المَبحَثُ الثَّالِثُ: هَل يَعلَمُ الإنسانُ شَيئًا عَن أحوالِ الدُّنيا بَعدَ موتِه؟
عَن
أنسِ بن مالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ العَبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتَولَّى عَنه أصحابُه، إنَّه ليَسمَعَ قَرْعَ نِعالِهم... )) [1738] أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (1374)، ومسلم (2870) واللَّفظُ له. .
وعن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ:
((يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ؛ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ))، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ:
((وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمعَ لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ))، ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ
[1739] أخرجه مسلم (2874). .
قال
ابنُ تيميَّةَ بَعدَ ذِكرِه النُّصوصَ السَّابقةَ وغَيرَها: (هَذِه النُّصوصُ وأمثالُها تُبَينُ أنَّ المَيتَ يَسمَعُ في الجُملةِ كَلامَ الحَيِّ، ولا يَجِبُ أن يَكونَ السَّمعُ لَه دائِمًا، بَل قَد يَسمَعُ في حالٍ دونَ حالٍ، كَما قَد يَعرِضُ لِلحَيِّ؛ فإنَّه يَسمَعُ أحيانًا خِطابَ مَن يُخاطِبه، وقَد لا يَسمَعُ لِعارِضٍ يَعرِضُ لَه)
[1740] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (24/ 364). .
وقال أيضًا: (النَّصُّ الصَّحيحُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقَدَّمٌ على تأويلِ من تأوَّلَ من أصحابِه وغَيرِه، ولَيسَ في القُرآنِ ما يَنفي ذلك؛ فإنَّ قَولَه:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوتَى إنَّما أرادَ به السَّماعَ المُعتادَ الَّذي يَنفَعُ صاحِبَه؛ فإنَّ هَذا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكُفَّارِ، والكُفَّارُ تَسمَعُ الصَّوتَ لَكِنْ لا تَسمَعُ سَماعَ قَبولٍ بفِقهٍ واتِّباعٍ، كَما قال تعالى:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة: 171] ، فهَكَذا الموتَى الَّذينَ ضُربَ لَهمُ المِثَلُ لا يَجِبُ أن يُنفى عَنهم جَميعُ السَّماعِ المُعتادِ أنواع السَّماعِ كَما لَم يَنْفِ ذلك عَنِ الكُفَّارِ، بَل قَدِ انتَفى عَنهمُ السَّماعُ المُعتادُ الَّذي يَنتَفِعونَ به، وأمَّا سَماعٌ آخَرُ فلا يُنفى عَنهم.
وقَد ثَبَتَ في الصَّحيحينِ وغَيرِهما أنَّ المَيتَ يَسمَعُ خَفْقَ نِعالِهم إذا ولَّوْا مُدْبِرينَ، فهَذا موافِقٌ لِهَذا، فكَيف يَدفعُ ذلك؟
ومِنَ العُلَماءِ من قال: إنَّ المَيتَ في قَبرِه لا يَسمَعُ ما دامَ مَيِّتًا، كَما قالت
عائِشةُ واستَدَلتْ به مِنَ القُرآنِ، وأمَّا إذا أحياه الله فإنَّه يَسمَعُ كَما قال قَتادةُ: أحياهمُ اللهُ لَه. وإن كانَت تِلكَ الحَياةُ لا يَسمَعونَ بها كَما نَحنُ لا نَرَى المَلائِكةَ والجِنَّ، ولا نَعلَمُ ما يُحِسُّ به المَيِّتُ
[1741] هكذا في جميع النُّسَخ المطبوعة، ولعله: (النائم). في مَنامِه، وكَما لا يَعلَمُ الإنسانُ ما في قَلبِ الآخَرِ وإن كانَ قَد يَعلَمُ ذلك من أطلَعِه اللهُ عليه)
[1742] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 295-299). .
