المَبحَثُ السَّابعُ: ظُهورُ الفتَنِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهْوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ؛ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ )) [1884] أخرجه البخاري (1036) واللَّفظُ له، ومسلم (157). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا قَولُه: وتَظهَرَ الفِتَنُ، فالمُرادُ كَثرَتُها واشتِهارُها، وعَدَمُ التَّكاتُمِ بها، واللهُ المُستَعانُ)
[1885] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 18). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبحُ كافِرًا، يَبيعُ دِينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا )) [1886] أخرجه مسلم (118). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: ( قَولُه:
((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا))) أي: سابِقوا بالأعمالِ الصَّالِحةِ هُجومَ المَحَنِ المانِعةِ مِنها، السَّالِبةِ لِشَرطِها المُصَحِّحِ لَها الإيمانِ، كَما قال: يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا، ويُمسي كافِرًا، ولا إحالةَ ولا بُعْدَ في حَملِ هَذا الحَديثِ على ظاهرِه؛ لِأنَّ المِحَنَ والشَّدائِدَ إذا تَوالَتَ على القُلوبِ أفسَدَتْها بغَلبَتِها عليها، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِن القَسْوةِ. ومَقصودُ هَذا الحَديثِ: الحَضُّ على اغتِنامِ الفُرصةِ، والاجتِهادُ في أعمالِ الخَيرِ والبِرِّ عِندَ التَّمَكُّنِ مِنها، قَبلَ هُجومِ المَوانِعِ.
وقَولَه:
((يَبيعُ دينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا)) عَرَضُ الدُّنيا -بفتحِ العينِ والرَّاءِ-: هو طَمَعُها وما يَعرِضُ مِنها، ويَدخُلُ فيه جَميعُ المالِ. قاله
الهَرَويُّ)
[1887] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 326). .
وقال المظهريُّ: (قَولُه:
((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ))،
((بادَروا))، أي: أسرِعوا وسابِقوا،
((القِطَعُ)): جَمعُ قِطعةٍ، وهيَ بَعضُ الشَّيءِ، يَعني: سَتأتي فتِنٌ شَديدةٌ كاللَّيلِ المُظلِمِ لا يَعرِفُ أحَدٌ سَبَبَها، ولا يَعرِفُ طَريقَ الخَلاصِ مِنها، فتَعجَّلوا بالأعمالِ الصَّالِحةِ قَبلَ مَجيئِها؛ فإنَّكُم لا تُطيقونَ الأعمالَ الصَّالِحةَ إذا أتَتكمُ الفِتَنُ.
((يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا))؛ يَعني: يَكفُرُ كَثيرٌ مِنَ المُسلِمينَ باللهِ في تِلكَ الفتَنِ، والفِتَنُ الَّتي يَكفُرُ المُسلِمُ فيها تَحتَمِلُ احتِمالاتٍ:
أحَدُها: أن تَكونَ بينَ طائِفتينِ مُسلِمتينِ حَربٌ، فتَستَحِلُّ كُلُّ واحِدةٍ مِنَ الطَّائِفتينَ مالَ الأخرَى ودَمَها بالتَّعَصُّب والغَضَبِ، فيَكفُرونَ باستِحلالِهم أموالَ المُسلِمينَ ودِماءَهم.
والاحتِمالُ الثَّاني: أن يَغلِبَ الكُفَّارُ على بلادِ المُسلِمينِ، ويَكونَ مُلوكُ بلادِهم كُفَّارًا، فيأمُرونَ الرَّعيةَ بالارتِدادِ عَنِ الإسلامِ إلَى الكُفرِ، ورُبَّما يَرتَدُّ المُسلِمُ لِطَلَبِ جاهٍ ومالٍ مِنهم مِن غَيرِ أن يَطلُبوا مِنه الكُفرَ.
