المَطلَبُ الثَّاني: هَلِ العَذابُ في البَرزَخِ على الرُّوحِ أم على البَدَنِ أم على كِلَيهما؟
قال
ابنُ تيميَّةَ: (العَذابُ والنَّعيمُ على النَّفسِ والبَدنِ جَميعًا باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ تُنعَّمُ النَّفسُ وتُعذَّبُ مُنفرِدةً عَنِ البَدَنِ، وتُعذَّبُ مُتَّصِلةً بالبَدَنِ، والبَدنُ مُتَّصِلٌ بها، فيَكونُ النَّعيمُ والعَذابُ عليهما في هَذِه الحالِ مُجتَمِعَينِ، كَما يَكونُ لِلرُّوحِ مُفرَدةً عَنِ البَدَنِ)
[1729] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 282). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لَيسَ السُّؤالُ في القَبرِ لِلرُّوحِ وَحْدَها، كَما قال
ابنُ حَزْمٍ وغَيرِه، وأفسَدُ مِنه قَولُ من قال: إنَّه لِلبَدَنِ بلا رُوحٍ! والأحاديثُ الصَّحيحةُ تَرُدُّ القَولينِ.
وكَذلك عَذابُ القَبرِ يَكونُ لِلنَّفسِ والبَدَنِ جَميعًا، باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، تُنعَّمُ النَّفسُ وتُعذَّبُ مُفرَدةً عَنِ البَدَنِ ومُتَّصِلةً به.
واعلَمْ أنَّ عَذابَ القَبرِ هو عَذابُ البَرزَخِ، فكُلُّ من مات وهو مُستَحِقٌّ لِلعَذابِ نالَه نَصيبُه مِنه، قُبِرَ أو لَم يُقْبَرْ، أكَلَتْه السِّباعُ أوِ احتَرَقَ حَتَّى صارَ رَمادًا ونُسِفَ في الهَواءِ، أو صُلِبَ أو غَرِقَ في البَحرِ؛ وصَلَ إلَى رُوحِه وبَدَنِه مِنَ العَذابِ ما يَصِلُ إلَى المَقبورِ.
وما ورَدَ من إجلاسِه واختِلافِ أضلاعِه ونَحوِ ذلك فيَجِبُ أن يُفهَمَ عَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرادُه من غَيرِ غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ، فلا يُحمَّلُ كَلامُه ما لا يَحتَمِلُه، ولا يُقصَرُ به عَن مُرادِه وما قَصدَه مِنَ الهُدَى والبَيانِ...
فالحاصِلُ أنَّ الدُّورَ ثَلاثةٌ: دارُ الدُّنيا، ودارُ البَرزَخِ، ودارُ القَرارِ. وقَد جَعل اللهُ لِكُلِّ دارٍ أحكامًا تَخُصُّها، ورَكَّبَ هَذا الإنسانَ من بَدَنٍ ونَفسٍ، وجَعلَ أحكامَ الدُّنيا على الأبدانِ، والأرواحُ تَبَعٌ لَها، وجَعلَ أحكامَ البَرزَخِ على الأرواحِ، والأبدانُ تَبَعٌ لَها، فإذا جاءَ يَومُ حَشْرِ الأجسادِ وقيامِ النَّاسِ من قُبورِهم صارَ الحُكمُ والنَّعيمُ والعَذابُ على الأرواحِ والأجسادِ جَميعًا؛ فإذا تأمَّلتَ هَذا المَعنَى حَقَّ التّأمُّلِ، ظَهَرَ لَكَ أنَّ كَونَ القَبرِ رَوضةً من رياضِ الجَنةِ أو حَفرةً من حُفَرِ النَّارِ مُطابِقٌ لِلعَقلِ، وأنَّه حَقٌّ لا مِرْيَةَ فيه، وبذلك يَتَمَيَّزُ المُؤمِنونَ بالغَيبِ من غَيرِهم.
ويَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ النَّارَ الَّتي في القَبرِ والنَّعيمَ لَيسَ من جِنسِ نارِ الدُّنيا ولا نَعيمِها، وإن كانَ اللهُ تعالى يَحمي عليه التُّرابَ والحِجارةَ الَّتي فوقَه وتَحتَه حَتَّى يَكونَ أعظَمَ حَرًّا من جَمْرِ الدُّنيا، ولَو مَسَّها أهلُ الدُّنيا لَم يُحِسُّوا بها! بَل أعجَبُ من هَذا أنَّ الرَّجُلينِ يُدفَنُ أحَدُهما إلَى جَنبِ صاحِبِه، وهَذا في حُفرةٍ مِنَ النَّارِ، وهَذا في رَوضةٍ من رياضِ الجَنةِ، لا يَصِلُ من هَذا إلَى جارِه شَيءٌ من حَرِّ نارِه، ولا من هَذا إلَى جارِه شَيءٌ من نَعيمِه! وقُدرةُ اللهِ أوسَعُ من ذلك وأعجَبُ، ولَكِنَّ النُّفوسَ مُولَعةٌ بالتَّكذيبِ بما لَم تُحِطْ به عِلمًا. وقَد أرانا اللهُ في هَذِه الدَّارِ من عَجائِبِ قُدرَتِه ما هو أبلَغُ من هَذا بكَثيرٍ. وإذا شاءَ اللهُ أن يُطْلِعَ على ذلك بَعضَ عِبادِه أطلَعَه، وغَيَّبَه عَن غَيرِه، ولَو أطلَعَ اللهُ على ذلك العِبادَ كُلَّهم لَزالَت حِكمةُ التَّكليفِ والإيمانِ بالغَيبِ، ولَمَا تَدافَنَ النَّاسُ، كَما في الصَّحيحِ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لَولا ألَّا تَدَافَنوا لَدَعَوْتُ اللهَ أن يُسمِعَكُم من عَذابِ القَبرِ ما أسمَعُ )) [1730] أخرجه مسلم (2867) مُطَوَّلًا من حَديثِ زيد بن ثابت رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولَمَّا كانَت هَذِه الحِكمةُ مُنتَفيةً في حَقِّ البهائِمِ سَمِعَتْ ذلك وأدرَكَتْه)
[1731] يُنظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/579-581). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (هَؤُلاءِ السَّلَفُ كُلُّهم صَرَّحوا بأنَّ الرُّوحَ تُعادُ إلَى البَدَنِ عِندَ السُّؤالِ، وصَرَّحَ بمِثلِ ذلك طَوائِفُ مِنَ الفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمينَ من أصحابنا، وغَيرِهم؛ ك
القاضي أبي يَعلَى وغَيرِه، وأنكَرَ ذلك طائِفةٌ مِنهمُ
ابنُ حَزْمٍ وغَيرُه، وذَكَرَ أنَّ السُّؤالَ لِلرُّوحِ خاصَّةً، وكَذلك سَماعُ الخِطابِ، وأنكَرَ ألَّا تُعادَ الرُّوحُ إلَى الجَسَدِ في القَبرِ لِلعَذابِ وغَيرِه، وقالوا: لَو كانَ ذلك حَقًّا لَلزمَ الإنسانَ أن يَموتَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ويَحيَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، والقُرآنُ دَلَّ على أنَّهما مَوتَتانِ وحَياتانِ، وهَذا ضَعيفٌ جِدًّا؛ فإنَّ حَياةَ الرُّوحِ لَيسَت حَياةً تامَّةً مُستَقِلَّةً كَحَياةِ الدُّنيا، وكالحَياةِ الآخِرةِ بَعدَ البَعثِ، وإنَّما فيها نَوعُ اتِّصالِ الرُّوحِ في البَدَنِ، بحَيثُ يَحصُلُ بذلك شُعورُ البَدَنِ وإحساسٌ بالنَّعيمِ والعَذابِ وغَيرِهما، ولَيسَ هو حَياةً تامَّةً حَتَّى يَكونَ انفِصالُ الرُّوحِ به مَوتًا تامًّا، وإنَّما هو شَبيهٌ بانفِصالِ رُوحِ النَّائِمِ عَنه، ورُجوعِها إلَيه، فإنَّ ذلك يُسَمَّى موتًا وحَياةً، كَما كانَ يَقولُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استيقَظَ:
((الحَمدُ لِلَّه الَّذي أحيانَا بَعدَ ما أماتَنا، وإلَيه النُّشورُ))، وسَمَّاه اللهُ تعالى وفاةً؛ لِقَولِه:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى الآيةُ
[الزمر: 42] ، ومَعَ هَذا فلا يُنافي ذلك أن يَكونَ النَّائِمُ حَيًّا، وكَذلك اتِّصالُ رُوحِ المَيِّتِ ببَدَنِه وانفِصالِها عَنه لا توجِبُ أن يَصيرَ حَيًّا حَياةً مُطلَقةً.
