الفَصْلُ الثَّالِثُ: عدَمُ استغناءِ العَقلِ عن الوَحيِ
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (الأنبياءُ جاؤوا بما تَعجِزُ العقولُ عن معرفتِه، ولم يجيئوا بما تعلَمُ العُقولُ بُطلانَه، فهم يُخبِرُون بمحاراتِ العُقولِ لا بمُحالاتِ العُقولِ)
[748] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/312). .
وقال أيضًا: (إنَّ الخَلْقَ لا يَعْلَمون ما يحبُّه اللهُ ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعدَّه لأُوليائه من كرامتِه وما وعد به أعداءَه من عذابِه، ولا يعرفون ما يستحِقُّه اللهُ تعالى من أسمائِه الحُسنى وصِفاتِه العُلْيا التي تَعجِزُ العُقولُ عن معرفتِها، وأمثالَ ذلك؛ إلَّا بالرُّسُلِ الذين أرسلهم اللهُ إلى عبادِه)
[749] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/121). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (فمِن أين للعَقلِ معرفةُ اللهِ تعالى بأسمائِه وصِفاتِه وآلائِه التي تعَرَّف بها اللهُ إلى عبادِه على ألسِنَةِ رُسُلِه؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيلِ شَرْعِه ودينِه الذي شرعه لعبادِه؟ ومِن أين له تفاصيلُ مواقِعِ محبَّتِه ورِضاه، وسَخَطِه وكَراهتِه؟ ومن أين له معرفةُ تفاصيلِ ثوابِه وعِقابِه، وما أعدَّ لأُوليائه، وما أعدَّ لأعدائه، ومقاديرِ الثوابِ والعِقابِ، وكيفيَّتِهما، ودرجاتِهما؟ ومن أين له معرفةُ الغيبِ الذي لم يُظهِرِ اللهُ عليه أحدًا من خَلْقِه إلَّا من ارتضاه من رُسُلِه؟ إلى غيرِ ذلك مِمَّا جاءت به الرُّسُلُ، وبلَّغَته عن اللهِ، وليس في العَقلِ طريقٌ إلى معرفتِه)
[750] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/1155). .
وقال أيضًا: (العقلُ يُدرِكُ حُسنَ العَدْلِ، وأمَّا كونُ هذا الفِعلِ المُعَيَّنِ عَدلًا أو ظُلمًا فهذا مِمَّا يَعجِزُ العَقلُ عن إدراكِه في كلِّ فِعلٍ وعَقدٍ. وكذلك يَعجِزُ عن إدراكِ حُسنِ كُلِّ فِعلٍ وقُبحِه إلى أن تأتيَ الشَّرائعُ بتفصيلِ ذلك وتبيينِه، وما أدركه العَقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشَّرائعُ بتقريرِه، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتَدِ العَقلُ لوَقتِ حُسْنِه من وقتِ قُبحِه أتت الشَّرائعُ بالأمرِ به في وَقتِ حُسنِه، وبالنَّهيِ عنه في وَقتِ قُبحِه.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مُشتَمِلًا على مصلحةٍ ومَفسدةٍ، ولا تَعلَمُ العُقولُ أمَفسَدتُه أرجَحُ أم مصلَحَتُه؟ فيتوقَّفُ العَقلُ في ذلك، فتأتي الشَّرائعُ ببيانِ ذلك، وتأمُرُ براجِحِ المصلحةِ، وتنهى عن راجِحِ المفسدةِ.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مصلحةً لشَخصٍ مَفسدةً لغَيرِه، والعَقلُ لا يدرِكُ ذلك، فتأتي الشَّرائعُ ببيانِه، فتأمُرُ به من هو مصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مَفسَدةٌ في حَقِّه.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مَفسَدةً في الظَّاهِرِ، وفي ضِمْنِه مَصلحةٌ عَظيمةٌ لا يهتدي إليها العقلُ، فلا تُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ، كالجِهادِ والقَتلِ في اللهِ. ويَكونُ في الظَّاهِرِ مصلحةٌ، وفي ضِمْنِه مَفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العَقلُ، فتجيء الشَّرائعُ ببيانِ ما في ضِمْنِه من المصلحةِ والمفسدةِ الرَّاجِحةِ)
[751] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/1153). .
وقال السفاريني: (إنَّ اللهَ تعالى خلق العقولَ، وأعطاها قُوَّةَ الفِكرِ، وجعل لها حَدًّا تقف عنده من حيث ما هي مُفَكِّرةٌ، لا من حيث ما هي قابلةٌ للوَهبِ الإلهيِّ، فإذا استعملت العقولُ أفكارَها فيما هو في طَورِها وَحَدِّها ووَفَّت النَّظَرَ حَقَّه، أصابت بإذنِ اللهِ تعالى، وإذا سلَّطت الأفكارَ على ما هو خارجٌ عن طورِها ووراءَ حَدِّها الذي حَدَّه اللهُ لها، رَكِبَت مَتْنَ عَمياءَ، وخبَطَت خَبطَ عَشواءَ، فلم يَثبُتْ لها قَدَمٌ، ولم ترتكِنْ على أمرٍ تَطمَئِنُّ إليه، فإنَّ معرفةَ اللهِ التي وراءَ طَورِها مِمَّا لا تستَقِلُّ العقولُ بإدراكِها من طريقِ الفِكرِ وترتيبِ المقَدِّماتِ، وإنما تُدرِك ذلك بنور النُّبُوَّةِ وولايةِ المتابعةِ، فهو اختِصاصٌ إلهيٌّ يختصُّ به الأنبياءُ وأهلُ وِراثتِهم مع حُسنِ المتابعةِ، وتصفيةِ القَلبِ مِن وَضَرِ البِدَعِ والفِكرِ مِن نَزَغاتِ الفَلسَفةِ، واللهُ يختَصُّ برحمتِه من يشاءُ، واللهُ ذو الفَضلِ العظيمُ)
[752] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/105). .