والاحتِمالُ الثَّالِثُ: أن يَكونَ مُلوكُ بلادِ المُسلِمينَ مُسلِمينَ، ولَكِن يَغلِبُ عليهمُ الظُّلمُ والفِسقُ، فيُريقونَ دِماءَ المُسلِمينَ، ويأخُذونَ أموالَهم بغَيرِ حَقٍّ، ويَزنونَ، ويَشرَبونَ الخَمرَ، ويَلبَسونَ الحَريرَ، ويَعتَقِدُ بَعضُ النَّاسِ أنَّهم على الحَقِّ، ويُفتيهم بَعضُ عُلَماءِ السُّوءِ على جَوازِ ما يَفعَلونَ مِنَ المُحَرَّماتِ، ورُبَّما يَغضَبُ المَلِكُ على أحَدٍ مِنَ الرَّعيةِ، ويأمُرُ النَّاسَ بقَتلِه، أو بأخذِ مالِه، فيَعتَقِدُ بَعضُ النَّاسِ كَونَ أمرِه حَقًّا، ورُبَّما يأمُرُ بصَلبِ السَّارِقِ، فيَعتَقِدُ النَّاسُ جَوازَه، فيَكفُرونَ به؛ لِأنَّ حَدَّ السَّارِقِ القَطْعُ لا الصَّلْبُ)
[1888] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 351). .
وعَن أبي موسَى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبحُ كافِرًا، القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي، والماشي فيها خَيرٌ مِنَ السَّاعي، فكَسِّروا قِسِيَّكُم، وقَطِّعوا أوتارَكُم، واضرِبوا سُيوفَكُمُ بالحِجارةِ، فإنْ دُخِلَ على أحَدِكُم فليَكُنْ كَخيرِ ابنَيْ آدَمَ )) [1889] أخرجه أبو داود (4259)، وابن ماجه (3961)، وأحمد (19662). صَحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (101)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4259)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4259)، وحسَّنه على شرط البخاري: الوادعي في ((الصحيح المسند)) (829). .
قال ابنُ رسْلان: (
((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا)) جَمعُ فتنةٍ، ولِلتِّرمِذيِّ:
((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا))،
((كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ)) قِطَعُ: جَمعُ قِطعةٍ، وهيَ الطَّائِفةُ مِنَ اللَّيلِ، أرادَ أنَّ كُلَّ فتنةٍ سَوداءُ مُظلِمةٌ، وشَبَّهَ الفتَنَ باللَّيلِ المُظلِمِ تَعظيمًا لِشأنِها وعِظَمِ خَطَرِها.
((يُصبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤمِنًا ويُمسي)) وقَد صارَ
((كافِرًا، ويُمسي)) الرَّجُلُ
((مُؤمِنًا)) باللهِ تعالى
((ويُصبحُ كافِرًا)) فيه إخبارٌ عَن سُرعةِ تَغَيُّرِ أحوالِ النَّاسِ في الفتَنِ؛ لِكَثرةِ ما يُشاهِدونَ مِنَ الأهوالِ العَظيمةِ. زادَ
التِّرمِذيُّ:
((يَبيعُ أحَدُهم دينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا))،
((القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ)) والقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي
((والماشي فيها خَيرٌ مِنَ السَّاعي)) فيها بالبَدَنِ وغَيرِه
((فكَسِّروا)) بتَشديدِ السِّينِ لِلمُبالَغةِ
((قِسِيَّكُم)) بكَسرِ القافِ والسِّينِ، جَمعُ قَوسٍ
((وقَطِّعوا)) بتَشديدِ الطَّاءِ
((أوتارَكُم)) أي: أوتارَ القِسِيِّ
((واضرِبوا)) حَدَّ
((سيوفِكُم بالحِجارةِ)) مِنَ القَلبِ، أي: اضرِبوا الحِجارةَ بسُيوفِكُم، كَقَولِهم: عَرَضْتُ النَّاقةَ على الحَوضِ.
