الْمَبحَثُ السَّابِعَ عَشَرَ: اتِّباعُ سُنَنِ الأمَمِ الْماضيةِ
نَشهَدُ اليَومَ بلوغَ هَذِه العَلامةِ مَراحِلَ بَعيدةٍ؛ حَيثُ أفرادُ هَذِه الأمَّة الْمَغلوبةِ على أمرِها يَتَهافَتونَ ويَتَنافَسونَ ويَتَفاخَرونَ باتِّباعِ طَرائِقِ الكُفَّارِ في كُلِّ شَيءٍ ظاهِرٍ وباطِنٍ، بَدءًا من أزيائِهم وقَصَّاتِ شُعورِهم واستِعراضِ التَّحَدُّثِ بلُغاتِهم دونَ حاجةٍ، والتَّقليدِ التَّامِّ لنَفسِ أسلوبِ حَياتِهم، إلى مُحاكاتِهم العَمياءِ في أعيادِهم وقَوانينِهم، ومَناهِجِ تَعليمِهم وتَفكيرِهم.
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَأخُذَ أمَّتي بأخذِ القُرونِ قَبلَها، شِبرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ)). فقيلَ: يا رَسولَ اللهِ، كفارِسَ والرُّومِ؟ فقال:
((ومَنِ النَّاسُ إلَّا أولَئِكَ؟)) [2042] أخرجه البخاري (7319). .
وفي رِوايةٍ عَن أبي سَعيدٍ: قُلنا: يا رَسولَ الله، اليَهودُ والنَّصارى؟ قال:
((فمَنْ؟)) [2043] أخرجه البخاري (3456)، ومسلم (2669). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (أخبَرَ عليه السَّلامُ أنَّ أمَّتَه قَبلَ قيامِ السَّاعةِ يَتَّبِعونَ الْمُحْدَثاتِ مِنَ الأمورِ والبِدَعِ والأهواءِ الْمُضِلَّةِ، كما اتَّبَعَتْها الأمَمُ من فارِسَ والرُّومِ، حَتَّى يَتَغَيَّرَ الدِّينُ عِندَ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ، وقَد أنذَر عليه السَّلامُ في كثيرٍ من حَديثِه أنَّ الآخِرَ شَرٌّ، وأنَّ السَّاعةَ لا تَقومُ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ، وأنَّ الدِّينَ إنَّما يَبقى قائِمًا عِندَ خاصَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمينَ، لا يَخافونَ العَدَاواتِ، ويَحتَسِبونَ أنفُسَهم على اللهِ في القَولِ بالحَقِّ، والقيامِ بالمنهَجِ القَويمِ في دينِ اللهِ)
[2044] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/366) .
وفي رِوايةٍ:
((شِبرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ، حَتَّى لَو دَخَلوا جُحرَ ضَبٍّ تَبعتُموهم)) [2045] أخرجها البخاري (7320) واللَّفظُ له، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. .
قال النَّوَويُّ: (الْمُرادُ بالشِّبْرِ والذِّراعِ وجُحرِ الضَّبِّ التَّمثيلُ بشِدَّةِ الْمُوافَقةِ لَهم، والمَرادُ الْمُوافَقةُ في الْمَعاصي والمُخالَفاتِ، لا في الكُفرِ، وفي هذا مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقَد وقَعَ ما أخبَرَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2046] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/219). .
ومِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في شَأنِ هَذِه العَلامةِ:1- قال
ابنُ تَيميَّةَ: (اليَهودُ مُقصِّرونَ عَنِ الحَقِّ، والنَّصارى غالونَ فيه؛ فأمَّا وسْمُ اليَهودِ بالغَضَبِ، والنَّصارى بالضَّلالِ، فلَه أسبابٌ ظاهِرةٌ وباطِنةٌ، لَيسَ هذا مَوضِعَها. وجِماعُ ذلك: أنَّ كُفرَ اليَهودِ أصلُه من جِهةِ عَدَمِ العَمَلِ بعِلْمِهم، فهم يَعلَمونَ الحَقَّ ولا يَتَّبِعونَه عَمَلًا أو لا قَولًا ولا عَمَلًا، وكُفرُ النَّصارى من جِهةِ عَمَلِهم بلا عِلمٍ، فهم يَجتَهِدونَ في أصنافِ العِباداتِ بلا شَريعةٍ مِنَ اللهِ، ويَقولونَ على اللهِ ما لا يَعلَمونَ؛ ولِهذا كان السَّلَفُ
سُفيانُ بنُ عُيَينةَ وغَيرُه يَقولونَ: إنَّ مَن فَسَدَ من عُلَمائِنا ففيه شَبَهٌ مِنَ اليَهودِ، ومَن فَسَدَ من عُبَّادِنا ففيه شَبَهٌ مِنَ النَّصارى، ولَيسَ هذا مَوضِعَ شَرحِ ذلك. ومَعَ أنَّ الله قَد حَذَّرنا سَبيلَهم، فقَضاؤُه نافِذٌ بما أخبَرَ به رَسولُه ممَّا سَبَقَ في عِلمِه؛ حَيثُ قال فيما خَرَّجاه في الصَّحيحين عَن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ حَتَّى لَو دَخَلوا جُحرَ ضَبٍّ لدَخَلتُموه)). قالوا: يا رَسولَ اللهِ، اليَهودُ والنَّصارى؟ قال:
((فمَن؟)) [2047] أخرجه البخاري (7320)، ومسلم (2669) بنحوه. . ورَوى
البُخاريُّ في صَحيحِه عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَأخُذَ أمَّتي مَأخَذَ القُرونِ، شِبرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ. فقيلَ: يا رَسولَ الله، كفارِسَ والرُّومِ؟ قال: ومَنِ النَّاسُ إلَّا أولَئِكَ؟)) [2048] أخرجه البخاري (7319) باختلافٍ يسيرٍ. . فأخبَرَ أنَّه سَيَكونُ في أمَّتِه مُضاهاةٌ لليَهودِ والنَّصارى، وهم أهلُ الكِتابِ، ومُضاهاةٌ لفارِسَ والرُّومِ، وهم الأعاجِمُ.
وقَد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنهى عَنِ التَّشَبُّهِ بهَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ، ولَيسَ هذا إخبارًا عَن جَميعِ الأمَّة، بَل قَد تَواتَرَ عَنه أنَّه قال:
((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتِه ظاهِرةً على الحَقِّ حَتَّى تَقومَ السَّاعةُ)) [2049] أخرجه مسلم (1923) بنحوه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [2050] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 78-81). .
2- قال
ابنُ القَيِّمِ: (قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لتَأخُذَنَّ أمَّتي مَأخَذَ الأمَمِ قَبلَها شِبرًا بشِبرٍ وذِراعًا بذِراعٍ))، قالوا: فارِسُ والرُّومُ؟ قال:
((ومَنِ النَّاسُ إلَّا هَؤُلاءِ؟)). وكَما في الحَديثِ الآخَرِ:
((لتَرَكَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لَو دَخَلوا جُحرَ ضَبٍّ لدَخَلتُموه))، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، اليَهودُ والنَّصارى؟ قال:
((فمَنْ؟)). والحَديثانِ في الصَّحيحِ. فأخبَرَ أنَّه لا بُدَّ من أن يَكونَ في الأمَّة مَن يَتَشَبَّه باليَهودِ والنَّصارى وبِفارِسَ والرُّومِ، وظُهورُ هذا الشَّبَهِ في الطَّوائِفِ إنَّما يَعرِفُه من عَرَفَ الحَقَّ وضِدَّه، وعَرَفَ الواجِبَ والواقِعَ، وطابَقَ بينَ هذا وهذا، ووازَنَ بينَ ما عليه النَّاسُ اليَومَ وبينَ ما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ)
[2051] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) (1/ 227). .
