المُطلَبُ الثَّالِثُ: صِفةُ نَعيمِ القَبرِ وعَذابِه
ذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ البراءِ بن عازِبٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ المَلائِكةَ تَسألُ العَبدَ المُؤْمِنَ في قَبرِه، فيُحْسِنُ الإجابةَ، وعِندَ ذاكَ:
((يُنادي مَنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ صَدقَ عَبدي، فأفرِشوه مِنَ الجَنةِ، وألبِسوه مِنَ الجَنةِ، وافتَحوا له بابًا إلَى الجَنةِ، قال: فيأتيه من رَوحِها وطِيبِها، ويُفسَحُ لَه في قَبرِه مَدَّ بَصَرِه، قال: ويأتيه «وفي رِوايةٍ: يُمَثَّلُ لَه» رَجُلٌ حَسَنُ الوَجهِ حَسَنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسُرُّك، «أبشِرْ برَضوانٍ مِنَ اللَّه، وجَناتٍ فيها نَعيمٌ مُقيمٌ» هَذا يَومُكَ الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ لَه: «وأنتَ فبشَّركَ اللَّهُ بخَيرٍ» مَن أنتَ؟ فوجهُكَ الوَجهُ الَّذي يَجيءُ بالخَيرِ، فيَقولُ: أنا عَمَلُك الصَّالِحُ «فواللَّهِ ما عَلِمتُك إلَّا كُنتَ سَريعًا في طاعةِ اللَّهِ، بَطيئًا في مَعصيةِ اللَّهِ، فجَزاك اللَّهُ خَيرًا»، ثُمَّ يُفتَحُ لَه بابٌ مِنَ الجَنةِ، وبابٌ مِنَ النَّارِ، فيُقالُ: هَذا مَنزِلُكَ لَو عَصَيتَ اللَّهَ، أبدَلَكَ اللَّهُ به هَذا، فإذا رأى ما في الجَنةِ، قال: رَبِّ عَجِّلْ قيامَ السَّاعةِ؛ كيما أرجِعَ إلَى أهلي ومالي، فيُقالُ لَه: اسكُنْ)) [1608] أخرجه مُطَوَّلًا أبو داود (4753) بنحوه، وأحمد (18534) واللَّفظُ له. صحَّحَه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4753)، وحسَّنه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (280/4)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/290)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (150). .
قال المظهريُّ: (قَولُه:
((أنْ صَدَقَ عَبدي)) يعني: أنْ صَدقَ بما يَقولُ؛ فإنَّه كانَ في الدُّنيا على هَذا الاعتِقادِ عَنِ الإخلاصِ والصِّدقِ، لا عَنِ النِّفاقِ والرِّياءِ، فإذا كانَ لَه هَذا الاعتِقادُ عَنِ الإخلاصِ فهو مُستَحِقٌّ لِلإكرامِ؛ فأكرِمُوه.
قَولُه:
((فأفرِشوه مِنَ الجَنةِ))... أي: فأفرِشوا لَه، يعني: فأُمروا بفَرْشِ بِساطٍ من بُسُطِ الجَنةِ.
قَولُه:
((وألبِسوه))... يعني: ألبِسوه
((مِن)) ثيابِ
((الجَنَّةِ))، والضَّميرُ في
((أفرِشوه)) وما بَعدَه لِلمَلائِكةِ أو لِخَزَنةِ الجَنةِ.
قَولُه:
((من رَوحِها)) أي: من رائِحةِ الجَنَّةِ ولَذَّتِها.
قَولُه:
((ويُفسَحُ لَه فيها)) أي: في الجَنةِ
((مَدٍّ بَصَرِه))،
((المَدُّ)): البَسطُ والتَّوسيعُ، والمَرادُ مِنه هاهنا: إلَى حَيثُ يَنتَهي إليه بَصَرُه.
