها: أنَّه آيةٌ باقيةٌ لا تَعدَمُ ما بَقِيَت الدُّنيا.
ومنها: جَمعُه لعلومٍ ومعارِفَ لا تنقضي عجائِبُها، ولا تنتهي فوائِدُها)
[288])) يُنظر: ((فتح الباري)) (9/7). .
وقال
السيوطيُّ: (أخبر أنَّ الكِتابَ آيةٌ مِن آياتِه كافٍ في الدَّلالةِ قائِمٌ مَقامَ مُعْجِزاتِ غَيرِه وآياتِ مَن سِواه من الأنبياءِ، ولَمَّا جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم وكانوا أفصَحَ الفُصَحاءِ ومصاقِعَ الخُطَباءِ وتحَدَّاهم على أن يأتوا بمِثْلِه وأمهلَهم طولَ السِّنينَ، فلم يَقدِروا، كما قال تعالى:
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 34]، ثمَّ تحَدَّاهم بعَشرِ سُوَرٍ منه في قَولِه تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 13، 14]، ثمَّ تحَدَّاهم بسورةٍ في قَولِه:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] الآية، ثمَّ كَرَّر في قَولِه:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] الآية، فلمَّا عجزوا عن معارضتِه والإتيانِ بسُورةٍ تُشبِهُه على كثرةِ الخُطَباءِ فيهم والبُلَغاءِ، نادى عليهم بإظهارِ العَجزِ وإعجازِ القُرْآنِ، فقال:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ، هذا وهم الفُصَحاءُ اللُّدُّ، وقد كانوا أحرَصَ شَيءٍ على إطفاءِ نُورِه وإخفاءِ أَمْرِه، فلو كان في مَقدِرَتِهم معارضَتُه لعَدَلوا إليها قَطعًا للحُجَّةِ، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه حَدَّث نَفْسَه بشيءٍ من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى العِنادِ تارةً، وإلى الاستهزاءِ أُخرى؛ فتارةً قالوا: (سِحْرٌ)، وتارةً قالوا: (شِعْرٌ)، وتارةً قالوا: (أَسَاطِيرُ الأوَّلينَ)، كُلُّ ذلك من التحَيُّرِ والانقطاعِ، ثمَّ رَضُوا بتحكيمِ السَّيفِ في أعناقِهم، وسَبْيِ ذرارِيِّهم وحُرَمِهم، واستباحةِ أموالِهم، وقد كانوا آنَفَ شَيءٍ وأشَدَّه حَمِيَّةً، فلو عَلِموا أنَّ الإتيانَ بمِثْلِه في قُدرَتِهم لبادَروا إليه؛ لأنَّه كان أهوَنَ عليهم)
[289])) يُنظر: ((الإتقان)) (5/1875). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (هذا القُرْآنُ مُعْجِزةٌ خالِدةٌ أبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدَّاهِرينَ، لا تفنى عجائبُه، ولا يُدرَكُ غايةُ إعجازِه، ولا يندَرِسُ بمرورِ الأعصارِ، ولا يُمَلُّ مع التَّكرارِ، بل يُجلى مع ذلك ويتجَلَّى، ويعلو على غيرِه ولا يُعلى، وكُلُّ مُعْجِزةٍ قَبْلَه انقضت بانقضاءِ زَمانِها ولم يَبْقَ إلَّا تَذْكارُها، وهو كُلَّ يومٍ براهينُه في مَزيدٍ، ومُعْجِزاتُه في تجديدٍ
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] )
[290] يُنظر: ((معارج القبول)) (3/1121). .
وقال مُحَمَّد دِرَاز: (ما جاء في التحَدِّي بهذا القُرْآنِ وتعجيزِ العالَمِ كُلِّه عن الإتيانِ بمِثْلِه
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ،
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] .
فانظر هذا النَّفيَ المؤكَّد، بل الحُكمَ المُؤَبَّد! هل يستطيعُ عَرَبيٌّ يدري ما يقولُ أن يُصدِرَ هذا الحُكمَ وهو يعلَمُ أنَّ مجالَ المُساجَلاتِ بين العَرَبِ مفتوحٌ على مِصراعَيه، وأنَّ الناقِدَ المتأخِّرَ متى أعمَلَ الرَّوِيَّةَ في تعَقُّبِ قَولِ القائِلِ المتقَدِّمِ لا يُعْيِيه أن يجِدَ فيه فائِتًا لِيُستدرَك، أو ناقِصًا ليُكمَل، أو كلامًا ليزدادَ كَمالًا؟! ألم يكُنْ يخشى بهذا التحَدِّي أن يُثيرَ حَمِيَّتَهم الأدبيَّةَ فيَهُبُّوا لمنافَستِه وهم جميعٌ حَذِرونَ؟! وماذا عساه يصنَعُ لو أنَّ جماعةً من بُلَغائِهم تعاقدوا على أن يضَعَ أحَدُهم صيغةَ المعارضةِ، ثمَّ يتناوَلَها سائِرُهم بالإصلاحِ والتهذيبِ، كما كانوا يصنعون في نَقدِ الشِّعرِ، فيُكمِل ثانيهم ما نَقَصَه أوَّلُهم، وهكذا، حتى يُخرِجوا كلامًا إنْ لم يَبُزَّه فلا أقَلَّ من أن يُسامِيَه ولو في بَعضِ نواحيه؟ ثمَّ لو طَوَّعت له نَفْسُه أن يُصدِرَ هذا الُحكمَ على أهلِ عَصْرِه فكيف يُصدِرُه على الأجيالِ القادِمةِ إلى يومِ القيامةِ، بل على الإنسِ والجِنِّ؟! إنَّ هذه مُغامَرةٌ لا يتقَدَّمُ إليها رجُلٌ يَعرِفُ قَدْرَ نَفْسِه إلَّا وهو مالِئٌ يَدَيه من تصاريفِ القَضاءِ، وخَبَرِ السَّماءِ، وهكذا رماها بين أظهُرِ العالَمِ، فكانت هي القَضاءَ المُبْرَمَ سُلِّط على العُقولِ والأفواه، فلم يَهُمَّ بمعارضتِه إلَّا باءَ بالعَجزِ الواضِحِ، والفَشَلِ الفاضِحِ، على مَرِّ العُصورِ والدُّهورِ!)
[291])) يُنظر: ((النبأ العظيم)) (ص: 73). .