المَبحَثُ الرَّابعُ: التَّفاضُلُ في البَرزَخِ
المُؤمِنونَ يَتَفاضَلونَ في البَرزَخِ، وتَتَفاوتُ دَرَجاتُهم تَفاوُتًا عَظيمًا، وأفضَلُهم دَرَجةً في البَرزَخِ الأنبياءُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأرواحُ الأنبياءِ في أعلَى عِليِّينَ، في المَلأِ الأعلَى، ويَدُلُّ على ذلك حَديثُ
الإسراءِ والمِعراجِ، وفيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَقَى بالأنبياءِ في السَّمَواتِ على اختِلافِ مَنازِلِهم فيها، وأنَّه رأى موسى قائِمًا يُصَلِّي، ورأى عيسَى قائِمًا يُصَلِّي، ورأى إبراهيمَ قائِمًا يُصَلِّي، ورأى إبراهيمَ مُسنِدًا ظَهرَه إلَى البَيتِ المَعمورِ
[1753] أخرجه مسلم (162، 172) مفرَّقًا من حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
ففي أحاديثِ
الإسراءِ والمِعراجِ دَلالَتانِ:
الأولَى: أنَّ الأنبياءَ أفضَلُ المُؤمِنينَ حَياةً في البَرزَخِ.
الثَّانيةُ: أنَّ الأنبياءَ مُتَفاضِلونَ في حَياتِهمِ البَرزَخِيَّةِ.
قال عياضٌ: (في عُلوِّ مَنزِلةِ نَبيِّنا وارتِفاعِه فوقَ مَنازِلِ سائِرِ الأنبياءِ وبلوغِه حَيثُ بَلَغَ مِن مَلكوتِ السَّمواتِ: دَليلٌ على عُلوِّ دَرَجَتِه وإبانةِ فَضلِه)
[1754] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/ 510). .
ومِن تَفاضُلِ المُؤمنينَ في البَرزَخِ ما ثَبَتَ في فضلِ الشُّهداءِ مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا سُئِلَ عَن قَولِه تعالى:
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أرواحُهم في جَوفِ طَيرٍ خُضْرٍ، لَها قَناديلُ مُعَلَّقةٌ بالعَرْشِ تَسرَحُ مِنَ الجَنةِ حَيثُ شاءَت، ثُمَّ تأوي إلَى تِلكَ القَناديلِ، فاطَّلَع إلَيهم رَبُّهمُ اطِّلاعةً، فقال: هَل تَشتَهونَ شَيئًا؟ قالوا: أيَّ شَيءٍ نَشتَهي ونَحنُ نَسرَحُ مِنَ الجَنةِ حَيثُ شِئنا؟ ففَعلَ ذلك بهم ثَلاثَ مَرَّاتٍ. فلَمَّا رأوا أنَّهم لَن يُترَكوا مِن أن يَسأَلوا، قالوا: يا رَبِّ، نُريدُ أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا حَتَّى نُقتَلَ في سَبيلِكَ مَرَّةً أُخرَى! فلَمَّا رأى أنْ لَيسَ لَهم حاجةٌ تُرِكوا )) [1755] أخرجه مسلم (1887) من حَديثِ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما أحَدٌ يَدخُلُ الجَنةَ يُحِبُّ أن يَرجِعَ إلَى الدُّنيا، ولَه ما على الأرضِ مِن شَيءٍ إلَّا الشَّهيدُ، يَتَمَنَّى أن يَرجِعَ إلَى الدُّنيا فيُقتَلَ عَشرَ مَرَّاتٍ؛ لِما يَرَى مِنَ الكَرامةِ )) [1756] أخرجه البخاري (2817) واللَّفظُ له، ومسلم (1877) من حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
فالشَّهيدُ اختَصَّ بحَياةٍ في البَرزَخِ امتازَ بها عَن غَيرِه مِنَ المُؤمِنينَ.
قال ابنُ أبيِ العِزِّ: (أمَّا الحَياةُ الَّتي اختَصَّ بها الشَّهيدُ وامتازَ بها عَن غَيرِه، في قَولِه تعالى:
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ، وقَولِه تعالى:
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] ، فهيَ أنَّ اللهَ تعالى جَعلَ أرواحَهم في أجوافِ طَيرٍ خُضْرٍ... فإنَّهم لَمَّا بذَلوا أبدانَهم لِلَّهِ عزَّ وجَلَّ حَتَّى أتلَفَها أعداؤُه فيه، أعاضَهم مِنها في البَرزَخِ أبَدانًا خَيرًا مِنها، تَكونُ فيها إلَى يَومِ القيامةِ، ويَكونُ تَنعُّمُها بواسِطةِ تِلكَ الأبَدانِ أكمَلَ مِن تَنَعُّمِ الأرواحِ المُجَرَّدةِ عَنها... فنَصيبُهم مِنَ النَّعيمِ في البَرزَخِ أكمَلُ مِن نَصيبِ غَيرِهم مِنَ الأمواتِ على فُرُشِهم، وإن كانَ المَيِّتُ أعلَى دَرَجةً مِن كَثيرٍ مِنهم، فلَه نَعيمٌ يَختَصُّ به لا يُشارِكُه فيه مَن هو دونَه. واللهُ أعلَمُ. وحَرَّمَ اللهُ على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ، كَما رُوِيَ في السُّنَنِ، وأمَّا الشُّهداءُ فقَد شُوهِدَ مِنهم بَعدَ مُدَدٍ مِن دَفْنِه كَما هو لَم يَتَغَيَّرْ، فيَحتَمِلُ بَقاؤُه كَذلك في تُربَتِه إلَى يَومِ مَحْشَرِه، ويَحتَمِلُ أنَّه يَبلَى مَعَ طولِ المُدَّةِ. واللهُ أعلَمُ. وكأنَّه -واللهُ أعلَمُ- كُلَّما كانَتِ الشَّهادةُ أكمَلَ، والشَّهيدُ أفضَلَ، كانَ بَقاءُ جَسَدِه أطولَ)
[1757] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 586-588). .
