الفَصْلُ الأوَّلُ: النبُوَّةُ مِنحةٌ إلهيَّةٌ
النُّبُوَّةُ مِنحةٌ إلهيَّةٌ ونِعمةٌ ربَّانيَّةٌ يَصطفي اللهُ لها من يشاءُ مِن عِبادِه.
قال اللهُ تعالى:
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا [مريم: 58] .
قال
السَّعْديُّ: (
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أي: أنعم اللهُ عليهم نعمةً لا تُلحَقُ، ومِنَّةً لا تُسبَقُ، مِن النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ، وهم الذين أُمِرْنا أن ندعوَ اللهَ أن يهديَنا صِراطَ الَّذين أنعَمْتَ عليهم، وأنَّ من أطاع اللهَ كان
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الآية)
[693] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
وحكى اللهُ سُبحانَه قَولَ يَعقوبَ لابنِه يُوسُفَ عليهما السَّلامُ:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يوسف: 6] .
قال
الشَّوكانيُّ: (قَولُه:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي: مِثلَ ذلك الاجتباءِ البديعِ الذي رأيتَه في النَّومِ مِن سُجودِ الكواكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ، يجتبيك رَبُّك ويحقِّقُ فيك تأويلَ تلك الرُّؤيا، فيَجعَلُك نَبِيًّا، ويصطفيك على سائِرِ العبادِ، ويُسَخِّرُهم لك كما تسخَّرَت لك تلك الأجرامُ التي رأيتَها في منامِك؛ فصارت ساجِدةً لك)
[694] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/ 7). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ لموسى عليه السَّلامُ:
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 144] .
قال
الشَّوكانيُّ: (الاصطِفاءُ: الاجتِباءُ والاختيارُ، أي: اختَرْتُك على النَّاسِ المعاصِرين لك برسالتي. كذا قرأ
نافِعٌ و
ابنُ كثيرٍ بالإفرادِ، وقرأ الباقون بالجَمعِ. والرِّسالةُ مَصدَرٌ، والأصلُ فيه الإفرادُ، ومن جمع فكأنَّه نظر إلى أنَّ الرِّسالةَ هي على ضُروبٍ، فجَمَعَ لاختلافِ الأنواعِ، والمرادُ بالكَلامِ هنا: التكليمُ. امتنَّ اللهُ سُبحانَه عليه بهذينِ النوعينِ العظيمينِ مِن أنواعِ الإكرامِ، وهما: الرِّسالةُ والتكليمُ من غيرِ واسِطةٍ)
[695] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 278). .
وقال اللهُ تعالى حاكيًا اقتراحَ كُفَّارِ قُرَيشٍ ومُبَيِّنًا رَدَّه لذلك:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 31-32] .
قال
القُرطُبيُّ: (قال اللهُ تعالى:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النُّبُوَّةَ، فيَضعونَها حيث شاؤوا
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: أفقَرْنا قومًا وأغنينا قومًا، فإذا لم يَكُنْ أمرُ الدُّنيا إليهم، فكيف يُفوَّضُ أمرُ النُّبُوَّةِ إليهم؟!)
[696] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/83). .
والنُّبُوَّةُ لا تُنالُ بمجَرَّدِ الرَّغبةِ ولا بطُولِ المجاهَدةِ.
قال السَّفَّارينيُّ: (مَذهَبُ أهلِ الحَقِّ أنَّ النُّبُوَّةَ لا تُنالُ بمجَرَّدِ الكَسْبِ بالجِدِّ والاجتهادِ، وتكَلُّفِ أنواعِ العباداتِ، واقتِحامِ أشَقِّ الطَّاعاتِ، وتَدَؤُّبٍ في تهذيبِ نَفْسِه، وتنقيةِ خواطِرِه وتطهيرِ أخلاقِه، ورياضةِ نَفْسِه وبَدَنِه، وتهذيبِ ذلك، «لكِنَّها» أي: النُّبُوَّةَ والرِّسالةَ «فضلٌ من المولى الأجَلِّ» سُبحانَه وتعالى يؤتيه من شاء ممَّن سبق عِلمُه وإرادتُه الأزليَّانِ باصطفائِه لها؛ فاللهُ أعلَمُ حيث يجعلُ رِسالتَه، وهذا خِلافُ قَولِ الفلاسِفةِ المشَّائِين المجوِّزين اكتسابَ النُّبُوَّةِ بزَعْمِهم أنَّ من لازم الخَلوةَ والعِبادةَ ودوامَ المراقَبةِ، وتناوَلَ الحلالَ وإخلاءَ نَفْسِه من الشَّواغِلِ العائقةِ عن المشاهدةِ بعد كمالِ ظاهِرِه وباطِنِه بالتهذيبِ والرِّياضةِ؛ انصقَلَت مرآةُ باطِنِه، وفُتِحَت بصيرةُ لُبِّه، وتهيَّأ لِما لا يتهيَّأُ له غيرُه من التحلِّي بالنُّبُوَّةِ!)
