الفَرعُ الأوَّلُ: الأماكِنُ الْمَعصومةُ
مكَّةُ والمدينةُ.عَن
أنسِ بن مالِكٍ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لَيسَ من بَلَدٍ إلَّا سَيَطَؤُه الدَّجَّالُ إلَّا مَكةَ والمَدينةَ، ولَيسَ نَقْبٌ من أنقابِها إلَّا عليه الْمَلائِكةُ صافِّينَ تَحرُسُها، فيَنزِلُ بالسَّبخةِ فتَرجُفُ الْمَدينةُ ثَلاثَ رَجَفاتٍ يَخرُجُ إليه مِنها كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ )) [2585] أخرجه البخاري (1881)، ومسلم (2943) واللَّفظُ له. . وفي رِوايةٍ أخرى:
((فيَأتي سَبخةَ الجرفِ فيَضرِبُ رُواقَه، وقال: فيَخرُجُ إليه كُلُّ مُنافِقٍ ومُنافِقةٍ)) [2586] أخرجها مسلم (2943) .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَأْتي المَسِيحُ من قِبَلِ المَشْرِقِ، هِمَّتُهُ المَدينَةُ حتَّى يَنْزِلَ دبرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ المَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ )) [2587] أخرجه مسلم (1380). .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (وهو وإن لَم يَدخُلِ الْمَدينةَ إلَّا أنَّه يَأتي سَبخَتَها من دبرِ أحُدٍ، فيَضرِبُ هناكَ رُواقَه، فترجُفُ الْمَدينةُ بأهلِها ثَلاثَ رَجَفاتٍ، فيَخرُجُ إليه مِنها كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ
... ثُمَّ يَهِمُّ بدُخولِ الْمَدينةِ، فتَصرِفُ الْمَلائِكةُ وَجْهَه إلى الشَّامِ، وهُناكَ يَهلِكُ بقَتْلِ عيسى بنِ مَريَم إيَّاه ببابِ لُدٍّ على ما يَأتي، وسَيَأتي أيضًا أنَّ مَكَّةَ لا يَدخُلُها الدَّجَّالُ)
[2588] يُنظر: ((المفهم)) (3/ 495). .
وعَن أبي هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((على أنقابِ الْمَدينةِ مَلائِكةٌ لا يَدخُلُها الطَّاعونُ ولا الدَّجَّالُ )) [2589] أخرجه البخاري (1880)، ومسلم (1379). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: على أنقابِ الْمَدينةِ جَمعُ نَقَبٍ، بفَتحِ النُّونِ والقافِ، بَعدَها مُوَحَّدةٌ، ووَقَعَ في حَديثِ
أنسٍ وأبي سَعيدٍ اللَّذين بَعدَه: على نِقابِها
[2590] حديث أنس: أخرجه البخاري (1881)، ومسلم (2943) ولفظ البخاري: ((ليس له من نقابها نَقبٌ)). وحديث أبي سعيد الخدري: أخرجه البخاري (1882)، ومسلم (2938) ولفظه: ((أن يدخُلَ نِقابَ المدينةِ)). جَمعُ نَقْبٍ، بالسُّكونِ، وهما بمَعنًى. قال ابنُ وهبٍ: الْمُرادُ بها الْمَداخِلُ، وقيلَ: الأبوابُ، وأصلُ النَّقبِ الطَّريقُ بينَ الجَبَلين، وقيلِ: الأنقابُ الطُّرُقُ الَّتي يَسلُكُها النَّاسُ، ومِنه قَولُه تعالى:
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ)
[2591] يُنظر: ((فتح الباري)) (4/ 96). .