وقال
ابنُ القَيمِ: (قَد شَرعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لِأمَّتِه إذا سَلَّموا على أهلِ القُبورِ أن يُسَلِّموا عليهم سَلامَ مَن يُخاطِبونَه، فيَقولُ المُسلِم: "السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ". وهَذا خِطابٌ لِمَن يَسمَعُ ويَعقِلُ، ولَولا ذلك لَكانَ هَذا الخِطابُ بمَنزِلةِ خِطابِ المَعدومِ والجَمادِ. والسَّلَفُ مُجْمعونَ على هَذا، وقَد تَواتَرَتِ الآثارُ عَنهم بأنَّ المَيتَ يَعرِفُ بزيارةِ الحَيِّ لَه ويَستَبشِرُ به)
[1743]يُنظر: ((الروح)) (1/8). .
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَدِ استَدَلَّت أمُّ المُؤمِنينَ
عائِشةُ رَضيَ اللهُ عَنها بهَذِه الآيةِ:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى على تَوهيمِ
عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ في رِوايَتِه مُخاطَبةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القَتْلَى الَّذينَ أُلْقُوا في قَليبِ بَدْرٍ بَعدَ ثَلاثةِ أيَّامٍ، ومُعاتَبَتَه إيَّاهم وتَقريعَه لَهم، حَتَّى قال لَه عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما تَخاطِبُ مِن قَومٍ قَد جَيَّفوا؟! فقال:
((والَّذي نَفسي بيَدِه، ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم، ولَكِن لا يُجيبونَ)). وتأوَّلَتْه
عائِشةُ على أنَّه قال: "إنَّهم الآنَ ليَعلَمونَ أنَّ ما كُنتُ أقولُ لَهم حَقٌّ". وقال قَتادةُ: أحياهمُ الله لَه حَتَّى سَمِعوا مَقالتَه؛ تَقريعًا وتَوبيخًا ونِقمةً. والصَّحيحُ عِندَ العُلَماءِ رِوايةُ
ابنِ عُمرَ،… وثَبَتَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ المَيِّتَ يَسمَعُ قَرعَ نِعالِ المُشَيِّعينَ لَه إذا انصَرَفوا عَنه، وقَد شَرعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأمَّتِه إذا سَلَّموا على أهلِ القُبورِ أن يُسَلِّموا عليهم سَلامَ مَن يُخاطِبونَه، فيَقولُ المُسلِّم: السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ
[1744] أخرجه مسلم (249) مُطَوَّلًا من حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهَذا خِطابٌ لِمَن يَسمَعُ ويَعقِلُ، ولَولا هَذا الخِطابُ لَكانوا بمَنزِلةِ خِطابِ المَعدومِ والجَمادِ. والسَّلَفُ مُجمِعونَ على هَذا، وقَد تَواتَرَتِ الآثارُ عَنهم بأنَّ المَيتَ يَعرِفُ بزيارةِ الحَيِّ لَه ويَستَبشِرُ، ….وقَد شُرِعَ السَّلامُ على المَوتَى. والسَّلامُ على مَن لَم يَشعُرْ ولا يَعلَمْ بالمُسَلِّم مُحالٌ، وقَد عَلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه إذا رأوا القُبورَ أن يَقولوا:
((سَلامٌ عليكُم أهلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤمِنينَ، وإنَّا إنَّ شاءَ اللهُ بكم لاحِقونَ، يَرحَمُ اللهُ المُستَقدِمينَ مِنَّا ومِنكُم والمُستأخِرينَ، نَسألُ اللهَ لَنا ولَكُمُ العافيةَ )) [1745] أخرجه مسلم (974) من حَديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا بلفظِ: ((السَّلَامُ علَيْكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ ما تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وإنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بكُمْ لَاحِقُونَ)). ، فهَذا السَّلامُ والخِطابُ والنِّداءُ لِمَوجودٍ يَسمَعُ ويُخاطَبُ ويَعقِلُ ويَرُدُّ، وإن لَم يَسمَعِ المُسَلِّمُ الرَّدَّ. واللهُ أعلَمُ)
[1746] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 324-327). .