فإنْ قيلَ: قال قَبلَ هَذا:
((يُفتَحُ لَه سَبعونَ ذِراعًا في سَبعينَ))، وقال هاهنا:
((يُفتَحُ لَه فيها مَدَّ بَصَرِه))، كَيف التَّوفيقُ بينَهما؟
قُلنا:
((سَبعونَ ذِراعًا في سَبعينَ)) عِبارةٌ عَن تَوسُّعِ قَبرِه، و
((مَدُّ البَصَرِ)) هنا عِبارةٌ عَمَّا يُعرَضُ عليه مِنَ الجَنةِ؛ فبينَهما فرقٌ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ ذلك لِمن دَرَجَتُه أقَلُّ مِمَّن لَه هَذا؛ لِأنَّ مَدَّ البَصَرِ أكثَرُ من سَبعينَ ذِراعًا)
[1609] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/231). .
وذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ العَبدَ الكافِرَ أوِ الفاجِرَ بَعدَ أن يَسيءَ الإجابةَ
((يُنادي مُنادٍ في السَّماءِ أنْ كَذَبَ، فأفرِشوا لَه مِنَ النَّارِ، وافتَحوا لَه بابًا إلَى النَّارِ، فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها، ويُضَيَّقُ عليه في قَبرِه، حَتَّى تَختَلِف فيه أضلاعُه، ويأتيه «وفي رِوايةٍ: ويُمَثَّلُ لَه» رَجُلٌ قَبيحُ الوجهِ، قَبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسوءُكَ، هَذا يَومُكَ الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: «وأنتَ فبشَّركَ اللَّهُ بالشَّرِّ»، مَن أنتَ؟ فوجهُكَ الوَجهُ الَّذي يَجيءُ بالشَّرِّ، فيَقولُ: أنا عَمَلُكُ الخَبيثُ، «فواللَّهِ ما عَلِمتُكَ إلَّا كُنتَ بَطيئًا عَن طاعةِ اللَّه، سَريعًا إلَى مَعصيةِ اللَّهِ»، «فجَزاكَ اللَّهُ شَرًّا، ثُمَّ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَه أعمَى أصَمَّ أبكَمَ في يَدِه مِرزبَّةٌ، لَو ضُرِبَ بها جَبَلٌ كانَ تُرابًا، فيُضرِبُه حَتَّى يَصيرَ بها تُرابًا، ثُمَّ يُعيدُه كَما كانَ، فيَضرِبُه ضَرَبةً أخرَى، فيَصيحُ صيحةً يَسمَعُه كُلُّ شَيءٍ إلَّا الثَّقَلينِ، ثُمَّ يُفتَحُ لَه بابٌ مِنَ النَّارِ، ويُمهَّدُ من فُرُشِ النَّارِ»، فيَقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ)) [1610] أخرجه مُطَوَّلًا أبو داود (4753) بنحوه، وأحمد (18534) واللَّفظُ له من حَديثِ البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحَه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4753)، وحسَّنه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (280/4)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/290)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (150). .
قال المظهريُّ: (
((فيُنادي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ كَذَبَ))، يعني: كَذَبَ أنَّه لا يَدري مَن رَبُّه وما دينُه ومَن هَذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِثَ فيهم؛ لِأنَّ الكُفَّارَ يَعلَمونَ أنَّ رَبَّهم هو اللَّهُ تعالى، ويَعلَمونَ أنَّ دينَهم هو الإسلامُ، وأنَّ نَبيَّهم مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ، ولَكِن لا يُؤمِنونَ حَسَدًا وبُغضًا.
فإنْ قيلَ: لمَ قال في قِصَّةِ المُؤمِنِ:
((أنْ صَدَقَ عَبدي)) ولم يَقُلْ هاهنا:
((عَبدي))؟
قُلنا: لِأنَّ إضافةَ اللَّهِ تعالى العَبدَ إلَى نَفسِه تَشريفٌ لَه، والمُؤمِنُ مُستَحِقٌّ التَّشريفَ، بخِلافِ الكافِرِ.
قَولُه:
((فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها))، والضَّميرانِ يَرجِعانِ إلَى النَّارِ، و
((الحَرُّ)) هنا: تأثيرُ النَّارِ إلَيه، و
((السَّمومُ)): الرِّيحُ الحارَّةُ، يعني: يَلحَقُه أثَرُ حَرِّ النَّارِ والرِّيحِ الحارَّةِ.
