المَطْلَبُ الرَّابعُ: من مقتضى بَشَريَّةِ الأنبياءِ والرُّسُلِ: أنَّه ليس لهم شيءٌ مِن خصائِصِ الألوهيَّةِ
إنَّ كَونَ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ من البَشَر يقتضي أنَّه ليس لديهم شيءٌ من خصائصِ وصِفاتِ الألُوهِيَّةِ.
قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116-117] .
قال
السَّعْديُّ: (
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا توبيخٌ للنصارى الذين قالوا: إنَّ اللهَ ثالِثُ ثلاثةٍ، فيقولُ اللهُ هذا الكلامَ لعيسى، فيتبرَّأُ عيسى ويقولُ:
سُبْحَانَكَ عن هذا الكلامِ القبيحِ، وعمَّا لا يليقُ بك.
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: ما ينبغي لي ولا يليقُ أنْ أقولَ شيئًا ليس من أوصافي ولا من حقوقي؛ فإنَّه ليس أحدٌ من المخلوقِينَ، لا المَلائِكةُ المقَرَّبون ولا الأنبياءُ المُرْسَلون ولا غيرُهم له حَقٌّ ولا استحقاقٌ لمقامِ الإلهيَّةِ، وإنما الجميعُ عِبادٌ مُدَبَّرون، وخَلقٌ مُسخَّرون، وفُقراءُ عاجزون
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فأنت أعلَمُ بما صدر مني و
إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، وهذا من كمالِ أدَبِ المسيحِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خطابِه لرَبِّه، فلم يقُلْ عليه السَّلامُ:
((لم أقُلْ شيئًا من ذلك)) وإنما أخبر بكلامٍ ينفي عن نَفْسِه أن يقولَ كُلَّ مقالةٍ تنافي منصِبَه الشَّريفَ، وأنَّ هذا من الأمورِ المحالةِ، ونَزَّه رَبَّه عن ذلك أتمَّ تنزيهِ، ورَدَّ العِلْمَ إلى عالمِ الغيبِ والشَّهادةِ.
ثمَّ صَرَّح بذِكْرِ ما أمر به بني إسرائيلَ، فقال:
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ فأنا عبدٌ مُتَّبِعٌ لأمرِك، لا متجرئٌ على عظمتِك
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي: ما أمَرْتُهم إلَّا بعبادةِ اللهِ وَحْدَه وإخلاصِ الدِّينِ له، المتضَمِّنِ للنَّهيِ عن اتخاذي وأمِّيَ إلهينِ مِن دونِ اللهِ، وبيانِ أني عبدٌ مربوبٌ، فكما أنَّه ربُّكم فهو رَبِّي)
[787] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 249). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (الأنبياءُ وغيرُهم من المخلوقين لا يستحِقُّون ما يستحِقُّه اللهُ تبارك وتعالى من خصائِصَ: فلا يُشرَكُ بهم ولا يُتوكَّلُ عليهم ولا يُستغاثُ بهم كما يُستغاثُ باللهِ، ولا يُقسَمُ على اللهِ بهم، ولا يُتوسَّلُ بذواتهم، وإنما يُتوسَّلُ بالإيمانِ بهم وبمحَبَّتِهم وطاعتِهم وموالاتِهم وتعزيرِهم وتوقيرِهم، ومُعاداةِ من عاداهم، وطاعتِهم فيما أَمَروا، وتصديقِهم فيما أخبروا، وتحليلِ ما حلَّلوه، وتحريمِ ما حَرَّموه)
[788] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/308). .
وقال أيضًا: (اللهُ سُبحانَه لم يجعَلْ له أحدًا من الأنبياء والمُؤمِنين واسطةً في شيءٍ من الرُّبُوبيَّةِ والألُوهِيَّةِ، مِثلُ ما ينفَرِدُ به من الخَلقِ والرِّزقِ وإجابةِ الدُّعاءِ والنَّصرِ على الأعداءِ وقَضاءِ الحاجاتِ وتفريجِ الكرُباتِ، بل غايةُ ما يَكونُ العبدُ سببًا، مِثلُ أن يدعوَ أو يشفَعَ، واللهُ تعالى يقولُ:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ويقولُ:
وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)
[789] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (24/340). .
وقال أيضًا: (الغُلُوُّ في الأُمَّةِ وقع في طائِفَتينِ: طائفةٌ مِن ضُلَّالِ الشِّيعةِ الذين يعتَقِدون في الأنبياءِ والأئِمَّةِ من أهلِ البيتِ الألُوهِيَّةَ. وطائفةٌ مِن جُهَّالِ المتصَوِّفةِ يعتَقِدون نحوَ ذلك في الأنبياءِ والصَّالحين؛ فمن توَهَّم في نبيِّنا أو غيرِه من الأنبياءِ شيئًا من الألُوهِيَّةِ والرُّبُوبيَّةِ، فهو من جِنسِ النَّصارى، وإنما حقوقُ الأنبياءِ ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ عنهم. قال تعالى في خِطابِه لبني إسرائيلَ:
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [المائدة: 12] ، والتعزيرُ: النَّصرُ والتوقيرُ والتأييدُ. وقال تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ فهذا في حَقِّ الرَّسولِ، ثُمَّ قال في حَقِّ اللهِ تعالى:
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا... فقد بَيَّنَ اللهُ في كِتابِه حقوقَ الرَّسولِ؛ من الطَّاعةِ له ومحبَّتِه، وتعزيرِه وتوقيرِه ونَصْرِه، وتحكيمِه والرِّضا بحُكْمِه والتسليمِ له، واتِّباعِه والصَّلاةِ والتسليمِ عليه، وتقديمِه على النَّفسِ والأهلِ والمالِ، ورَدِّ ما يُتنازَعُ فيه إليه، وغيرِ ذلك من الحقوقِ... فأمَّا العبادةُ والاستعانةُ فللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، كما قال:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
[790] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/66-69). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الرُّسُلُ بَشَرٌ مخلوقون ليس لهم من خصائِصِ الرُّبُوبيَّةِ والألُوهِيَّةِ شَيءٌ، قال اللهُ تعالى عن نبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو سَيِّدُ الرُّسُلِ وأعظَمُهم جاهًا عندَ اللهِ:
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] ، وقال تعالى:
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 22] .
وتلحَقُهم خصائِصُ البَشَريَّةِ مِنَ المرَضِ والموتِ، والحاجةِ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، وغيرِ ذلك... وقد وصفهم اللهُ تعالى بالعُبُوديَّةِ له في أعلى مقاماتِهم، وفي سياقِ الثَّناءِ عليهم)
[791] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/123). .