وفيه تَركُ المُحارَبةِ في أيَّامِ الفِتَنِ؛ لِأنَّه قِتالٌ في مُسلِمينَ بغَيرِ تأويلٍ صَحيحٍ. وفيه إفسادُ آلاتِ الجِهادِ؛ لِأنَّ اقتِناءَها وإبقاءَها قَد يُؤَدِّي إلَى استِعمالِها، ولِأنَّ ما حَرُمَ استِعمالُه حَرُمَ اتِّخاذُه على هَيئةِ الاستِعمالِ، كَما في آلاتِ المَلاهي، وعلى هَذا فلَو كَسرَها غَيرُ المالِكِ لَم يَكُنْ عليه أَرْشُ النَّقْصِ،
((فإنْ دُخِلَ)) مَبنيٌّ لِلمَفعولِ، أي: دَخَل داخِلٌ
((على أحَدِكم))، يَعني: على أحَدٍ مِنكُم؛ ليَقتُلَه
((فليَكُنْ كَخيرِ ابنَي آدَمَ عليه السَّلامُ)) أي: يَكونُ كَهابيلَ الَّذي فرضَ اللهُ عليه كَما قُتِلَ أنْ لا يَمتَنِعَ مِمَّن أرادَ قَتلَه، وقيلَ: كانَ حَرامًا عليه قَتْلُ مَن أرادَ قَتْلَه، أمَّا الامتِناعُ مِمَّن أرادَ قَتلَه فلا)
[1890] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) (17/ 14). .
وقال ابنُ المَلكِ: (
((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ)) أي: تَكونُ فِتنةً مُلتَبِسةً شائِعةً في الدُّنيا؛ لِفظاعَتِها واستِمرارِها.
((يُصبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، القاعِدُ فيه خَيرٌ مِنَ القائِمِ، والماشي خَيرٌ مِنَ السَّاعي، فكَسِّروا فيها قِسِيَّكُم)) جَمعُ: قَوسٍ.
((وقَطِّعوا فيها أوتارَكُم، واضرِبوا سُيوفَكُم بالحِجارةِ))، إنَّما أمرَ بذلك؛ لِأنَّ تِلكَ المُحارَبةَ تَكونُ بينَ المُسلِمينَ.
((والزَموا فيها أجوافَ بيوتِكُم، فإنْ دُخِلَ على أحَدٍ مِنكُم فليَكُن كَخيرِ ابني آدَمَ))؛ يَعني: فلَيَستَسلِمْ حَتَّى يَكونَ قَتيلًا كَهابيلَ، ولا يَكونَ قاتِلًا كَقابيلَ... يُروى: أنَّهم قالوا: فما تأمُرُنا؟ قال:
((كونوا أحلاسَ بُيوتِكُم)) جَمعُ: حِلْسٍ... وأحلاسُ البُيوتِ: ما يُبْسَطُ تَحتَ حُرِّ الثِّيابِ، ويُقالُ لِلرَّجُلِ اللَّازِمِ لِبَيتِه ولا يَبرَحُ فيه: هو حِلْسُ بَيتِه، أي: الزَموا بيوتَكُم ولا تَخرُجوا؛ كَي لا تَقَعوا في الفِتنةِ)
[1891] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (5/ 503). .