وقال ابنُ بطَّالٍ: (في هَذِه الأحاديثِ بُرهانٌ ظَهَرَ إلينا صِحَّتُه، وعَلِمْنا أنَّ ذلك من بركةِ دُعائِه عليه السَّلامُ للمَدينةِ، وقَد أرادَ عُمَرُ والصَّحابةُ أن يَرجِعوا إلى الْمَدينةِ حينَ وقَعَ الوَباءُ بالشَّامِ؛ ثِقةً مِنهم بقَولِ رَسولِ الله عليه السَّلامُ الذي أمَّنَهم من دُخولِ الطَّاعونِ بَلَدَهم، ولِذلك نوقِنُ أنَّ الدَّجَّالَ لا يَستَطيعُ دُخولَها البَتَّةَ، وهذا فضلٌ عَظيمٌ للمَدينةِ. وقَد أخبَرَ الله تعالى أنَّه يوَكِّلُ الْمَلائِكةَ بحِفظِ من شاءَ من عِبادِه مِنَ الآفاتِ والعَدُوِّ والفِتَنِ، فقال تعالى:
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] يَعني: بأمرِ الله لَهم بحِفظِه، وما زالَتِ الْمَلائِكةُ تَنفَعُ الْمُؤمِنين بالنَّصرِ لَهم والدُّعاءِ والِاستِغفارِ، ويَستَغفِرونَ لذُنوبِهم... وفي حَديثِ
أنسٍ أنَّ الدَّجَّالَ لا يَدخُلُ مَكَّةَ أيضًا، وهذا فضلٌ كبيرٌ لمَكَّةَ والمَدينةِ على سائِرِ الأرضِ.
فإنْ قيلَ: إنَّ قَولَه عليه السَّلامُ:
((لا يَدخُلُ الْمَسيحُ)) يُعارِضُه قَولُه في حَديثِ
أنسٍ:
((تَرجُفُ الْمَدينةُ بأهلِها ثَلاثَ رَجَفاتٍ)) والرَّجْفُ رُعبٌ، قال الْمَهلَّبُ: لَيسَ يُعارِضُ، وإنَّما الرَّجْفةُ تَكونُ من أهلِ الْمَدينةِ على مَن بها مِنَ الْمُنافِقينَ والكافِرينَ، فيُخرِجونَهم مِنَ الْمَدينةِ بإخافَتِهم إيَّاهم تَعاطيًا عليهم وعلى الدَّجَّالِ، فيَخرُجُ الْمُنافِقونَ إلى الدَّجَّالِ فرارًا من أهلِ الْمَدينةِ ومِن قُوَّتِهم عليهم، واللهُ أعلَمُ)
[2592] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (4/ 550). .
وعَن أبي بَكَرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، ولَها يَومَئذٍ سَبْعَةُ أبْوابٍ، علَى كُلِّ بابٍ مَلَكانِ )) [2593] أخرجه البخاري (1879). .
قال
القَسطلاني: (
((لا يَدخُلُ الْمَدينةَ رُعبُ الْمَسيحِ الدَّجَّالِ)) بضَمِّ الرَّاءِ، أي: ذُعْرُه وخَوفُه، والدَّجَّالُ مِنَ الدَّجَلِ، وهو الكَذِبُ والخَلطُ؛ لأنَّه كذَّابٌ خَلَّاطٌ، وإذا لَم يَدخُل رُعبُه فالأَولى أنْ لا يَدخُلَ.
((لَها)) أي للمَدينةِ
((يومَئِذٍ سَبعةُ أبوابٍ على كُلِّ بابٍ)) ولِلكشميهنيِّ: لكُلِّ بابٍ
((مَلكانِ)) يَحرُسانِها مِنه)
[2594] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (3/ 337). .
ووَرَدَ في حَديثٍ آخَرَ إضافةُ الْمَسجِدِ الأقصى والطُّورِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يبلغُ سلطانُهُ كلَّ مَنهَلٍ لا يأتي أربعةَ مساجِدَ: الكعبةَ، ومسجدَ الرَّسولِ، والمسجِدَ الأقصى، والطُّورَ )) [2595] أخرجه مُطَولًا أحمد (23090) واللَّفظُ له، والحارث في ((المسند)) (784)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (14/376) من حديث رجلٍ من الأنصار. صحَّحه الطحاوي، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1481)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23090)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/346): رجاله رجال الصَّحيح، ووثَّق رجالَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/112). .
قال
ابنُ الْمُلقِّنِ في الدَّجَّالِ: (هو لا يَدخُلُ أربَعةَ أماكِنَ: مَكةَ، والمَدينةَ، وبَيتَ الْمَقدِسِ، وجَبَلَ الطُّورِ، ومِثلُه في مُسْلِمٍ، وفي «مُسْنَدِ أحمَدَ» أنَّه لا يَأتي الأربَعةَ مَساجِدَ: الكَعبةَ، ومَسجِدَ الرَّسولِ، والمُسجِدَ الأقصى، والطُّورَ)
[2596] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصَّحيح)) (32/ 414). .