الفَرعُ السَّابعُ: إجابةُ دَعوتِه
ومن ذلك ما حدث في طريقِ هِجرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
فعن
أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((اتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ، فَقُلتُ: أُتِينَا يا رَسولَ اللَّهِ! فَقالَ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ معنَا، فَدَعَا عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَارْتَطَمَتْ [993] قال ابن حجر: (أي: غاصت قوائِمُها). ((فتح الباري)) (6/ 624). به فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا -أُرَى- في جَلَدٍ [994] قال النووي: (أي: أرضٌ صُلبةٌ). ((شرح مسلم)) (18/ 149). مِنَ الأرْضِ، -شَكَّ زُهَيْرٌ- فَقالَ: إنِّي أُرَاكُما قدْ دَعَوْتُما عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُما أَنْ أَرُدَّ عَنْكُما الطَّلَبَ، فَدَعَا له النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَنَجَا، فَجَعَلَ لا يَلْقَى أَحَدًا إلَّا قالَ: قدْ كَفَيْتُكُمْ ما هُنَا، فلا يَلْقَى أَحَدًا إلَّا رَدَّهُ )) [995] رواه مُطَوَّلًا البخاري (3615) واللَّفظُ له، ومسلم (2009). .
قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (هذه من بَعضِ دَعَواتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُعَجَّلةِ الإجابةِ، وهي من الكَثرةِ بحيث تفوقُ الحَصْرَ، ويحصُلُ بمجموعِها القَطعُ بأنَّ الله تعالى قد أكرم مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإجابةِ دَعَواتِه، وأسعفه في كثيرٍ مِن طَلِباتِه، وكُلُّ ذلك يدُلُّ على مكانتِه، وصِدْقِ رِسالتِه)
[996] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 68). .
وقال
النووي: (فيه مُعْجِزةٌ ظاهرةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[997] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/ 180). .
ومن ذلك اهتداءُ أمِّ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما بدعوةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ وهي مُشرِكة، فدعوتُها يومًا، فأسمعَتْني في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أكرَهُ! فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إني كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ، فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ، فأسمعَتْني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدِيَ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هُرَيرةَ. فخرجتُ مُستبشِرًا بدعوةِ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا جِئتُ فصِرْتُ إلى البابِ، فإذا هو مجافٌ [998] قال عياض: (أي: مُغلَق). ((إكمال المعلم)) (7/ 533). فسمعَتْ أمِّي خَشْفَ قَدَميَّ [999] قال عياض: (أي: صوتَ وَقْعِهما بالأرضِ). ((إكمال المعلم)) (7/ 533). ، فقالت: مكانَك يا أبا هُرَيرةَ، وسمعتُ خَضخَضةَ الماءِ [1000] قال عياض: (صوتَ تحريكِه). ((إكمال المعلم)) (7/ 533). ، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَت عن خمارِها، ففتَحَت البابَ، ثُمَّ قالت: يا أبا هُرَيرةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه! فرجعتُ إلى رَسولِ اللهِ فأتيتُه وأنا أبكي من الفَرَحِ! قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ، قد استجاب اللهُ دعْوَتَك، وهدى أمَّ أبي هُرَيرةَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال خَيرًا )) [1001] رواه مسلم (2491). .
قال
النووي: (فيه استجابةُ دُعاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الفَورِ بعَينِ المسؤولِ، وهو من أعلامِ نبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1002] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/52). .
ومن ذلك ما رواه سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حيث قال:
((إنَّ رجلًا أكل عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشِمالِه، فقال: كُلْ بيمينِك، قال: لا أستطيعُ. قال: لا استطَعْتَ، ما مَنَعَه إلَّا الكبرُ. قال: فما رفَعَها إلى فيه! )) [1003] رواه مسلم (2021). .
قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (
((لا استطَعْتَ)) دعاءٌ منه عليه؛ لأنَّه لم يَكُنْ له في تَرْكِ الأكلِ باليمينِ عُذرٌ، وإنما قصد المخالفةَ... وقد أجاب اللهُ تعالى دعاءَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الرَّجُلِ، حتى شَلَّت يمينُه، فلم يرفَعْها لفيه بعد ذلك اليومِ)
[1004] يُنظر: ((المفهم)) (5/297). .
ومن إجابةِ دَعوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما رواه جريرُ بنُ عبدِ اللهِ؛ حيث قال:
((قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا تُريحُني من ذي الخُلَصةِ؟ فقلتُ: بلى. فانطلقتُ في خمسينَ ومائةِ فارسٍ من أحمسَ، وكانوا أصحابَ خَيلٍ، وكنتُ لا أثبُتُ على الخيلِ، فذكرتُ ذلك للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضرب يدَه على صدري حتى رأيتُ أثَرَ يَدِه في صدري، وقال: اللهُمَّ ثَبِّتْه، واجعَلْهُ هاديًا مَهْدِيًّا. قال: فما وقعتُ عن فَرَسٍ بعدُ. قال: وكان ذو الخُلَصةِ بيتًا باليَمَنِ لخَثْعَمٍ وبجيلةَ فيه نُصُبٌ تُعبَدُ، يقال له: الكعبةُ. قال: فأتاها فحرَّقها بالنَّارِ وكَسَرَها )) [1005] رواه البخاري (4357) واللَّفظُ له، ومسلم (2476). .