وفي مَسألةِ احتِمالِ رُجوعِ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها عَن تأويلِها قال
ابنُ حَجَرٍ: (ومِنَ الغَريبِ أنَّ في المَغازي لِابنِ إسحاقِ رِوايةً يونُسَ بنِ بكيرٍ بإسنادٍ جَيِّدٍ عَن
عائِشةَ مِثلَ حَديثِ أبي طَلحةَ، وفيه:
((ما أنتُم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم))، وأخرَجُه
أحمَدُ بإسنادٍ حَسَنٍ
[1747] أخرجه أحمد (16356) مطولاً من حديث أبي طلحة رضي الله عنه. والحديث في الصحيح أخرجه البخاري (3976) بلفظه، ومسلم (2875) بمعناه . فإن كانَ مَحفوظًا فكأنَّها رَجَعَت عَنِ الإنكارِ لِما ثَبَتَ عِندَها من رِوايةِ هَؤُلاءِ الصَّحابةِ؛ لِكَونِها لَم تَشهَدِ القِصَّةَ، قال الإسماعيليُّ: كانَ عِندَ
عائِشةَ مِنَ الفَهمِ والذَّكاءِ وكَثرةِ الرِّوايةِ والغَوصِ على غَوامِضِ العِلمِ ما لا مَزيدَ عليه، لَكِن لا سَبيلَ إلَى رَدِّ رِوايةِ الثِّقةِ إلَّا بنَصٍّ مِثلِه يَدُلُّ على نَسْخِه أو تَخصيصِه أوِ استِحالَتِه، فكَيف والجَمعُ بينَ الَّذي أنكَرَتْه وأثبَتَه غَيرُها مُمكِنٌ؟... وقَدِ اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في المُرادِ بالموتَى في قَولِه تعالى:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وكَذلك المُرادُ بمَن في القُبورِ، فحَمَلَتْه
عائِشةُ على الحَقيقةِ، وجَعلَتْه أصلًا احتاجَت مَعَه إلَى تأويلِ قَولِه: ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم. وهَذا قَولُ الأكثَرِ. وقيلَ: هو مَجازٌ، والمُرادُ بالموتَى وبمَن في القُبورِ الكُفَّارُ، شُبِّهوا بالموتَى، وهم أحياءٌ، والمَعنَى: من هم في حالِ المَوتَى، أو في حالِ من سَكَنَ القَبرَ، وعلى هَذا لا يَبقَى في الآيةِ دَليلٌ على ما نَفَتْه
عائِشةُ رَضيَ اللهُ عَنها. واللهُ أعلَمُ)
[1748] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 303). .
وقد بوَّبَ
ابنُ رَجَبٍ في كِتابِه: (أهوالُ القُبورِ): (البابُ الثَّامِنُ: فيما ورَدَ من سَماعِ المَوتَى كَلامَ الأحياءِ ومَعرِفتِهم بمَن يَسألُ عليهم ويَزُورُهم، ومَعرِفتِهم بحالِهم بَعدَ المَوتِ، وحالِ أقارِبهم في الدُّنيا)
[1749] يُنظر: (ص: 75). . وساقَ أدِلَّةً وآثارًا في ذلك.
وقال
الشِّنقيطيُّ: (اعلَمْ أنَّ الَّذي يَقتَضي الدَّليلُ رُجْحانَه هو أنَّ الموتَى في قُبورِهم يَسمَعونَ كَلامَ من كَلَّمَهم، وأنَّ قَولَ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها ومن تَبَعِها: إنَّهم لا يَسمَعونَ، استِدلالًا بقَولِه تعالى:
إِنَّكَ لَا تَسْمَعُ الْمَوْتَى، وما جاءَ بمَعناها مِنَ الآياتِ: غَلَطٌ مِنها رَضِيَ اللهُ عَنها، ومِمَّن تَبِعَها.
