المَطلَبُ الثَّاني: سَماعُ أصواتِ المُعَذَّبِينَ
أعطَى اللَّهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُدرةَ على سَماعِ المُعَذَّبينَ في قُبورِهم.
عَن زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: بينَما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حائِطٍ لبَنيِ النَّجَّارِ على بغلةٍ لَه، ونَحنُ مَعَه، إذ حادَت به، فكادَت تُلْقِيه، وإذا أقبُرُ سِتَّةٍ أو خَمسةٍ أو أربَعةٍ، فقال:
((مَن يَعرِفُ أصحابَ هَذِه الأقبُرِ؟)) فقال رَجُلٌ: أنا، قال:
((فمَتَى مات هَؤُلاءِ؟)) قال: ماتوا في الإشراكِ، فقال:
((إنَّ هَذِه الأمَّةَ تُبتَلَى في قُبورِها، فلَولا أنْ لا تَدافَنوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أن يُسمِعَكُم من عَذابِ القَبرِ الَّذي أسمَعُ مِنه )) [1595] أخرجه مسلم (2867) مُطَوَّلًا. .
قال
ابنُ عُثَيمين: (عَذابُ القَبرِ من أمورِ الغَيبِ، وكَم من إنسانٍ في هَذِه المَقابرِ يُعَذَّبُ ونَحنُ لا نَشعُرُ به! وكَم جارٍ لَه مُنعَّمٍ مَفتوحٍ لَه بابٌ إلَى الجَنَّةِ، ونَحنُ لا نَشعُرُ به!... ولَكِن قَد يُطْلِعُ اللَّهُ تعالى عليه مَن شاءَ من عِبادِه، مِثلَ ما أطلَعَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الرَّجُلينِ اللَّذينِ يُعَذَّبانِ؛ أحَدُهما: يَمشي بالنَّميمةِ، والآخَرُ: لا يَستَنِزُه مِنَ البَولِ... جاءَ عَنِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((لَولا ألَّا تَدَافَنوا لَسألتُ اللَّهَ أن يُسمِعَكُم من عَذابِ القَبرِ)) [1596] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 32). .
وعَن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: خَرجَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَما غَرَبتِ الشَّمسُ، فسَمِعَ صَوتًا، فقال:
((يَهودُ تُعَذَّبُ في قُبورِها )) [1597] أخرجه البخاري (1375)، ومسلم (2869) واللَّفظُ له. .
قال الكرمانيُّ: (فإن قُلتَ: مَرَّ آنِفًا أنَّ صَوتَ المَيِّتِ مِنَ العَذابِ يَسمَعُه غَيرُ الثَّقَلينِ، فكَيف سَمِعَ ذلك؟! قُلتُ: هو في الضَّجَّةِ المَخصوصةِ، وهَذا غَيرُها، أو سَماعُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سَبيلِ المُعجِزةِ)
[1598] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (7/ 149). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه:
((فسَمِعَ صَوتًا)) قيلَ: يَحتَمِلُ أن يَكونَ سَمِعَ صَوتَ مَلائِكةِ العَذابِ، أو صَوتَ اليَهودِ المُعَذَّبينَ، أو صَوتَ وقْعِ العَذابِ)
[1599] يُنظر: ((فتح الباري)) (3/ 241). .
وعَن
عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بقَبرَينِ، فقال:
((إنَّهما ليُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كَبيرٍ )) الحَديث
[1600] أخرجه البخاري (218)، ومسلم (292). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ هَذا أمرٌ غَيبيٌّ، على أنَّ اللَّهَ تعالى قَد يُطلِعُ على هَذا الغَيبِ مَن شاءَ من عِبادِه،... فأطلَعَ اللَّهُ نَبيَّه على هَذينِ القَبرينِ أنَّهما يُعذَّبانِ)
[1601] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 457). .
وقد يَسمَعُ غيرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصواتَ المُعَذَّبينَ في قُبورِهم.قال
ابنُ تيميَّةَ: (ما ذَكَرْنا في أنَّ المَوتَى يَسمَعونَ الخِطابَ ويَصِلُ إلَيهمُ الثَّوابُ، ويُعذَّبونَ بالنِّياحةِ بَل وما لَم يَسأَلْ عَنه السَّائِلُ من عِقَابهم في قُبورِهم وغَيرِ ذلك؛ فقَد يُكشَفُ لِكَثيرٍ من أبناءِ زَمانِنا يَقَظةً ومَنَامًا ويَعلَمونَ ذلك ويَتَحَقَّقونَه، وعَندَنا من ذلك أمورٌ كَثيرةٌ، لَكِنَّ الجَوابَ في المَسائِلِ العِلميَّةِ يُعتَمَدُ فيه على ما جاءَ به الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّه يَجِبُ على الخَلقِ التَّصديقُ به، وما كُشِفَ لِلإنسانِ من ذلك أو أخبَرَه به مَن هو صادِقٌ عِندَه، فهَذا يَنتَفِعُ به مَن عَلِمَه، ويَكونُ ذلك مِمَّا يَزيدُه إيمانًا وتَصديقًا بما جاءَت به النُّصوصُ، ولَكِن لا يَجِبُ على جَميعِ الخَلقِ الإيمانُ بغَيرِ ما جاءَت به الأنبياءُ؛ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ أوجَبَ التَّصديقَ بما جاءَت به الأنبياءُ، كَما في قَولِه تعالى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الآية. وقال تعالى:
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ... فلِهَذا لا يَعتَمِدُ أهلُ العِلمِ والإيمانِ في مِثلِ مَسائِلِ العِلمِ والدِّينِ إلَّا على نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ، وإن كانَ عِندَهم في بَعضِ ذلك شَواهِدُ وبَيناتٌ مِمَّا شاهدوه ووجَدوه ومِمَّا عَقلوه وعَمِلوه، وذلك يَنتَفِعونَ به هم في أنفُسِهم، وأمَّا حُجَّةُ اللَّهِ تعالى على عِبادِه فهم رُسُلُه)
[1602] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (24/376). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (قَد سَمِعَ غَيرُ واحِدٍ أصَواتَ المُعَذَّبينَ في قُبورِهم، وقَد شُوهِدَ مَن يَخرُجُ من قَبرِه وهو مُعَذَّبٌ!)