قال
ابنُ القيَمِ: (الأرواحُ مُتَفاوِتةٌ في مُستَقَرِّها في البَرزَخِ أعظَمَ تَفاوُتٍ؛ فمِنها: أرواحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ في المَلأِ الأعلَى، وهيَ أرواحُ الأنبياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُه عليهم، وهم مُتَفاوِتون في مَنازِلِهم كَما رَآها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيلةَ الإسراءِ.
ومِنها: أرواحٌ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ تَسرَحُ في الجَنةِ حَيثُ شاءَت، وهيَ أرواحُ بَعضِ الشُّهداءِ لا جَميعِهم، بَل مِنَ الشُّهداءِ من تُحبَسُ روحُه عَن دُخولِ الجَنَّةِ لِدَينٍ عليه أو غَيرِه، كَما في المُسندِ عَن مُحَمَّدِ بن عَبدِ اللَّهِ بن جَحشٍ أنَّ رَجُلًا جاءَ إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسَلَّمَ فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، ما لي إن قُتِلتُ في سَبيلِ اللَّه؟ قال:
((الجَنَّةُ))، فلَمَّا ولَّى قال:
((إلَّا الَّذي سارَّني به جِبريلُ آنِفًا)) [1758] أخرجه أحمد (17253)، وابن أبي شيبة (12144)، والطبراني (19/247) (557) بلفظ: (إلا الدين سارني..). صححه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (403)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17253). . ومِنهم: مَن يَكونُ مَحبوسًا في قَبرِه، كَحَديثِ صاحِبِ الشَّملةِ الَّتي غَلَّها ثُمَّ استُشهِدَ، فقال النَّاسُ: هَنيئًا لَه الجَنةُ! فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ:
((كَلَّا، والَّذي نَفسي بيدِه إنَّ الشَّملةَ الَّتي غَلَّها لَتَشتَعِلُ عليه نارًا في قَبرِه )) [1759] أخرجه البخاري (4234)، ومسلم (115) باختلافٍ يسيرٍ من حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومِنهم: مَن يَكونُ مَقرُّه ببابِ الجَنَّةِ كَما في حَديثِ
ابنِ عِباسٍ:
((الشُّهداءُ على بارِقٍ -نَهرٍ بباب الجَنةِ- في قُبَّةٍ خَضراءَ يَخرُجُ عليهم رِزقُهم مِنَ الجَنةِ بُكْرةً وعَشِيَّةً )) [1760] أخرجه أحمد (2390)، وابن حبان (4658)، والحاكم (2403) صححه ابن حبان، وحسنه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1334)، وصحح إسناده الحاكم وقال: على شرط مسلم، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/124)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2390)، وجوده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/142). ، وهَذا بخِلافِ جَعفرِ بنِ أبي طالِبٍ؛ حَيثُ أبدَلَه اللهُ مِن يَدَيه جَناحينِ يَطيرُ بهما في الجَنةِ حَيثُ شاءَ.
ومِنهم: مَن يَكونُ مَحبوسًا في الأرضِ لَم تَعْلُ رُوحُه إلَى المَلأِ الأعلَى؛ فإنَّها كانَت رُوحًا سُفليَّةً أرضيَّةً؛ فإنَّ الأنفُسَ الأرضيَّةَ لا تَجامِعُ الأنفُسَ السَّماويَّةَ كَما لا تُجامِعُها في الدُّنيا، والنَّفسُ الَّتي لَم تَكتَسِبْ في الدُّنيا مَعرِفةَ رَبِّها ومَحَبَّتَه وذِكْرَه والأُنْسَ به والتَّقَرُّبَ إلَيه، بَل هيَ أرضيَّةٌ سُفليَّةٌ، لا تَكونُ بَعدَ المُفارَقةِ لِبَدَنِها إلَّا هناك، كَما أنَّ النَّفسَ العُلويَّةُ الَّتي كانَت في الدُّنيا عاكِفةً على مَحَبَّةِ اللَّه وذِكرِه والتَّقَرُّبِ إلَيه والأُنسِ به تَكونُ بَعدَ المُفارَقةِ مَعَ الأرواحِ العُلويَّةِ المُناسِبةِ لَها؛ فالمَرءُ مَعَ من أحَبَّ في البرزَخِ ويَومَ القيامةِ، واللهُ تعالى يَزَوِّجُ النُّفوسَ بَعضَها ببَعضٍ في البَرزَخِ ويَومَ المُعادِ، كَما تَقَدَّمَ في الحَديثِ، ويَجعَلُ رُوحُه -يَعني المُؤمِنَ- مَعَ النَّسيمِ الطَّيِّبِ، أي: الأرواحِ الطَّيبةِ المُشاكِلةِ، فالرُّوحُ بَعدَ المُفارَقةِ تُلحَقُ بأشكالِها وإخوانِهم وأصحابِ عَمَلِها، فتَكونُ مَعَهم هناكَ.
ومِنها: أرواحٌ تَكونُ في تَنُّورِ الزُّناةِ والزَّواني، وأرواحٌ في نَهرِ الدَّمِ تَسبَحُ فيه وتُلْقَمُ الحِجارةَ؛ فلَيسَ لِلأرواحِ سَعيدِها وشَقِيِّها مُستَقَرٌّ واحِدٌ، بَل رُوحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ، وُروحٌ أرضيَّةٌ سُفليَّةٌ لا تَصعَدُ عَنِ الأرضِ)
[1761] يُنظر: ((الروح)) (1/171). .