3- قال
ابنُ رَجَبٍ: (التَّشَبُّه بالمُشرِكينَ والمَغضوبِ عليهم والضَّالينَ من أهلِ الكِتابِ مَنهيٌّ عَنه ولا بُدَّ من وُقوعِه في هَذِه الأمَّة كما أخبَرَ به الصَّادِقُ الْمَصدوقُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ قال:
((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ من قَبلَكم شِبرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ، حَتَّى لَو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدَخَلتُموه )) قالوا: يا رَسولَ الله: اليَهودُ والنَّصارى؟ قال:
((فمَنْ؟)) [2052] يُنظر: ((الحكم الجديرة بالإذاعة)) (ص: 43). .
4- قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَد وقَعَ مُعظَمُ ما أنذَرَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسَيَقَعُ بَقيَّةُ ذلك)
[2053] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/301). .
5- قال
ابنُ عُثَيمين: (إذا تَأمَّلْتَ كلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَدتَه مُطابِقًا للواقِعِ:
((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم))، ولَكِن يَبقى النَّظَرُ: هَل هذا الحَديثُ للتَّحذيرِ أو للإقرارِ؟
الجَوابُ: لا شَكَّ أنَّه للتَّحذيرِ ولَيسَ للإقرارِ، فلا يَقولُ أحَدٌ: سَأحسُدُ وسَآكُلُ
الرِّبَا، وسَأعتَدي على الخَلقِ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك، فمَن قالَ ذلك فإنَّنا نَقولُ لَه: أخطَأتَ؛ لأنَّ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا شَكَّ أنَّه للتَّحذيرِ؛ ولِهذا قال الصَّحابةُ: اليَهودُ والنَّصارى؟ قال: فمَنْ؟ ثُمَّ نَقولُ لَهم أيضًا: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بأشياءَ سَتَقَعُ، ومَعَ ذلك أخبَرَ بأنَّها حَرامٌ بنصِّ القُرآنِ. فمِن ذلك أنَّه أخبَرَ أنَّ الرَّجُلَ يُكرِمُ زوجَتَه ويَعُقُّ أمَّه، وأخبَرَ أنَّ الإنسانَ يَعصي أباهَ ويُدْني صَديقَه، وهذا لَيسَ بجائِزٍ بنصِّ القُرآنِ، لَكِنْ قَصَدَ التَّحذيرَ من هذا العَمَلِ. ووُجِدَ في الأمَمِ السَّابِقةِ مَن يَقولُ للمُؤمِنينَ: إنَّ هَؤُلاء لضالونَ، ووُجِدَ في هَذِه الأمَّة مَن يَقولُ للمُؤمِنينَ: إنَّ هَؤُلاءَ لرَجعيُّونَ. فالمَعاصي لَها أصلٌ في الأمَمِ على حَسَبِ ما سَبَقَ، ولَكِن من وفَّقَه اللهُ للهِدايةِ اهتَدى. والحاصِلُ أنَّكَ لا تَكادُ تَجِدُ مَعصيَةً في هَذِه الأمَّة إلَّا وَجَدْتَ لَها أصلًا في الأمَمِ السَّابِقةِ، ولا تَجِدُ مَعصيَةً في الأمَمِ السَّابِقةِ إلَّا وَجَدْتَ لَها وارِثًا في هَذِه الأمَّةِ)
[2054] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 466). .
وقال أيضًا: (الإخبارُ بالواقِعِ لا يَعني إقرارَه، يَعني إذا أخبَرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن شَيءٍ لَيسَ مَعناه أنَّه يُقِرُّه ويَسمَحُ فيه، كما أخبَرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأقسَمَ قال:
((لتَركَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم)) يَعني: لتَركَبُنَّ طُرُقَ من كان قَبلَكم، قالوا: اليَهودُ والنَّصارى؟ قال:
((نَعَم، اليَهودُ والنَّصارى))، فأخبَرَ أنَّ هَذِه الأمَّة سَوفَ تَرتَكِبُ ما كان عليه اليَهودُ والنَّصارى، إخبارَ تَحذيرٍ، لا إخبارَ تَقريرٍ وإباحةٍ)
[2055] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (5/ 454). .