قَولُه:
((ثُمَّ يُقَيَّضُ لَه أعمَى أصَمَّ))... أي: يُقَدَّرُ لَه ويوكَّلُ عليه زَبانيةٌ لا عينَ لَه؛ حَتَّى لا يَرَى عَجْزَه وجَرَيانَ دَمعِه، كي لا يرحَمَ عليه ولا يَسمَعَ صَوتَ بُكائِه واستِغاثَتِه!)
[1611] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 232). .
وقال ابنُ المَلَكِ الرُّومي: (
((لَو ضُرِبَ بها جَبَلٌ لصار تُرابًا)) أي: اندَقَّ أجزاؤُه كالتُّرابِ.
((فيُضرِبُه بها ضَربةً يَسمَعُها ما بينَ المشرِقِ والمَغرِبِ إلَّا الثَّقَلينِ)) أيِ:
الجِنَّ والإنسَ.
((فيَصيرُ تُرابًا ثُمَّ يُعادُ فيه الرُّوحُ)) يعني: لا يَنقَطِعُ عَنهمُ العَذابُ بموتِهم، بَل يُعادُ فيهمُ الرُّوحُ بَعدَ موتِهم؛ ليَزدادوا عَذابًا؛ قال اللَّهُ تعالى:
زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل: 88] .
وإنَّما ذَكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هَذا الحَديثِ إعادةَ الرُّوحِ في الكافِرِ مَرَّتينَ إلزامًا لَهم بما يُنكِرونَه)
[1612] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (1/142). .
وفي حَديثِ
أنسٍ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ العَبدَ المُؤمِنَ إذا أجابَ الإجابةَ الصَّادِقةَ في قَبرِه،
((فيُقالُ لَه: انظُرْ إلَى مَقعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَد أبدلَك اللَّهُ به مَقعَدًا مِنَ الجَنةِ )). قال نَبيُّ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فيَراهما جَميعًا)). قال قَتادةُ: وذُكِرَ لَنا أنَّه يُفسَحُ لَه في قَبرِه))
[1613] أخرجه البخاري (1338)، ومسلم (2870) واللَّفظُ له. ، وأمَّا الكافِرُ والمُنافِقُ فيُقالُ لَه بَعدَ أن يُجيبَ في قَبرِه تِلكَ الإجابةَ الكاذِبةَ:
((لا دَرَيتَ، ولا تَليتَ، ثُمَّ يُضرَبُ بمِطرَقةٍ من حَديدِ ضَربةً بينَ أُذُنَيه، فيَصيحُ صيحةً يَسمَعُها مَن يَليه إلَّا الثَّقَلينِ )) [1614] أخرجه البخاري (1338) واللَّفظُ له ، ومسلم (2870). .
وفي رِوايةٍ:
((أنَّه يُفسَحُ لَه في قَبرِه سَبعونَ ذِراعًا، ويُملأُ عليه خَضِرًا إلَى يَومِ يُبعَثونَ)) [1615] أخرجها مسلم (2870) من حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
وفي رِوايةٍ أنَّ العَبدَ المُؤمِنَ بَعدَ أن يُسألَ ويُجيبَ:
((فيُنطَلَقُ به إلَى بَيتٍ كانَ لَه في النَّارِ، فيُقالُ لَه: هَذا بَيتُكَ كانَ لَكَ في النَّارِ، ولَكِنَّ اللَّهَ عَصمَك ورَحِمَكَ، فأبدَلَكَ به بيتًا في الجَنةِ، فيَقولُ: دَعوني حَتَّى أذهَبَ فأُبَشِّرَ أهلي، فيُقالُ لَه: اسكُنْ )) [1616] أخرجها مُطَوَّلةً: أبو داود (4751) واللَّفظُ له، وأحمد (13447) من حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4751)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4751). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((فيُقالُ لَه: انظُرْ إلَى مَقعَدِكَ مِنَ النَّارِ)) أي: لَو لَم تُؤمِنْ ولم تَقُمْ بحُجَّتِكَ، قَد أبدلَكَ اللَّهُ تعالى به مَقعَدًا مِنَ الجَنةِ لَمَّا قُمتَ بحُجَّتِكَ.