وإيضاحُ كَونِ الدَّليلِ يَقتَضي رُجحانَ ذلك مَبنيٌّ على مُقَدِّمَتينِ:
الأولَى مِنهما: أنَّ سَماعَ المَوتَى ثَبتَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أحاديثَ مُتَعَدِّدةِ ثُبوتًا لا مَطعَنَ فيه، ولَم يَذكُرْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ ذلك خاصٌّ بإنسانٍ ولا بوقتٍ.
والمُقَدِّمةُ الثَّانيةُ: هيَ أنَّ النُّصوصَ الصَّحيحةَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَماعِ المَوتَى لَم يَثبُتْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ شَيءٌ يُخالِفُها، وتأويلُ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها بَعضَ الآياتِ على مَعنًى يُخالِفُ الأحاديثَ المَذكورةَ، لا يَجِبُ الرُّجوعُ إلَيه؛ لِأنَّ غَيرَه في مَعنَى الآياتِ أولَى بالصَّوابِ مِنه، فلا تُرَدُّ النُّصوصُ الصَّحيحةُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتأوُّلِ بَعضِ الصَّحابةِ بَعضَ الآياتِ... ومِنَ الأحاديثِ الدَّالَّةِ على عُمومِ سَماعِ المَوتَى: ما أخرجه
مُسلِمٌ في صَحيحِه:... عَن
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها، أنَّها قالت: كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما كانَ لَيلَتُها من رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخرُجُ من آخِرِ اللَّيلِ إلَى البقيعِ، فيَقولُ:
((السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ، وأتاكُمْ ما تُوعَدونَ، غَدًا مُؤَجَّلونَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم لاحِقونَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِأهلِ بَقيعِ الغَرقَدِ )) [1750] أخرجه مسلم (974) من حديث عائشة رضي الله عنها. ... وخِطابُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأهلِ القُبورِ بقَولِه:
((السَّلامُ عليكُم))، وقَولُه:
((وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم))، ونَحوَ ذلك، يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّهم يَسمَعونَ سَلامَه؛ لِأنَّهم لَو كانوا لا يَسمَعونَ سَلامَه وكَلامَه لَكانَ خِطابُه لَهم من جِنسِ خِطابِ المَعدومِ، ولا شَكَّ أنَّ ذلك لَيسَ من شأنِ العُقَلاءِ، فمِنَ البَعيدِ جِدًّا صُدورُه مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسَيأتي إنْ شاءَ اللهُ ذِكْرُ حَديثِ
عَمرِو بنِ العاصِ، الدَّالِّ على أنَّ المَيتَ في قَبرِه يَستأنِسُ بوُجودِ الحَيِّ عِندَه. وإذا رأيتَ هَذِه الأدِلَّةَ الصَّحيحةَ الدَّالَّةَ على سَماعِ المَوتَى، فاعلَمْ أنَّ الآياتِ القُرآنيَّةَ؛ كَقَولِه تعالى:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وقَولِه:
وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ لا تَخالِفُها... ومِمَّن جَزم بأنَّ الآياتِ المَذكورةَ لا تُنافي الأحاديثَ الصَّحيحةَ الَّتي ذَكَرْنا:
أبو العَبَّاسِ ابنُ تيميَّةَ... والحاصِلُ: أن تأوُّلَ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها بَعضَ آياتِ القُرآنِ، لا تُرَدُّ به رِواياتُ الصَّحابةِ العُدولِ الصَّحيحةُ الصَّريحةُ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَتأكَّدُ ذلك بثَلاثةِ أُمورٍ:
الأوَّلُ: هو ما ذَكَرْناه الآنَ من أنَّ رِوايةَ العَدْلِ لا تُرَدُّ بالتَّأويلِ.
الثَّاني: أنَّ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها لَمَّا أنكَرَت رِوايةَ
ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّهم ليَسمَعونَ الآنَ ما أَقولُ))، قالت: إنَّ الَّذي قاله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّهم ليَعلَمونَ الآنَ أنَّ الَّذي كُنتُ أقولُ لَهم هو الحَقُّ ))، فأنكَرَتِ السَّماعَ ونَفَتْه عَنهم، وأثبَتَت لَهمُ العِلمَ، ومَعلومٌ أنَّ من ثَبَتَ لَه العِلمُ صَحَّ مِنه السَّماعُ، كَما نَبَّه عليه بَعضُهم.