ومِمَّن رَجَّحَ هَذا القَولَ -أعني السُّؤالَ والنَّعيمَ والعَذابَ لِلرُّوحِ خاصَّةً- من أصحابِنا:
ابنُ عَقيلٍ، و
أبو الفَرَجِ بنُ الجَوزيِّ، في بَعضِ تَصانيفِهما، واستَدَلَّ
ابنُ عَقيلٍ بأنَّ أرواحَ المُؤمِنينَ تُنعَّمُ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ، وأرواحَ الكُفَّارِ في حَواصِلِ طَيرٍ سُودٍ، وهَذِه الأجسادُ تَبلَى، فدَلَّ ذلك على أنَّ الأرواحَ تُنعَّمُ وتُعذَّبُ في أجسادٍ أُخَرَ، وهَذا لا حُجَّةَ فيه؛ لِأنَّه لا يُنافي اتِّصالَ الرُّوحِ ببَدَنِه أحيانًا مَعَ فَنائِه واستِحالَتِه...
وقَولُهم: الأرواحُ عِندَ اللهِ تعالى تُعاقَبُ وتُثابُ، لا يُنافي أن تَتَّصِلَ بالبَدَنِ أحيانًا، فيَحصُلُ بذلك إلَى الجَسَدِ نَعيمٌ أو عَذابٌ، وقَد تَستَقِلُّ الرُّوحُ أحيانًا بالنَّعيمِ والعَذابِ؛ إمَّا عِندَ استِحالةِ الجَسَدِ أو قَبلَ ذلك...
ومِمَّا يَدُلُّ على وُقوعِ العَذابِ على الأجسادِ الأحاديثُ الكَثيرةُ في تَضييقِ القَبرِ على المَيِّتِ، حَتَّى تَختَلِفَ أضلاعُه، ولأنَّه لَو كانَ العَذابُ على الرُّوحِ خاصَّةً لَم يَختَصَّ العَذابُ بالقَبرِ ولَم يُنسَبْ إلَيه)
[1732] يُنظر: ((أهوال القبور)) (ص: 78-80). .
وقال
ابنُ بازٍ: (أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنونَ بعَذابِ القَبرِ ونَعيمِه؛ أنَّه حَقٌّ على الرُّوحِ والجَسَدِ جَميعًا، ولَكِن نَصيبُ الرُّوحِ أكثَرُ، كَما قال اللهُ جلَّ وعلا في آلِ فِرعَونَ:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهَكَذا المَيِّتُ الصَّالِحُ يُنعَّمُ في قَبرِه، وغَيرُ الصَّالِحِ يُعذَّبُ في قَبرِه، ويَومَ القيامةِ العَذابُ أشَدُّ، والنَّعيمُ أعظَمُ، بَعدَ البَعثِ والنُّشورِ)
[1733] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/ 66). .