وعَن
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عَنهما قال: نادَى مُنادي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الصَّلاةَ جامِعةً، فاجتَمَعنا إلَى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((إنَّه لَم يَكُنْ نَبيٌّ قَبلي إلَّا كانَ حَقًّا عليه أن يَدُلَّ أمَّتَه على خَيرِ ما يَعلَمُه لَهم، ويُنذِرَهم شَرَّ ما يَعلَمُه لَهم، وإنَّ أمَّتَكُم هَذِه جُعِلَ عافيَتُها في أوَّلِها، وسَيُصيبُ آخِرَها بَلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونَها، وتَجيءُ الفتنةُ فيُرَقِّقُ بَعضُها بَعضًا، وتَجيءُ الفتنةُ فيَقولُ المُؤمِنُ: هَذِه هَذِه. فمَن أحَبَّ أن يُزحَزَحَ عَنِ النَّارِ ويَدخُلَ الجَنَّةَ، فلتأتِه مَنيَّتُه وهو يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ )) [1892] أخرجه مسلم (1844) مُطَوَّلًا. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((إنَّه لَم يَكُنْ نَبيٌّ إلَّا كانَ حَقًّا عليه أن يَدُلَّ أمَّتَه على خَيرِ ما يَعلَمُه لَهم))، أي: حَقًّا واجِبًا؛ لِأنَّ ذلك مِن طَريقِ النَّصيحةِ والاجتِهادِ في التَّبليغِ والبَيانِ. وقَولُه:
((وإنَّ أمَّتَكُم هَذِه جُعِلَ عافيَتُها في أوَّلِها، وسَيُصيبُ آخِرَها بَلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونَها))، يَعني بأوَّلِ الأمَّةِ زَمانَه وزَمانَ الخُلَفاءِ الثَّلاثةِ إلَى قَتْلِ عُثمانَ، فهَذِه الأزمِنةُ كانَت أزمِنةَ اتِّفاقِ هَذِه الأمَّةِ واستِقامةِ أمْرِها وعافيةِ دينِها، فلَمَّا قُتِلَ عُثمانُ ماجَتِ الفتَنُ كَمَوجِ البَحرِ، وتَتابَعتَ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، ثُمَّ لَم تَزَلْ ولا تَزالُ مُتَواليةً إلَى يَومِ القيامةِ. وعلى هَذا فأوَّلُ آخِرِ هَذِه الأمَّةِ -المَعنيُّ في هَذا الحَديثِ- مَقتَلُ عُثمانَ، وهو آخِرٌ بالنِّسبةِ إلَى ما قَبلَه مِن زَمانِ الاستِقامةِ والعافيةِ، وقَد دَلَّ على هَذا قَولُه: وأمورٌ تُنكِرونَها، والخِطابُ لِأصحابِه؛ فدَلَّ على أنَّ مِنهم مَن يُدرِكُ أوَّلَ ما سَمَّاه آخِرًا، وكَذلك كانَ. وقَولُه:
((وتَجيءُ الفِتنةُ فيَدْفِقُ بَعضُها بَعضًا))، الرِّوايةُ يَدْفِقُ، بالتَّخفيفِ وفتحِ الياءِ، هَذِه رِوايةُ
الطَّبَريِّ عَنِ
الفارِسيِّ، ومَعنى فيَدْفِقُ يَدفَعُ، والدَّفْقَ: الدَّفعُ. ومِنه الماءُ الدَّافِقُ. ويَعني: أنَّها كَمَوجِ البَحرِ الَّذي يَدْفِقُ بَعضُه بَعضًا، وشَبَّهَ المُؤمِنَ في هَذِه الفِتَنِ بالعائِمِ الغَريقِ بينَ الأمواجِ، فإذا أقبَلَتْ عليه مَوجةٌ قال: هَذِه مُهلِكَتي! ثُمَّ تَروحُ عَنه تِلكَ، فتأتيه أخرَى فيَقولُ: هَذِه هَذِه! إلَى أن يَغرَقَ بالكُلِّيةِ، وهَذا تَشبيهٌ واقِعٌ. وأخرجه أكثَرُ الرُّواةِ:
((فيُرَقِّقُ)) بالرَّاءِ المَفتوحةِ والقافِ الأولَى المَكسورةِ؛ أي: يُسَيِّبُ بَعضُها بَعضًا ويُشيرُ إلَيه...