وقَولُه:
((فيراهما جَميعًا)) يَدُلُّ على أنَّ رُؤيَتَه لَهما حَقيقةٌ بالعينِ، وعلى هَذا فيَحيا المَيِّتُ في قَبرِه حَياةً مُحَقَّقةً بحَيثُ يَرَى ويَسمَعُ ويُسأَلُ ويَتَكَلَّمُ، وعلى هَذا تَدُلُّ أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ في غَيرِ ما مَوضِعٍ. والحِكمةُ في أنَّ اللَّهَ تعالى يُريه إيَّاهما ليَعلَمَ قَدرَ نَعمةِ اللَّه فيما صَرَف عَنه من عَذابِ جَهَنَّمَ، وفيما أوصَلَ إلَيه من كَرامةِ الجَنةِ.
وقَولَه:
((فيُفسَحُ لَه في قَبرِه)) أي: يوسَّعُ لَه فيه سَبعونَ ذِراعًا، فيُحتَمَلُ البَقاءُ على ظاهرِه، ويَكونُ مَعناه: أنَّه تُرفَعُ المَوانِعُ عَن بَصَرِه، فيُبصِرُ مِمَّا يُجاوِرُه مِقدارَ سَبعينَ ذِراعًا، حَتَّى لا تَنالَه ظُلْمةُ القَبرِ ولا ضِيقُه، مَتَى رُدَّ رُوحُه فيه إليه...
وقَولُه:
((ويُملأُ عليه خَضِرًا)) أي: نِعَمًا غَضَّةً ناعِمةً، وأصلُه من خَضِرةِ الشَّجَرِ، والخَضِرِ -بكَسرِ الضَّادِ-: اسمُ جِنسٍ لِلنَّباتِ الرَّطْبِ الأخضَرِ)
[1617]يُنظر: ((المفهم)) (7/ 147). .
وقال العَظيمُ آبادي: (
((لا دَرَيتَ)) أي: لا عَلِمتَ ما هو الحَقُّ والصَّوابُ
((ولا تَلَيتَ)) أي: ولا قَرأتَ الكِتابَ... ويَجوزُ أن يَكونَ مَعناه: ولا اتَّبَعتَ أهلَ الحَقِّ، أي: ما كُنتَ مُحَقِّقًا لِلأمرِ ولا مُقَلِّدًا لِأهلِه)
[1618] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 321). .
وعَن
عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أحَدَكُم إذا ماتَ عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إن كانَ من أهلِ الجَنةِ فمن أهلِ الجَنةِ، وإن كانَ من أهلِ النَّارِ فمن أهلِ النَّارِ، فيُقالُ: هَذا مَقعَدُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّهُ يَومَ القيامةِ )) [1619] أخرجه البخاري (1379) واللَّفظُ له، ومسلم (2866). .
قال عِياضٌ: (وأمَّا قَولُه:
((هَذا مَقعَدُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّهُ إليه)) فتَنعيمُ المُؤمِنِ وتَعذيبُ الكافِرِ بمُعايَنةِ ما أعَدَّ اللَّهُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهما، وانتِظارِ ذلك إلَى اليَومِ المَوعودِ)
[1620] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 402). .
