الفَرعُ الخامِسُ: الإسراءُ والمِعْراجُ
قال اللهُ تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يمجِّدُ تعالى نَفْسَه، ويُعَظِّمُ شَأنَه؛ لقُدرتِه على ما لا يَقدِرُ عليه أحدٌ سِواه، فلا إلهَ غَيرُه
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ يعني مُحَمَّدًا، صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه
لَيْلًا أي في جُنحِ اللَّيلِ
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وهو مسجِدُ مكَّةَ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وهو بيتُ المقدِسِ الذي هو إيلياءُ، مَعِدنُ الأنبياءِ من لَدُنْ إبراهيمَ الخليلِ؛ ولهذا جُمعوا له هنالك كُلُّهم، فأمَّهم في محلَّتِهم ودارِهم؛ فدَلَّ على أنَّه هو الإمامُ الأعظَمُ، والرئيسُ المقَدَّمُ، صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعليهم أجمعين.
وقَولُه:
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ أي: في الزُّروعِ والثِّمارِ
لِنُرِيَهُ أي: مُحَمَّدًا
مِنْ آيَاتِنَا أي: العِظامِ، كما قال تعالى:
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 18] )
[975] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/5). .
وكان من حديثِ الإسراءِ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسرِيَ بجَسَدِه في اليَقَظةِ، على الصَّحيحِ، من المسجِدِ الحرامِ إلى المسجِدِ الأقصى، راكبًا على البُراقِ، صُحبةَ جبرائيلَ عليه السَّلامُ، فنزل هناك، صلَّى بالأنبياءِ إمامًا، وربط البراقَ بحَلقةِ بابِ المسجِدِ. ثُمَّ عُرِج به من بيتِ المقدِسِ تلك الليلةَ إلى السَّماءِ الدُّنيا، فاستفتح له جِبرائيلُ، ففُتِحَ لهما، فرأى هناك آدَمَ أبا البَشَر، فسلَّم عليه، فرحَّب به وردَّ عليه السَّلامَ، وأقرَّ بنُبُوَّتِه، ثُمَّ عُرِجَ به إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريَّا وعيسى بنَ مريمَ، فلقيهما، فسلَّم عليهما، فردَّا عليه السَّلامَ، ورحَّبا به، وأقرَّا بنبوَّتِه، ثُمَّ عُرِجَ به إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فرأى فيها يوسُفَ، فسَلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوَّتِه، ثُمَّ عُرِج به إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فرأى فيها إدريسَ، فسَلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوَّتِه، ثُمَّ عُرِج به إلى السَّماءِ الخامسةِ، فرأى فيها هارونَ بنَ عِمرانَ، فسَلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنُبوَّتِه، ثُمَّ عُرِج به إلى السَّماءِ السادسةِ، فلقِيَ فيها موسى فسَلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوَّتِه، فلمَّا جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنَّ غلامًا بُعِث بعدي يدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِه أكثَرُ مِمَّا يدخُلُها من أمتي، ثُمَّ عُرج به إلى السَّماءِ السابعةِ، فلقِيَ فيها إبراهيمَ، فسَلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوَّتِه، ثُمَّ رُفِعَ إلى سِدرةِ المنتهى، ثُمَّ رُفِع له البيتُ المعمورُ، ثُمَّ عُرِج به إلى الجبَّارِ جَلَّ جلالُه وتقدَّست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قابَ قوسَينِ أو أدنى، فأوحى إلى عَبدِه ما أوحى، وفَرَض عليه خمسين صلاةً، فرجع حتى مرَّ على موسى، فقال: بمَ أُمِرْتَ؟ قال؟ بخمسين صلاةً، فقال: إنَّ أمَّتَك لا تطيقُ ذلك، ارجِعْ إلى ربِّك فاسأله التخفيفَ لأمَّتِك، فالتفتَ إلى جبرائيل كأنَّه يَستشيرُه في ذلك، فأشار: أنْ نَعَم، إنْ شِئْتَ، فعلا به جبرائيل حتى أتى به إلى الجَبَّارِ تبارك وتعالى وهو في مكانِه، فوضع عنه عَشْرًا، ثُمَّ نزل حتى مرَّ بموسى، فأخبره، فقال: ارجَعْ إلى ربِّك فاسأله التخفيفَ، فلم يَزَلْ يتردَّدُ بين موسى وبَينَ اللهِ تبارك وتعالى، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرُّجوعِ وسُؤالِ التخفيفِ، فقال: قد استحييتُ من رَبِّي، ولكِنْ أرضى وأُسَلِّمُ، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيتُ فريضتي وخفَّفتُ عن عبادي
[976] رواه البخاري (3207، 3887) مفرقاً باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (164) باختلافٍ يسيرٍ. .