((ويُزحَزَحَ عَنِ النَّارِ)): يُنحَّى عَنها ويُؤَخَّرَ مِنها. وقَولُه:
((وليأتِ إلَى النَّاسِ الَّذي يُحِبُّ أن يُؤتَى إلَيه))، أي: يَجيءُ إلَى النَّاسِ بحُقوقِهم مِنَ النُّصحِ والنِّيَّةِ الحَسَنةِ بمِثلِ الَّذي يُحِبُّ أن يُجاءَ إَيه به، وهَذا مِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأخيه ما يُحِبُّ لِنَفسِه )) [1893] أخرجه البخاري (13) واللَّفظُ له، ومسلم (45). ، والنَّاسُ هنا الأئِمَّةُ والأُمَراءُ، فيَجِبُ عليه لَهم مِنَ السَّمعِ والطَّاعةِ والنُّصرةِ والنَّصيحةِ مِثلُ ما لَو كانَ هو الأميرَ لَكانَ يُحِبُّ أن يُجاءَ لَه به)
[1894] يُنظر: ((المفهم)) (4/ 51). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإذا أرَدتَ بقَومٍ فتنةً فاقَبِضْني إلَيكَ غَيرَ مَفتونٍ )). المَقصودُ مِن هَذا الدُّعاءِ سَلامةُ العَبدِ مِن فتَنِ الدُّنيا مُدَّةَ حَياتِه؛ فإنْ قَدَّرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ على عِبادِه فِتنةً قَبضَ عَبدَه إلَيه قَبلَ وُقوعِها، وهَذا مِن أهَمِّ الأدعيةِ؛ فإنَّ المُؤمِنَ إذا عاشَ سَليمًا مِنَ الفتَنِ ثُمَّ قَبضَه اللهُ قَبلَ وُقوعِها وحُصولِ النَّاسِ فيها، كانَ في ذلك نَجاةٌ لَه مِنَ الشَّرِّ، وقَد أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه أن يَتَعَوَّذَوا مِنَ الفتَنِ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ
[1895] أخرجه مسلم (2867) من حَديثِ زيد بن ثابت رَضِيَ اللهُ عنه. ... وكُلَّما قَرُبَ الزَّمانُ مِنَ السَّاعةِ كَثُرَتِ الفِتَنُ...
أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الفتَنِ الَّتي كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يُصبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبحُ كافِرًا، يَبيعُ دينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا. وكانَ أوَّلَ هَذِه الفتَنِ ما حَدَثَ بَعدَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنه، ونَشأ مِن تِلكَ قَتْلُ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عَنه، وما تَرَتَّبَ عليه مِن إراقةِ الدِّماءِ، وتَفرُّقِ القُلوبِ، وظُهورِ فِتَنِ الدِّينِ؛ كَبِدَعِ
الخَوارِجِ المارِقينَ مِنَ الدِّينِ، وإظهارِهم ما أظهَروا، ثُمَّ ظُهورِ بِدَعِ أهلِ القَدَرِ والرَّفْضِ ونَحوِهم، وهَذِه هيَ الفتَنُ الَّتي تموجُ كَمَوجِ البَحرِ، المَذكورةُ في حَديثِ حُذَيفةَ المَشهورِ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ سألَه عَنها عُمَرُ
[1896] أخرجه البخاري (1435)، ومسلم (144) مُطَوَّلًا. ، وكانَ حُذيفةُ رَضِيَ اللهُ عَنه مِن أكثَرِ النَّاسِ سُؤالًا لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الفتَنِ؛ خَوفًا مِنَ الوُقوعِ فيها)
[1897] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (2/ 206-208). .
وقال السَّفارينيُّ في أقسامِ
أشراطِ السَّاعةِ: ( «فالأُولَى» أعني الَّتي ظَهَرَت ومَضَت وانقَضَت «مِنها»: بَعثةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وموتُه، وفتحُ بَيتِ المَقدِسِ.
«ومِنها»: قَتْلُ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضيَ اللهُ عَنه، قال حُذَيفةُ: أوَّلُ الفتَنِ قَتْلُ عُثمانَ.
«ومِنها»: وقْعةُ الجَمَلِ.
«ومِنها»: وقْعةُ صِفِّينَ، فقَد صَحَّ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَقتَتِلَ فِئَتانِ عَظيمَتانِ تَكونُ بينَهما مَقتَلةٌ عَظيمةٌ دَعواهما واحِدةٌ )) [1898] أخرجه البخاري (3609) مُطَوَّلًا. .