[1603] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 526). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (وقَد كَشَفَ لِمَن يَشاءُ من عِبادِه من عَذابِ أهلِ القُبورِ ونَعيمِهم، وقَد وقَعَ بَعضُ ذلك في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووقَعَ بَعدَه كَثيرًا)
[1604] يُنظر: ((أهوال القبور)) (ص: 60). .
وقال
عَبدُ الحَقِّ الإشبيليُّ: (حَدَّثَني الفقيهُ أبو الحكمِ بنُ برجان، وكانَ من أهلِ العِلمِ والعَمَلِ رَحِمُه اللَّهُ، أنَّهم دَفنوا مَيتًا بَقَريتِهم من شَرقِ إشبيليَّةَ، فلَمَّا فرَغوا من دَفنِه قَعدوا ناحيةً يَتَحَدَّثونَ، ودابَّةٌ تَرعى قَريبًا مِنهم، وإذا بالدَّابةِ قَد أقبَلَت مُسرِعةً إلَى القَبرِ، فجَعلت أذُنَها عليه كأنَّها تَسمَعُ ثُمَّ وَلَّت فارَّةً! ثُمَّ عادَت إلَى القَبرِ، فجَعَلَت أُذُنَيها عليه كأنَّها تَسمَعُ ثُمَّ وَلَّت كَذلك! ثُمَّ أعادَت ذلك مَرَّةً بَعدَ أخرَى، قال أبو الحكمِ رَحِمه اللَّهُ: فذَكَرْتُ عَذابَ القَبرِ وقَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّهم لَيُعذَّبونَ عَذابًا تَسمَعُه البَهائِمُ)) [1605] أخرجه البخاري (6366)، ومسلم (586) من حَديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، واللَّهُ عزَّ وجَلَّ أعلَمُ بما كانَ من أمرِ ذلك المَيتِ، ذَكرَ هَذِه الحِكايةَ لَمَّا قَرأ القارَئُ هَذا الحَديثَ في عَذابِ القَبرِ، ونَحنُ إذ ذاكَ نُسمِّعُ عليه كِتابَ
مُسلِمِ بنِ الحَجَّاجِ رَضيَ اللهُ عَنه)
[1606] يُنظر: ((العاقبة في ذكر الموت)) (ص: 247). .
وقال
ابنُ بازٍ: (المَقصودُ أنَّ اللَّهَ قَد يُطلِعُ بني آدَمَ على بَعضِ العَذابِ لِلَّذي يَكونُ في القُبورِ، وقَد أخبَرَني إنسانٌ لا أذكُرُه الآنَ من نَحوِ ثَلاثينَ سَنةً، أو أربَعينَ سَنةً: أنَّه بَلَغَه أنَّ عَمَّتَه تُعَذَّبُ في قَبرِها، وأنَّه أخبَرَه أناسٌ عِندَهم وقَفوا على قَبرِها وسَمِعوا العَذابَ، قال لي: إنِّي ذَهَبْتُ إلَيها في يَومٍ مِنَ الأيَّامِ لأعرِفَ الحَقيقةَ، فجِئْتُ إلَى القَبرِ، فسَمِعتُ فيه صياحًا مِمَّا يَدُلُّ على العَذابِ، وهَذا لَيسَ ببَعيدٍ، فإنَّ اللَّهَ يُطلِعُ بَعضَ عِبادِه على ما يَشاءُ لِلْعِظةِ والذِّكْرَى والتَّرهيبِ، كَما يُطلِعُهم سُبحانَه على بَعضِ النَّعيمِ لِبَعضِ أهلِ القُبورِ، فقَد يُدفَنُ الإنسانُ، ثُمَّ يَظهَرُ من قَبرِه ريحُ المِسكِ، كَما ذَكَرَ ذلك بَعضُ السَّلَفِ، وأخبَرَني ثِقةٌ من إخوانِنا من نَحوِ ثَلاثينَ سَنةً أو حَولَها أنَّهم كانوا في بَيداءَ مِنَ الأرضِ مُسافِرينَ، فماتَ مَعَهم شَخصٌ، فنَزَلوا ليَدفِنوه، فحَفروا في أرضٍ لَيسَ فيها أثَرٌ في أثناءِ سَفرِهم، فوجَدوا قَبرًا فيه إنسانٌ يَفوحُ قَبرُه مِسْكًا طَيِّبًا عَظيمًا، ووجَدوه على حالِه لَم يَتَغَيَّرْ في قَبرِه، فدَفَنوه وساوَوا قَبرَه عليه، وحَفَروا لِميِّتِهم في مَكانٍ آخَرَ ودَفَنوه، فهَذِه من آياتِ اللَّهِ سُبحانَه، قَد يُطلِعُ بَعضَ عِبادِه على نَعيمِ قَومٍ وعلى عَذابِ آخَرينَ؛ لِلذِّكرَى والعِظةِ)
[1607] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (14/ 162). .