وقال أبو العَباسِ القُرطُبيُّ: (هَذا مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إخبارٌ عَن غَيرِ الشُّهداءِ؛ فإنَّه قَد تَقَدَّمَ أنَّ أرواحَهم في حَواصِلِ طَيرٍ تَسرَحُ في الجَنةِ، وتأكُلُ من ثِمارِها، وغَيرُ الشُّهداءِ: إمَّا مُؤمِنٌ، وإمَّا غَيرُ مُؤمِنٍ. فغَيرُ المُؤمِنِ هو الكافِرُ، فهَذا يَرَى مَقعَدَه مِنَ النَّارِ غُدُوًّا وعَشيًّا، وهَذا هو المَعنيُّ بقَولِه تعالى:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعِشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وأمَّا المُؤمِنُ: فإمَّا ألَّا يَدخُلَ النَّارَ، أو يَدخُلُها بذُنوبِه؛ فالأوَّلُ يَرَى مَقعَدَه مِنَ الجَنةِ، لا يَرَى غَيرَه رُؤيةَ خَوفٍ، وأمَّا المُؤمِنُ المُؤاخَذُ بذُنوبه فلَه مَقعَدانِ: مَقعَدٌ في النَّارِ زَمَنَ تَعذيبِه، ومَقعَدٌ في الجَنَّةِ بَعدَ إخراجِه، فهَذا يَقتَضي أن يُعرَضا عليه بالغَداةِ والعَشِيِّ، إلَّا إن قُلنا: إنَّه أرادَ بأهلِ الجَنةِ كُلَّ مَن يَدخُلُها كَيف كانَ، فلا يَحتاجُ إلَى ذلك التَّفسيرِ. واللَّهُ أعلَمُ.
وهَذا الحَديثُ وما في مَعناه يَدُلُّ على أنَّ المَوتَ لَيسَ بعَدَمٍ، وإنَّما هو انتِقالٌ من حالٍ إلَى حالٍ، ومُفارَقةُ الرُّوحِ لِلبَدَنِ، ويَجوزُ أن يَكونَ هَذا العَرضُ على الرُّوحِ وحدَه، ويَجوزُ أن يَكونَ عليه مَعَ جُزءٍ مِنَ البَدَنِ، واللَّهُ أعلَمُ بحَقيقةِ ذلك)
[1621] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 144). .
وقال ابنُ المَلكِ الروميُّ: (
((إن كانَ)) أيِ: المَيِّتُ
((من أهلِ الجَنةِ فمن أهلِ الجَنةِ)) أي: فالمَعروضُ عليه من مَقاعِدِ أهلِ الجَنةِ؛ ليَزدادَ شُكرًا وفَرَحًا بطِيبِ المَعروضِ ونَزاهَتِه.
((وإن كانَ من أهلِ النَّارِ فمن أهلِ النَّارِ)) أي: فالمَعروضُ عليه من مَقاعِدِ أهلِ النَّارِ؛ ليَزدادَ حَسرةً ونَدامةً.
((فيقالُ: هَذا)) أيِ: المَقعَدُ المَعروضُ عليكَ
((مَقعَدُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّهُ إلَيه يَومَ القيامةِ)) أوِ المَعنَى: القَبرُ مَقعَدُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّهُ مِنه إلَى مَقعَدِكَ الآخَرِ المَعروضِ عليكَ)
[1622] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (1/ 133). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ المَلَكينِ يَقولانِ لِلعَبدِ المُؤمِنِ بَعدَ أن يُجيبَ الإجابةَ السَّديدةَ:
((قَد كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ تَقولُ ذلك، ثُمَّ يُفسَحُ لَه في قَبرِه سَبعونَ ذِراعًا في سَبعينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَه فيه، ثُمَّ يُقالُ لَه: نَمْ، فيَقولُ، أرجِعُ إلَى أهلي فأخبِرُهم، فيَقولانِ: نَم كَنومةِ العَروسِ الَّذي لا يوقِظُه إلَّا أحَبُّ أهلِه إلَيه، حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ من مَضجَعِه ذلك. وأنَّهما يَقولانِ لِلمُنافِقِ: قَد كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ تَقولُ ذلك، فيُقالُ لِلأرضِ: التَئِمي عليه، فتَلتَئِمُ عليه، فتَختَلِفُ أضلاعُه، فلا يَزالُ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ من مَضجَعِه ذلك )) [1623] أخرجه مُطَوَّلًا: الترمذي (1071) واللَّفظُ له، والبزار (8462)، وابن حبان (3117). صَحَّحه ابنُ حبان، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (1071)، وقوَّى إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (3117). .
قال المظهريُّ: (
((قَد كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ تَقولُ هَذا)) يعني: قَد عَلِمنا فيكَ السَّعادةَ وجَوابَنا على وجهٍ يُحِبُّه اللَّهُ؛ لأنَّا رأينا في وَجهِكَ أثَرَ السَّعادةِ وشُعاعَ نُورِ الإيمانِ. ويُحتَمَلُ أن يُخبرَهما اللَّهُ بكَونِه سَعيدًا.