«ومِنها»: واقِعةُ النَّهروانِ... وفي
الخَوارِجِ أحاديثُ كَثيرةٌ جِدًّا في الصَّحيحينِ وغَيرِهما.
«ومِنها»: نُزولُ أميرِ المُؤمِنينَ وخاتِمةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ سِبْطِ رَسولِ رَبِّ العالَمينَ؛ سَيَّدِنا
الإمامِ أبي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عليِّ وأخيِ الحُسَينِ -رِضوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمَعينَ-، وقَد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((إنَّ ابني هَذا سَيِّدٌ، وسَيُصلِحُ اللهُ به بينَ فِئَتينِ عَظيمَتينِ مِنَ المُسلِمينَ )) [1899] أخرجه البخاري (2704) مُطَوَّلًا. الحديث. شَهِدَ جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنهم أنَّهم سَمِعوا ذلك مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
«ومِنها»: مُلْكُ بني أمَيَّةَ، وما جَرَى على أهلِ البَيتِ في أيَّامِهم مِنَ الأذيَّةِ؛ كَقَتْلِ الحُسينِ بَعدَ ما سُمَّ
الحَسنُ، وواقِعةِ الحَرَّةِ وما جَرَى فيها مِنَ المَحَنِ، وقَتْلِ
ابنِ الزُّبَيرِ، ورَميِ الكَعبةِ بالمِنجَنيقِ، وما جَرَى في ذلك مِمَّا لا يَحسُنُ ولا يَليقُ. «ومِنها»: مُلْكُ بني العَبَّاسِ، وما جَرَى في أيَّامِهم مِنَ المِحَنِ والبأسِ...)
[1900] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 66). .
وقال ابنُ قاسِمٍ في حَديثِ:
((وإذا وقَعَ عليهمُ السَّيفُ لَم يُرفَعْ إلَى يَومِ القيامةِ)): (في رِوايةِ
أبي داوِدَ:
((وإذا وُضِعَ السَّيفُ في أمَّتي لَم يُرفَعْ إلَى يَومِ القيامةِ )) [1901] أخرجه أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952)، وأحمد (22395) مُطَوَّلًا باختلاف يسير. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7238)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (105). . وقَد وقَعَ كَما أخبَرَ؛ فإنَّه لَمَّا وقَعَ بقَتْلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عَنه لَم يُرْفَعْ، وكَذلك يَكونُ إلَى يَومِ القيامةِ، ولَكِنْ يَكثُرُ تارةً ويَقِلُّ أخرَى، ويَكونُ في جِهةٍ دونَ أخرَى)
[1902] يُنظر: ((حاشية كتاب التوحيد)) (ص: 183). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (أمَّا الهَرْجُ فهو القَتْلُ، وقَد بيَّنَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حَديثٍ آخَرَ أنَّه يَكثُرُ الهَرجُ، فلا يَدري القاتِلُ فيما قَتَلَ، ولا المَقتولُ فيما قُتِلَ! وهَذا مَوجودٌ الآنَ بكَثرةٍ في البلادِ الَّتي نَسمَعُ عَنها كَثيرًا، يُعدَى على المَرءِ ويُسْطَى عليه فيُقتَلُ ما يَدري ما السَّبَبُ، حَتَّى القاتِلُ نَفسُه بَعدَ ما يُنفِّذُ القَتْلَ يَتأمَّلُ على أيِّ شَيءٍ قَتلْتُه، فلا يَدري ما هو السَّبَبُ الَّذي حَملَه على القَتْلِ! لِأنَّ النَّاسَ تَطيشُ عُقولَهم -والعِياذُ باللهِ-، وحَتَّى يُصبحوا كالمَجَانينِ لا يَدرونَ ماذا يَعمَلونَ. وهَذا يَكونُ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ ومَعنى بينَ يَدَيها: أنَّه قَريبٌ مِنها، فهو قَريبٌ مِنَ الأشراطِ الكُبرَى الَّتي تَظهَرُ)
[1903] يُنظر: ((التعليق على كتاب الفتن والأحكام من صحيح البخاري- الشريط رقم 1)). .