[697] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/267). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/588). .
وقال عبد الرزاق عفيفي: (لا يَبعُدُ في نظَرِ العَقلِ، ولا يستحيلُ في تقديرِ الفِكرِ، أن يختَصَّ واهِبُ النِّعَمِ، ومُفيضُ الخَيرِ بَعضَ عِبادِه بسَعةٍ في الفِكرِ، ورَحابةٍ في الصَّدرِ، وكَمالِ صَبرٍ، وحُسنِ قيادةٍ، وسلامةٍ في الأخلاقِ؛ لِيُعِدَّهم بذلك لتحَمُّلِ أعباءِ الرِّسالةِ، ويَكشِفَ لهم عما أخفاه عن غيرِهم، ويوحيَ إليهم بما فيه سعادةُ الخَلقِ، وصَلاحُ الكَونِ؛ رحمةً للعالَمِينَ، وإعذارًا إلى الكافِرين، وإقامةً للحُجَّة على النَّاسِ أجمعين، فإنَّه سُبحانَه بيدِه ملكوتُ كُلِّ شَيءٍ، وهو الفاعِلُ المختارُ، لا مانِعَ لِما أعطى، ولا معطِيَ لِما منع، ولا رادَّ لِما قضى، وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ.
وآيةُ ذلك أنَّا نُشاهِدُ أنَّ اللهَ سُبحانَه خلق عبادَه على طرائِقَ شَتَّى في أفكارِهم، ومذاهِبَ مُتبايِنةٍ في مدارِكِهم؛ فمنهم من سما عَقلُه، واتَّسَعت مداركُه، واطَّلع من الكونِ على كثيرٍ من أسرارِه... ومنهم من ضَعُفَ عَقلُه، وضاقت مداركُه، فعَمِيَت عليه الحقائِقُ، واشتبه عليه الواضِحُ؛ فأنكر البَدَهِيَّاتِ، ورَدَّ الآياتِ البَيِّناتِ، بل منهم من انتهى به انحرافُ مِزاجِه، واضطرَّه تفكيرُه إلى أنْ أنكر ما تُدرِكُه الحواسُّ..!
وكما ثبت ذلك التفاوُتُ بين النَّاسِ في العُقولِ بضَرورةِ النَّظَرِ، وبديهةِ العَقلِ، ثبت التفاوُتُ بينهم أيضًا في قوَّةِ الأبدانِ وضَعْفِها، وسَعةِ الأرزاقِ وضِيقِها، ونَيلِ المناصِبِ العاليةِ، والاستيلاءِ على زِمامِ الأُمورِ، وقِيادةِ الشَّعبِ، والحِرمانِ مِن ذلك، إمَّا للعَجزِ أو القُصورِ؛ ليتَّخِذَ بَعضُهم بعضًا سُخرِيًّا، وإمَّا لحِكمةٍ أُخرى يعلَمُها مُدَبِّرُ الكائناتِ، وربما كشف عن كثيرٍ منها الغِطاءَ لمن تدبَّر القُرآنَ، وعرف سيرةَ الأنبياءِ، وتاريخَ الأُمَمِ، ومِمَّا جرى عليها من أحداثٍ.
فمن شاهد ما مضت به سُنَّةُ اللهِ في عبادِه من التفاوُتِ بينهم في مداركِهم وقُواهم وإرادتِهم، وغيرِ ذلك من أحوالِهم؛ لم يسَعْه إلَّا أن يستسلِمَ للأمرِ الواقِعِ، ويَستيقِنَ بأنَّ لله أن ينَبِّئَ من يشاء من خَلْقِه، ويصطفيَ من أراد مِن عِبادِه
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص: 68] )
[698] يُنظر: ((مذكرة التوحيد)) (ص: 44-47). .