وقال
مُحَمَّد رشيد رضا: (العَقلُ والعِلْمُ البَشَريُّ لا يُغْنيانِ عن هدايةِ الرُّسُلِ. فإن قيل: إنَّ الإيماَن بالغَيبِ ووجودِ الرَّبِّ غريزيٌّ في الفِطرةِ البَشَريَّةِ كما حقَّقتُم، أو إلهامٌ من إلهاماتِها يُلقى في رُوعِ أفرادِها عند نموِّ إدراكِهم، وأنَّ بَعْضَ الحُكَماءِ المفَكِّرين قد ارتَقَوا في معارِفِهم العقليَّةِ إلى حيث أقاموا البراهينَ على وُجودِ واجِبِ الوجودِ وعِلْمِه وحِكْمَتِه، ووجوبِ تعظيمِه وشُكْرِه وعبادتِه، وقد قرَّر بَعضُهم بقاءَ النَّفسِ بعد الموتِ وخُلودَها في نعيمٍ مُقيمٍ أو عذابٍ أليمٍ، ووضعوا للنَّاسِ أصولَ الفضائِلِ والتشريعِ والآدابِ التى تصلُحُ بها الإنسانيَّةُ وروابِطُ الاجتماعِ.
قلتُ: نعم، لكُلِّ ذلك أصلٌ يُثبِتُه التاريخُ الماضي، ويَشهَدُه العصرُ الحاضِرُ. ولكِنْ بين هدايةِ الأنبياءِ وحِكْمةِ الحُكَماءِ وعُلومِهم فروقًا في مصدَرِ كُلٍّ منهما، وفي الثِّقةِ بصِحَّتِه، وفي الإذعانِ لحَقِّيَّتِه، وفي تأثيرِه في أنفُسِ جميعِ طَبَقاتِ المُخاطَبينَ.
فحِكمةُ الحُكَماءِ وعُلومُهم آراءٌ بَشَريَّةٌ ناقِصةٌ، وظنونٌ لا تبلُغُ من عالمِ الغيبِ إلَّا أنَّه موجودٌ مجهولٌ، وهي عُرضةٌ للتَّخطِئةِ والخِلافِ، ولا يَفهَمُها إلَّا فئةٌ مخصوصةٌ مِنَ النَّاسِ، وما كُلُّ من يفهَمُها يَقْبَلُها، ولا كُلُّ من يَقْبَلُها ويعتَقِدُ صِحَّتَها يرجِّحُها على هواه وشهواتِه؛ إذ لا سلطانَ لها على وِجدانِ العالِمِ بها، فلا يَكونُ لها تأثيرُ الإيمانِ وإسلامُ الإذعانِ والتعَبُّدِ؛ لأنَّ النوعَ البشَريَّ يأبى طَبعُه وغريزتُه أن يدينَ ويخضَعَ خُضوعَ التعَبُّدِ لِمن هو مِثْلُه في بشريَّتِه وإن فاقه في عِلْمِه وحِكْمتِه، وإنما يَدِينُ لِمن يعتَقِدُ أنَّ له سلطانًا غيبيًّا عليه بما يملِكُه من القُدوةِ على النَّفعِ والضُّرِّ بذاتِه، دون الأسبابِ الطبيعيَّةِ المبذولةِ لجَميعِ النَّاسِ بحسَبِ سُنَنِ الكونِ ونِظامِه)
[753] يُنظر: ((الوحي المحمدي)) (ص: 34). .
إنَّ وظيفةَ العَقلِ في مجالِ العُلومِ المنَزَّلةِ مِنَ اللهِ أن ينظُرَ فيها، ليستوثِقَ مِن صِحَّةِ نِسبتِها إلى اللهِ تعالى، فإن تبيَّنَ له صحَّةُ ذلك فعليه أن يستوعِبَ وَحيَ اللهِ إليه، ويستخدِمَ العَقلَ الذي وهبه اللهُ إيَّاه في فَهمِ وتدَبُّرِ الوَحيِ، ثُمَّ يجتَهِدَ في العَمَلِ به. والوَحيُ مع العَقلِ كنُورِ الشَّمسِ أو الضَّوءِ مع العينِ، فإذا حُجِبَ الوحيُ عن العقلِ لم ينتَفِعِ الإنسانُ بعَقْلِه، كما أنَّ المبصِرَ لا ينتَفِعُ بعينِه إذا عاش في ظُلمةٍ
[754] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 35). .