وعَنِ
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُستَقبِلُ المَشرِقِ يَقولُ:
((ألا إنَّ الفِتنةَ هاهنا، ألَا إنَّ الفِتنةَ هاهنا، مِن حَيثُ يَطلُعُ قَرْنُ الشَّيطانِ )) [1904] أخرجه البخاري (3279)، ومسلم (2905) واللَّفظُ له. ، وفي رِوايةٍ أنَّه قال:
((رأسُ الكُفرِ مِن هاهنا؛ مِن حَيثُ يَطلُعُ قَرنُ الشَّيطانِ)) [1905] أخرجها مسلم (2905). .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَد نصَّ في الخَبَرِ... أنَّها تَأتي مِن قِبَلِ الْمَشرِقِ، وقَد وُجِدَ كُلُّ ذلك كما أخبَرَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان ذلك مِن أدِلَّةِ صِحَّةِ نُبوتِه ورِسالَتِه، ظَهَرَت بَعدَ وفاتِه)
[1906] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 209). .
وقال
النَّوَويُّ: (وكان ذلك في عَهدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ قال ذلك، ويَكونُ حينَ يَخرُجُ الدَّجَّالُ مِنَ الْمَشرِقِ وهو فيما بينَ ذلك مَنشَأُ الفِتَنِ العَظيمةِ، ومَثارُ الكَفرةِ التُّركِ الغاشِمةِ العاتيةِ الشَّديدةِ البَأسِ)
[1907] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 34). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الفِتنةَ تَكونُ مِن تِلكَ النَّاحيةِ، فكان كما أخبَرَ، وأوَّلُ الفِتَنِ كان مِن قِبَلِ الْمَشرِقِ، فكان ذلك سَبَبًا للفُرقةِ بينَ الْمُسْلِمينَ، وذلك ممَّا يُحِبُّه
الشَّيطانُ ويَفرَحُ به، وكَذلك البِدَعُ نَشَأت مِن تِلكَ الجِهةِ)
[1908] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/47). .
فمِنَ العِراقِ ظَهرَ
الخَوارِجُ، والشِّيعةُ الرَّوافِضُ، والباطِنيَّةُ، والقَدَريَّةُ، و
الجَهْميَّةُ، و
المُعتَزِلةُ، وأكثَرُ مَقالاتِ الكُفرِ كان مَنشَؤُها مِنَ الْمَشرِقِ مِن جِهةِ الفُرْسِ الْمَجوسِ؛ كالزرادشتيَّةِ، والمانَويَّةِ، والمَزدَكيَّةِ، والهِندُوسيَّةِ، والبُوذيَّةِ، وأخيرًا ولَيسَ آخِرًا القاديانيَّةِ، والبَهائيَّةُ إلى غَيرِ ذلك مِنَ الْمَذاهِبِ الهَدَّامةِ. وظُهورُ التَّتارِ في القَرنِ السَّابِعِ الهِجْريِّ كان مِنَ الْمَشرِقِ، وقَد حَدَثَ على أيديهم مِنَ الدَّمارِ والقَتْلِ والشَّرِّ العَظيمِ ما هو مُدَوَّنٌ في كُتُبِ التَّاريخِ، وإلى اليَومِ لا يَزالُ الْمَشرِقُ مَنْبَعًا للفِتَنِ، والشُّرورِ، والبِدَعِ، والخُرافاتِ، والإلحادِ، فالشُّيوعيَّةُ الْمُلحِدةُ مَركَزُها رُوسيا والصِّينُ الشُّيوعيَّةُ وهما في الْمَشرِقِ، وسَيَكونُ ظُهورُ الدَّجَّالِ، ويَأجوج ومَأجوج مِن جِهةِ المَشرِقِ
[1909] يُنظر: ((أشراط الساعة)) للوابل (ص: 85). .