المَبْحَثُ الأوَّلُ: أهلِيَّةُ البَشَرِ لتحَمُّلِ الرِّسالةِ
الذين استَعظَموا واستَبعَدوا اختيارَ اللهِ للرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ نَظَروا إلى ظاهِرِ الإنسانِ، كما قال اللهُ تعالى عنهم:
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفَرْقان: 7] ، ولم ينظُروا إلى جَوهَرِه، وهو تلك الرُّوحُ التي تميِّزُه، كما قال اللهُ تعالى عن آدَمَ عليه السَّلامُ:
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .
قال الخازن: (المعنى: وما منَعَهم الإيمانَ بالقُرآنِ وبنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا شُبهةٌ تلجلَجَت في صُدورِهم هي إنكارُهم أن يُرسِلَ اللهُ البشَرَ، وهو قَولُه تعالى:
إِلَّا أَنْ قَالُوا أي: جهلًا منهم:
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا وذلك أنَّ الكفَّارَ كانوا يقولون: لن نؤمِنَ لك؛ لأنَّك بشَرٌ، وهلَّا بعث اللهُ إلينا مَلَكًا؟ فأجابهم اللهُ بقَولِه:
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي: مُستوطِنينَ مُقيمينَ فيها
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا أي: مِن جِنْسِهم؛ لأنَّ الجِنسَ إلى الجِنسِ أَمْيَلُ)
[755] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/147). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: قال الرُّسُلُ التي أتتهم لهم:
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ صَدَقْتُم في قَولِكم:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم: 10] فما نحن إلَّا بشَرٌ مِن بني آدَمَ إنسٌ مِثْلُكم،
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يقولُ: ولكِنَّ اللهَ يتفَضَّلُ على من يشاءُ مِن خَلْقِه، فيهديه ويوفِّقُه للحَقِّ، ويُفَضِّلُه على كثيرٍ مِن خَلْقِه)
[756] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/ 610). .
كما أنَّ الرُّسُل يُعدُّون إعدادًا خاصًّا لتحمُّلِ النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ، ويُصنَعون صنعًا فريدًا، كما قال اللهُ تعالى لموسى عليه السَّلامُ:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] .
ونبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد زكَّاه اللهُ وطهَّره، وأذهب عنه رِجْسَ
الشَّيطانِ، وأخرج منه حظَّ
الشَّيطانِ منذ كان صغيرًا.
عن
أنسِ
بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه جِبريلُ وهو يلعَبُ مع الغِلْمانِ، فأخذه، فصَرَعَه، فشقَّ عن قَلْبِه، فاستخرج القَلْبَ، فاستخرج منه عَلَقةً، فقال: هذا حظُّ الشَّيطانِ منك، ثمَّ غسَلَه في طَستٍ مِن ذَهَبٍ بماءِ زَمزمَ، ثُمَّ لأَمَه، ثُمَّ أعاده في مكانِه، وجاء الغِلمانُ يَسْعَون إلى أمِّه، يعني ظِئْرَه [757] المقصود: أُمُّه من الرَّضاعِ، وهي حَليمةُ السَّعْدِيَّةُ. ، فقالوا: إن مُحَمَّدًا قد قُتِل! فاستقبلوه وهو منتَقِعُ اللَّونِ، قال أنس: وقد كنت أرى أثَرِ ذلك المَخيطِ في صَدْرِه)) [758] رواه مسلم (162). .
قال عِياضٌ: (قَولُه في شَرْحِ صَدْرِه:
((فاستخرج منه علَقةً، وقال: هذا حظُّ الشَّيطانِ منك)): دليلٌ بيِّنٌ على عِصمةِ نبِيِّنا من
الشَّيطانِ، وكفايتِه إيَّاه أن يُسلَّطَ عليه، لا في عِلْمِه ولا يقينِه، ولا جِسْمِه ولا شيءٍ مِن أمرِه، لا بالأذى والوساوِسِ ولا غيرِه، وقد ادَّعى بعضُ العُلَماءِ الإجماعَ على ذلك.
ويُصَحِّحُ ما قُلْناه ما جاء من الآثارِ الصَّحيحةِ أنَّه قد أعانه اللهُ عليه فلا يَأمُرُه إلَّا بخيرٍ، أو أنَّه أسلمَ
[759] أخرجه مسلم (2814) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن)). قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي. إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) ، على من رواه بفَتحِ الميمِ، أو أسلَمُ، على من رواه بضَمِّ الميمِ، أو استسلم على من رواه كذا، وأنَّه قد أخذه حين تعَرَّض له في صلاتِه، ولقَولِه:
((لم يَكُنْ لِيُسَلَّطَ عَلَيَّ)) [760] روي بلفظ: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: خَشِينا أن تكونَ به ذاتُ الجَنبِ، ((إنها من الشَّيطانِ ولم يكُنِ اللهُ ليُسَلِّطَه عليَّ)). أخرجه أحمد (26346) واللَّفظُ له، وإسحاق بن راهويه في ((المسند)) (1151)، والحاكم (8235) مِن حَديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنه. قال الحاكم: على شرط مسلم، وحسَّن إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/1016)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26346). ... ويحتَمِلُ أن تكونَ هذه العَلَقةُ التي استُخرِجَت من قَلْبِه هي أحدَ أجزاءِ القَلْبِ المختَصِّ بها حُبُّ الدُّنيا والنزوعُ للشَّهَواتِ التي منها يأتي
الشيطانُ، أو ما تختَصُّ بها عوارضُ السَّهوِ والغَفلةِ، كُلُّ ذلك بتدبيرِ العزيزِ الحكيمِ -وهي الأبوابُ التى يأتي منها
الشَّيطانُ- فطُرِحَت عنه فلا يجِدُ
الشَّيطانُ إليه سبيلًا... أو تكون تلك العَلَقةُ -إذا كانت في القَلبِ- هي القابِلةَ لوَسواسِ
الشَّيطانِ والمحَرِّكةَ للنَّفْسِ بما ركَّب اللهُ فيها من القُوى لِما يوافِقُه، فأزيحت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَسْلَمَ مِن دواعيه الخبيثةِ، ونُقِّيَ القلبُ وغُسِلَ منها حتى لا يبقى لها أثرٌ في القَلبِ جُملةً)
[761] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/ 505-507). .
وعن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال في حديثِ الإسراءِ:
((فُرِجَ سَقفُ بيتي وأنا بمكَّةَ، فنزل جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففَرَج صَدْري، ثمَّ غسَلَه بماءِ زَمْزَمَ، ثمَّ جاء بطَستٍ مِن ذَهَبٍ ممتلئٍ حِكْمةً وإيمانًا، فأفرَغَها في صدري، ثُمَّ أطبَقَه [762] رواه مطولاً البخاري (3342) واللَّفظُ له، ومسلم (163) مِن حَديثِ أبي ذر رَضِيَ اللهُ عنه. ) [763] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 69). .