وقال أيضًا: (إنَّ السُّؤالَ حَقٌّ، والمَيِّتَ تُرَدُّ إلَيه رُوحُه، وقَد صَحَّت بذلك الأخبارُ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَياةُ المَيِّتِ في قَبرِه غَيرُ حَياتِه الدُّنيويَّةِ، بَل هيَ حَياةٌ خاصَّةٌ بَرزَخيَّةٌ لَيسَت من جِنسِ حَياتِه في الدُّنيا الَّتي يَحتاجُ فيها إلَى الطَّعامِ والشَّرابِ ونَحوِ ذلك، بَل هيَ حَياةٌ خاصَّةٌ يَعقِلُ مَعَها السُّؤالَ والجَوابَ، ثُمَّ تَرجِعُ روحُه بَعدَ ذلك إلَى عِلِّيِّينَ إنْ كانَ من أهلِ الإيمانِ، وإن كانَ من أهلِ النَّارِ إلَى النَّارِ، لَكِنَّها تُعادُ إلَيه وقتَ السُّؤالِ والجَوابِ، فيَسألُه المَلَكانِ: من رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نَبيُّكَ؟
فالمُؤمِنُ يَقولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، والإسلامُ ديني، ومُحَمَّدٌ نَبيِّي، هَكَذا يُجيبُ المُؤمِنُ والمُؤمِنةُ، ويُقالُ لَه: ما عِلْمُكَ بهَذا الرَّجُلِ؟ «مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، فيَقولُ: هو رَسولُ اللَّهِ، جاءَنا بالهُدَى، فآمَنَّا به وصَدَّقْناه، واتَّبَعْناه، فيُقالُ لَه: قَد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لِمُؤمِنًا، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى الجَنةِ، فيأتيه من رَوحِها ونَعيمِها، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ إلَيه، ويُرَى مَقعَدَه مِنَ النَّارِ، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ لَو كَفَرْتَ باللهِ، أمَّا الآنَ فقَد أعاذَكَ اللهُ مِنه، وصِرْتَ إلَى الجَنَّةِ.
أمَّا الكافِرُ فإذا سُئِلَ عَن رَبِّه ودينِه ونَبيِّه، فإنَّه يَقولُ: هاه هاه لا أدري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقولونَ شَيئًا فقُلتُه، فيُضرَبُ بمِرزَبَّةٍ من حَديدٍ فيَصيحُ صيحةً يَسمَعُها كُلُّ شَيءٍ إلَّا الثَّقَلينِ، يَعني:
الجِنَّ والإنسَ، وتَسمَعُها البَهائِمُ، فيُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ، ويُضَيَّقُ عليه قَبرُه، حَتَّى تَختَلِف أضلاعُه، ويَكونُ قَبرُه عليه حُفرةً من حُفَرِ النَّارِ، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ يأتيه من سَمومِها وعَذابِها، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ إلَيه، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى الجَنَّةِ، فيُرَى مَقعَدَه مِنَ الجَنةِ، ويُقالُ لَه: هَذا مَكانُكَ لَو هَدَاكَ اللَّهُ.
وبذلك يُعلَمُ أنَّ القَبرَ إمَّا رَوضةٌ من رياضِ الجَنةِ، وإمَّا حُفرةٌ من حُفَرِ النَّارِ، والعَذابُ والنَّعيمُ لِلرُّوحِ والجَسَدِ جَميعًا في القَبرِ، وهَكَذا في الآخِرةِ في الجَنَّةِ أو في النَّارِ. أمَّا من مات بالغَرَقِ أو بالحَرقِ أو بأكلِ السِّباعِ، فإنَّ رُوحَه يأتيها نَصيبُها مِنَ العَذابِ والنَّعيمِ، ويأتي جَسَدَه من ذلك في البَرِّ أوِ البَحرِ أو في بُطونِ السِّباعِ ما شاءَ اللهُ من ذلك، لَكِنَّ مُعظَمَ النَّعيمِ والعَذابِ على الرُّوحِ الَّتي تَبقَى إمَّا مُنَعَّمةً، وإمَّا مُعَذَّبةً؛ فالمُؤمِنُ تَذهَبُ رُوحُه إلَى الجَنَّةِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ رُوحَ المُؤمِنِ طائِرٌ يَعلُقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ يأكُلُ مِن ثِمارِها )) [1734] أخرجه الترمذي (1641)، وأحمد (27166) بنحوِه من حَديثِ كعبِ بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ الترمذي: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ أرواحَ الشُّهَداءِ في طَيرٍ خُضرٍ تَعلُقُ من ثمرةِ الجنَّةِ أو شَجَرِ الجنَّةِ). صَحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/125)، وابن القيم في ((الروح)) (1/254)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1641)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27166) وقال: دون لفظ "الشهداء". ، والكافِرُ تَذهَبُ رُوحُه إلَى النَّارِ. فالواجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ ومُسلِمةٍ الاطمِئنانُ إلَى ما أخبَرَ به اللهُ عزَّ وجَلَّ، وأخبَرَ به رَسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأن يُصَدِّقَ بذلك على الوَجهِ الَّذي أرادَه اللهُ عزَّ وجَلَّ، وإنْ خَفِيَ على العَبدِ بَعضُ المَعنَى، فلِلَّهِ الحِكمةُ البالِغةُ سُبحانَه)
[1735] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/ 339). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (هَذا النَّعيمُ أوِ العَذابُ: هَل هو على البَدَنِ أو على الرُّوحِ أو يَكونُ على البَدَنِ والرُّوحِ جَميعًا؟
نَقولُ: المَعروفُ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّه في الأصلِ على الرُّوحِ، والبَدنُ تابعٌ لَها، كَما أنَّ العَذابَ في الدُّنيا على البَدَنِ، والرُّوحُ مُتابِعةٌ لَه، وكَما أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ في الدُّنيا على الظَّاهرِ، وفي الآخِرةِ بالعَكسِ؛ ففي القَبرِ يَكونُ العَذابُ أوِ النَّعيمُ على الرُّوحِ، لَكِنَّ الجِسمَ يَتأثَّرُ بهَذا تَبَعًا، ولَيسَ على سَبيلِ الاستِقلالِ، ورَبَّما يَكونُ العَذابُ على البَدنِ والرُّوحُ تَتبَعُه، لَكِنَّ هَذا لا يَقَعُ إلَّا نادِرًا، إنَّما الأصلُ أنَّ العَذابَ على الرُّوحِ والبَدُنُ تَبَعٌ، والنَّعيمَ لِلرُّوحِ والبَدنُ تَبَعُ)
[1736] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 120). .
وقال أيضًا: (هَلِ العَذابُ في القَبرِ على البَدَنِ أو على الرُّوحِ؟
العَذابُ في القَبرِ على الرُّوحِ في الأصلِ ورَبَّما يَتَّصِلُ بالبَدَنِ، ومَعَ ذلك فإنَّ كَونَه على الرُّوحِ لا يَعني أنَّ البَدنَ لا يَنالُه مِنه شَيءٌ، بَل لا بُدَّ أن يَنالَه من هَذا العَذابِ أوِ النَّعيمِ شَيءٌ وإن كانَ غَيرَ مُباشِرٍ.
واعلَمْ أنَّ العَذابَ والنَّعيمَ في القَبرِ على عَكسِ العَذابِ أوِ النَّعيمِ في الدُّنيا؛ فإنَّ العَذابَ أوِ النَّعيمَ في الدُّنيا على البَدَنِ، وتَتأثَّرُ به الرُّوحُ، وفي البَرزَخِ يَكونُ النَّعيمُ أوِ العَذابُ على الرُّوحِ، ويَتأثَّرُ به البَدَنُ.
فلَو قال لَنا قائِلٌ: كَيف تَقولونَ: إنَّ القَبرَ يَضيقُ على الإنسانِ الكافِرِ حَتَّى تَختَلِفَ أضلاعُه، ونَحنُ لَو كَشَفنا القَبرَ لَوجَدنا أنَّ القَبرَ لَم يَتَغَيَّرْ، وأنَّ الجَسَدَ لَم يَتَغَيَّرْ أيضًا؟
فالجَوابُ على هَذا أن نَقولَ: إنَّ عَذاب القَبرِ على الرُّوحِ في الأصلِ، ولَيسَ أمرًا مَحسوسًا على البَدَنِ، فلَو كانَ أمرًا مَحسوسًا على البَدَنِ، لَم يَكُن مِنَ الإيمانِ بالغَيبِ، ولَم يَكُنْ مِنه فائِدةٌ، لَكِنَّه مِنَ الأمورِ الغَيبيَّةِ المُتَعَلِّقةِ بالأرواحِ، والإنسانُ قَد يَرَى في المَنامِ وهو نائِمٌ على فِراشِه أنَّه قائِمٌ، وذاهِبٌ وراجِعٌ، وضارِبٌ ومَضروبٌ، ورَبَّما يَرَى وهو على فِراشِه نائِمٌ أنَّه قَد سافرَ إلَى العُمرةِ، وطافَ وسَعَى، وحَلقَ أو قَصَّرَ، ورَجَعَ إلَى بَلَدِه، وجِسمُه على الفِراشِ لَم يَتَغَيَّرْ، فأحوالُ الرُّوحِ لَيسَت كأحوالِ البَدَنِ)
[1737] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (3/ 173). .