الثَّالِثُ: هو ما جاءَ عَنها مِمَّا يَقتَضي رُجوعَها عَن تأويلِها، إلَى الرِّواياتِ الصَّحيحةِ...
وفي ذلك كُلِّه دَليلٌ على سَماعِ المَيتِ كَلامَ الحَيِّ، ومِن أوضَحِ الشَّواهدِ لِلتَّلقينِ بَعدَ الدَّفنِ السَّلامُ عليه، وخِطابُه خِطابَ مَن يَسمَعُ، ويَعلَمُ عِندَ زيارَتِه، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُه؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهما خِطابٌ لَه في قَبرِه.
وقَدِ انتَصَرَ
ابنُ كَثيرٍ رَحِمَه اللهُ في تَفسيرِ سورةِ الرُّومِ في كَلامِه على قَولِه تعالى:
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، إلَى قَولِه:
فَهُمْ مُسْلِمُونَ لِسَماعِ المَوتَى، وأورَدَ في ذلك كَثيرًا مِنَ الأدِلَّةِ الَّتي قَدَّمْنا في كَلامِ
ابنِ القَيِّمِ، وابنِ أبي الدُّنيا وغَيرِهما، وكَثيرًا مِنَ المَرائي الدَّالَّةِ على ذلك... وبجَميعِ ما ذَكَرْنا في هَذا المَبحَثِ في الكَلامِ على آيةِ النَّملِ هَذِه، تَعلَمُ أنَّ الَّذي يُرَجِّحُه الدَّليلُ أنَّ الموتَى يَسمَعونَ سَلامَ الأحياءِ وخِطابَهم، سَواءٌ قُلنا: إنَّ اللهَ يَرُدُّ عليهم أرواحَهم حَتَّى يَسمَعوا الخِطابَ ويَردُّوا الجَوابَ، أو قُلْنا: إنَّ الأرواحَ أيضًا تَسمَعُ وتَرُدُّ بَعدَ فَناءِ الأجسامِ؛ لأنَّا قَد قَدَّمنا أنَّ هَذا يَنبَني على مُقَدِّمَتينِ: ثُبوتِ سَماعِ المَوتَى بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وأنَّ القُرآنَ لا يُعارِضُها على التَّفسيرِ الصَّحيحِ الَّذي تَشهَدُ لَه القِرائِنُ القُرآنيَّةُ، واستِقراءُ القُرآنِ، وإذا ثَبَّتَ ذلك بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ من غَيرِ مُعارِضٍ من كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ظَهَرَ بذلك رُجحانُه على تأوُّلِ
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها ومن تَبِعَها بَعضَ آياتِ القُرآنِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُه)
[1751] يُنظر: ((أضواء البيان)) (6/ 128-142). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ المَيتَ إذا دُفِنَ وأتاه المَلَكانِ، قال:
((إنَّه ليَسمَعُ قَرْعَ نِعالِكم)) أيِ: المُنصَرِفونَ عَنه، وهَذا سَماعٌ حالَ الدَّفْنِ. ووقَف صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّمَ على قَتْلَى قُرَيشٍ في قَليبِ بَدرٍ، وجَعلَ يُناديهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم، ولَمَّا راجَعَه الصَّحابةُ في ذلك قال:
((ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم))،... لَكِنْ على فرضِ أنَّهم يَسمَعونَ فإنَّهم لا يَنفَعونَ غَيرَهم، بمَعنَى أنَّهم لا يَدْعُونَ اللهَ لَه، ولا يَستَغفِرونَ الله لَه، ولا يُمكِنُهمُ الشَّفاعةُ لَهم)
[1752] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 87). .