((يُفسَحُ))... أي: يوسَّعُ قَبرُه، طولُه
((سَبعون ذِراعًا))، وعَرضُه سَبعونَ ذِراعًا.
((ثُمَّ يُنَوَّرُ))... أي: يُجعَلُ في قَبرِه الضِّياءُ والنُّورُ.
((ثُمَّ يُقالُ: نَمْ))... قَولُه:
((فيَقولُ: أرجِعُ إلَى أهلي))، يعني: فيَقولُ المَيِّتُ: أريدُ أن أرجِعَ إلَى أهلي و
((أخبِرُهم)) بأنَّ حالي طَيِّبٌ لا حَزنَ لي؛ ليَفرَحوا بكَونِ عيشي طَيِّبًا. قَولُه:
((العَروسِ)): الزَّوجِ والزَّوجةِ في أوَّلِ اجتِماعِهما، يَستَوي في لَفظةِ
((عَروس)) الرَّجُلُ والمَرأةِ، وإنَّما قال:
((كَنومةِ العَروسِ))؛ لِأنَّ العَروسَ تَكونُ في أطيَبِ العَيشِ ونَيلِ المُرادِ، ويُحِبُّه ويُعَزِّزُه أقارِبُه وأحباؤُه في ذلك الوقتِ، يعني: يُقالُ لِذلك الشَّخصِ: نَمْ في القَبرِ على أحسَنِ حالٍ وأطيَبِ عيشٍ؛ فإنَّه لا رُجوعَ مِنَ القَبرِ إلَى الدُّنيا. قَولُه:
((الَّذي لا يوقِظُه إلَّا أحَبُّ أهلِه إليه))... عِبارةٌ عَن عِزَّتِه وتَعظيمِه عِندَ أهلِه، يأتيه غَداةَ لَيلةِ زَفافِه أمُّه أو أبوه، ويوقِظُه مِنَ النَّومِ على الرِّفقِ واللُّطفِ. قَولُه:
((حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ تعالى من مَضجَعِه ذلك)) ((حَتَّى)): مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، يعني: يَنامُ طَيِّبَ العَيشِ حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ تعالى يَومَ القيامةِ...
قَولُ النَّبيِّ عليه السَّلامُ:
((وإن كانَ مُنافِقًا قال: سَمِعتُ النَّاسَ)) يعني: إذا سألَ المَلكانِ المُنافِقَ عَنِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ قال في جَوابِهما:
((سَمِعْتُ النَّاسَ يَقولونَ))، أي: سَمِعتُ المُسْلِمينَ يَقولونَ: إنَّه نَبيٌّ،
((فقُلتُ)) مِثلَ قَولِهم، ولا أعلَمُ أنَّه نَبيٌّ في الحَقيقةِ أم لا. قَولُه:
((فيَقولانِ: قَد كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ تَقولُ ذلك)) يعني: يَقولانِ لَه: إنَّا رأينا في وجهكَ أثَرَ الشَّقاوةِ وظُلَمةَ الكُفْرِ، فعَلِمنا أنَّكَ لا تُجيبُنا على وجهِ الصَّوابِ. قَولُه:
((فيُقالُ لِلأرضِ: التَئِمي عليه))،
((التأم)): إذا اجتَمَعَ...
((الاختِلافُ)): إدخالُ شَيءٍ في شَيءٍ.
((الأضلاع)) جَمعُ: ضِلَعٍ، وهو عَظمُ الجَنبِ، يعني: يُؤمَرُ قَبرُه حَتَّى يُقَرَّبَ كُلُّ جانِبٍ مِنه إلَى الجانِبِ الآخَرِ ويَضُمَّه ويَعصُرَه، فيَنضَمُّ القَبرُ ويَعصُرُه حَتَّى يَدخُلَ عَظمُ جانِبه الأيمَنِ في جانِبه الأيسَرِ، وعَظْمُ جانِبه الأيسَرِ في جانِبه الأيمَنِ)
[1624] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 227-229). .