قال
الطحاوي: (المِعراجُ حَقٌّ، وقد أُسرِيَ بالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعُرِجَ بشَخْصِه في اليَقَظةِ إلى السَّماءِ، ثُمَّ إلى حيث شاء اللهُ من العُلا، وأكرمه اللهُ بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذَبَ الفؤادُ ما رأى. فَصلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخِرةِ والأولى)
[977] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 45). .
وقال
الآجُرِّي: (مِمَّا خَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ به النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِمَّا أكرمه به، وعظَّم شَأنه زيادةً منه له في الكراماتِ أنَّه أُسرِيَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجسَدِه وعَقلِه حتى وصل إلى بيتِ المقدِسِ، ثُمَّ عُرج به إلى السمواتِ، فرأى من آياتِ ربِّه الكبرى، رأى مَلائِكةَ ربِّه عَزَّ وجَلَّ، ورأى إخوانَه من الأنبياءِ حتى وصل إلى مولاه الكريمِ فأكرمه بأعظَمِ الكراماتِ، وفرض عليه وعلى أمَّتِه خمسَ صلواتٍ، وذلك بمكَّةَ، في ليلةٍ واحدةٍ، ثُمَّ أصبح بمكَّةَ سَرَّ اللهُ الكريمُ به أعيُنَ المُؤمِنين وأسخَنَ به أعيُنَ الكافِرينَ وجميعِ المُلْحِدين؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] ، وقد بَيَّن النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كيف أُسرِيَ به وكيف ركِبَ البراقَ وكيف عُرجَ به)
[978] يُنظر: ((الشريعة)) (3/1526). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (الذي عليه أئمَّةُ النَّقلِ: أنَّ الإسراءَ كان مرَّةً واحدةً بمكَّةَ، بعد البَعْثةِ، قبل الهِجرةِ بسَنَةٍ، وقيل: بسنةٍ وشَهرينِ، ذكره
ابنُ عبدِ البَرِّ)
[979] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 272). .
وقال أيضًا: (مِمَّا يدُلُّ على أنَّ الإسراءَ بجسَدِه في اليَقَظةِ قَولُه تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] والعبدُ عبارةٌ عن مجموعِ الجسَدِ والرُّوحِ، كما أنَّ الإنسانَ اسمٌ لمجموع ِالجسَدِ والرُّوحِ، هذا هو المعروفُ عند الإطلاقِ، وهو الصَّحيحُ، فيَكونُ الإسراءُ بهذا المجموعِ، ولا يمتنِعُ ذلك عقلًا، ولو جاز استبعادُ صُعودِ البَشَرِ لجاز استبعادُ نزولِ المَلائِكةِ، وذلك يؤدِّي إلى إنكارِ النُّبُوَّةِ، وهو كُفرٌ)
[980] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/276). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (تصريحُ الآيةِ
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] شامِلٌ للرُّوحِ والجسَدِ، وكذلك قَولُه تعالى في سورةِ النجمِ:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى [النجم:13-14] جعل رؤيةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجِبريلَ عند سِدْرةِ المنتهى مقابلًا لرؤيتِه إيَّاه في الأبطحِ، وهي رؤيةُ عَينٍ حقيقةً لا منامًا... لو كان ذلك رؤيا منامٍ لم يستبعِدوه ولم يَكُنْ لرَدِّهم عليه معنًى؛ لأنَّ الإنسانَ قد يرى في منامِه ما هو أبعَدُ مِن بيتِ المَقْدِسِ ولا يُكَذِّبُه أحدٌ استبعادًا لرُؤياه، وإنما قصَّ عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مسرى حقيقةٍ يقظةً لا منامًا، فكذَّبوه واستهزؤوا به استبعادًا لذلك واستعظامًا له، مع نوعِ مُكابَرةٍ لقِلَّةِ عِلْمِهم بقدرةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وأَنَّ اللهَ يفعَلُ ما يريدُ؛ ولهذا لَمَّا قالوا
للصِّدِّيقِ وأخبروه الخبرَ، قال: إنْ كان قال ذلك لقد صَدَق، قالوا: وتُصَدِّقُه بذلك؟ قال: نعم، إِنِّي لأُصَدِّقُه فيما هو أبعَدُ من ذلك؛ في خبَرِ السَّماءِ يأتيه بُكرةً وعَشِيًّا، أو كما قال
[981] أخرجه الحاكم (4407)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (69)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/55) باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (306): متواتر، وصَحَّح إسنادَه الحاكِمُ. [982] يُنظر: ((معارج القبول)) (3/1067). .