ومن ذلك ما وراه
جابِرٌ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حيث قال:
((غزوتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتلاحق بي النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا على ناضحٍ لنا قد أعيا، فلا يكادُ يسيرُ، فقال لي: ما لبَعيرِك؟ قال: قلتُ: عَيِيَ، قال: فتخلَّف رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبلِ قُدَّامَها يسيرُ! فقال لي: كيف ترى بعيرَك؟ قلت: بخيرٍ، قد أصابته بركتُك. قال: أَفتبيعُنِيه؟ قال: فاستحيَيْتُ، ولم يَكُنْ لنا ناضحٌ غيرُه، قال: فقُلتُ: نعم، قال: فبِعْنِيه، فبِعْتُه إيَّاه على أنَّ لي فِقارَ ظَهْرِه إلى المدينةِ،... قال: فلمَّا قَدِم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، غدوتُ عليه بالبعيرِ، فأعطاني ثمَنَه وردَّه علَيَّ )) [1006] رواه البخاري (2967) واللَّفظُ له، ومسلم (715). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ في آياتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتعَلِّقةِ بالقُدرةِ والفِعلِ والتأثيرِ: (النَّوعُ الثَّامِنُ: في إجابةِ دَعوتِه. وإجابةُ الدُّعاءِ منه ما تكون إجابتُه معتادةً لكثيرٍ من عبادِ اللهِ كالإغناءِ، والعافيةِ، ونحوِ ذلك، ومنه ما يَكونُ المدعوُّ به من خوارقِ العاداتِ؛ كتكثيرِ الطعامِ والشَّرابِ كثرةً خارجةً عن العادةِ، وإطعامِ النَّخلِ في العامِ مرَّتينِ مع أنَّ العادةَ في مِثْلِه مَرَّةٌ، ورَدِّ بصَرِ الذي عَمِيَ، ونحوِ ذلك مِمَّا يأتي، وما تقدَّم من أدعِيَتِه.
ومعلومٌ أنَّ من عوَّده اللهُ إجابةَ دُعائِه لا يَكونُ إلَّا مع صلاحِه ودينِه، ومن ادَّعى النُّبُوَّةَ لا يَكونُ إلَّا من أبَرِّ النَّاسِ إن كان صادِقًا، أو من أفجَرِهم إن كان كاذِبًا، وإذا عوَّده اللهُ إجابةَ دعائِه لم يَكُنْ فاجِرًا، بل بَرًّا، وإذا لم يَكُنْ مع دعوى النُّبُوَّة إلَّا بَرًّا تعَيَّن أن يَكونَ نَبِيًّا صادِقًا...
والمقصودُ هنا ذِكْرُ بعضِ أدعيةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي شوهِدَ إجابتُها، وقد تقدَّم ذِكرُ بعضِ أدعِيَتِه؛ مِثلُ دُعائِه على الملأِ من قُرَيشٍ فقُتِلوا يومَ بَدرٍ، وأُلْقُوا في القليبِ، ومِثلُ دُعائِه على عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ، ومِثلُ دُعائِه على الذي كذَب عليه بأن يجعَلَه آيةً، ومِثلُ دُعائِه لَمَّا قَلَّ الزادُ وجمعوه على نِطعٍ، فكَثَّره اللهُ ببركةِ دَعوتِه حتى كفى الجيشَ العظيمَ في غزوةِ تَبُوكَ، ومِثلُ دعائِه في غزوةِ الخَندَقِ فكفى الطَّعامُ، وهو صاعٌ مِن شَعيرٍ لألفِ نَفَرٍ، وكذلك دعاؤه لَمَّا نُزِحَت بئرُ الحُدَيبيةِ فكَثُر ماؤها حتى كفى الرَّكبَ، وهم ألفٌ وخَمسُمائة وركابُهم.
وقد تقدَّم دعاؤه للذي ذهب بصَرُه فأبصر، ودعاؤُه في الاستسقاءِ فما ردَّ يَدَيه إلَّا والسَّماءُ قد أمطرت، ودعاؤه في الاستصحاءِ، وإشارتُه إلى السَّحابِ فتَقَطَّع من ساعتِه، ودعوتُه على سُراقةَ بنِ جَعشَم لَمَّا تَبِعَهم في الهجرةِ فغاصت فرَسُه في الأرضِ، ودعاؤه يومَ بَدرٍ، ويومَ حُنَينٍ، وقال اللهُ له يومَ بدرٍ:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9] ، وأمثالُ ذلك)
[1007] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (6/ 296-303). .