الفَرعُ الثَّاني: انهِدامُ السَّدِّ
يُفتَحُ السَّدُّ في آخِرِ الزَّمانِ، فيتَمَكَّنُ يَأجوجُ ومَأجوجُ مِنَ الخُروجِ.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ حِكايةً لقَولِ ذي القَرنينِ بَعدَ بنائِه السَّدَّ:
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 97، 99].
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي: لَمَّا بناه ذو القَرنَينِ
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي: بالنَّاسِ؛ حَيثُ جَعَلَ بينَهم وبينَ يَأجوجَ ومَأجوجَ حائِلًا يَمنَعُهم مِنَ العَيثِ في الأرضِ والفَسادِ.
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي أي: إذا اقتَرَبَ الوَعدُ الحَقُّ
جَعَلَهُ دَكَّاءَ أي: ساواه بالأرضِ. تَقولُ العَربُ: ناقةٌ دَكَّاءُ: إذا كان ظَهرُها مُستَويًا لا سَنامَ لَها. وقال تعالى:
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا [الأعرافُ: 143] أي: مُساويًا للأرضِ. وقال عِكرِمةُ في قَولِه:
فَإِذَا جَاءَ وَعْدٌ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ قال: طَريقًا كما كان.
وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي: كائِنًا لا مَحالةَ. وقَولُه:
وَتَرَكْنَا بَعْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي: النَّاسُ يومَئِذٍ أي: يَومَ يُدَكُّ هذا السَّدُّ ويَخرُجُ هَؤُلاءِ فيموجون في النَّاسِ ويُفسِدونَ على النَّاسِ أموالَهم ويُتلِفونَ أشياءَهم، وهَكَذا قال السُّدِّيُّ في قَولِه:
وَتَرَكْنَا بَعْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال: ذاكَ حينَ يَخرُجونَ على النَّاسِ. وهذا كُلُّه قَبلَ يَومِ القيامةِ وبَعدَ الدَّجَّالِ، كما سَيَأتي بَيانُه إن شاءَ الله تعالى عِندَ قَولِه:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 96، 97]، وهَكَذا قال هاهُنا:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99]، قال ابنُ زيدٍ في قَولِه:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال: هذا أوَّلُ يَومِ القيامةِ
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ على أثَرِ ذلك
فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا. وقال آخَرونَ: بَلِ الْمُرادُ بقَولِه:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي: يَومَ القيامةِ يَختَلِطُ الإنسُ والجِنُّ)
[2856] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 199). .
وقال
السَّعديُّ: (قَولُه:
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي أي: لخُروجِ يَأجوجَ ومَأجوجَ
جَعَلَهُ أي: ذلك السَّدَّ الْمُحكَمَ الْمُتْقَنَ
دَكَّاءَ أي: دَكَّه فانهَدَم، واستَوى هو والأرضُ
وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
وتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يُحتَمَلُ أنَّ الضَّميرَ يَعودُ إلى يَأجوجَ ومَأجوجَ، وأنَّهم إذا خَرَجوا على النَّاسِ -مِن كثرَتِهم واستيعابِهم للأرضِ كُلِّها- يَموجُ بَعضُهم ببَعضٍ، كما قال تعالى
حَتَّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ويُحتَمَلُ أنَّ الضَّميرَ يَعودُ إلى الخَلائِقِ يَومَ القيامةِ، وأنَّهم يَجتَمِعونَ فيه فيَكثُرونَ ويَموجُ بَعضُهم ببَعضٍ، مِنَ الأهوالِ والزَّلازِلِ العِظامِ)
[2857] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 486). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا... [الأنبياء: 96-97] .
قال
ابنُ جَرير: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: حَتَّى إذا فُتِحَ عَن يَأجوجَ ومَأجوجَ -وهما أمَّتانِ مِنَ الأُمَمِ- رَدْمُهما)
[2858] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/ 397). .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ: قَد قَدَّمنا أنَّهم من سُلالةِ آدَمَ عليه السَّلامُ، بَل هم من نَسلِ نوحٍ أيضًا من أولادِ يافِثَ أبي التُّرْكِ، والتُّرْكُ شِرذِمةٌ مِنهم، تُرِكوا من وراءِ السَّدِّ الذي بناه ذو القَرنَينِ. وقال:
هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 98، 99]، وقال في هَذِه الآيةِ الكَريمةِ:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: 96] أي: يُسْرِعونَ في الْمَشيِ إلى الفَسادِ. والحَدَبُ: هو الْمُرتَفِعُ مِنَ الأرضِ، قاله
ابنُ عَباسٍ، وعِكرِمةُ، وأبو صالِحٍ، و
الثَّوريُّ وغَيرُهم، وهَذِه صِفَتُهم في حالِ خُروجِهم، كأنَّ السَّامِعَ مُشاهِدٌ لذلك،
وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] : هذا إخبارُ عالِمٍ ما كان وما يَكونُ، الذي يَعلَمُ غَيبَ السَّمَواتِ والأرضِ، لا إلَه إلَّا هو... وقَد ورَدَ ذِكْرُ خُروجِهم في أحاديثَ مُتَعَدِّدةٍ مِنَ السُّنةِ النَّبَويَّةِ... والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ جِدًّا، والآثارُ عَنِ السَّلَفِ كذلك... وقَولُه:
واقتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ يَعني: يَومَ القيامةِ، إذا وُجِدَت هَذِه الأهوالُ والزَّلازِلُ والبِلابِلُ، أزِفَتِ السَّاعةُ واقتَرَبَت)
[2859] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 372-377). .
وقال
السَّعديُّ: (هذا تَحذيرٌ مِنَ الله للنَّاسِ أن يُقيموا على الكُفرِ والمَعاصي، وأنَّه قَد قَرُبَ انفِتاحُ يَأجوجَ ومَأجوجَ، وهما قَبيلَتانِ عَظيمَتانِ من بني آدَمَ، وقَد سَدَّ عليهم ذو القَرنينِ لَما شُكِيَ إليه إفسادُهم في الأرضِ، وفي آخِرِ الزَّمانِ يَنفَتِحُ السَّدُّ عَنهم، فيَخرُجونَ إلى النَّاسِ في هَذِه الحالةِ والوَصفِ الذي ذَكَرَه اللهُ، من كُلِّ مَكانٍ مُرتَفِعٍ، وهو الحَدَبُ، يَنسِلونَ أي: يُسْرِعونَ. وفي هذا دَلالةٌ على كثرَتِهم الباهِرةِ، وإسراعِهم في الأرضِ، إمَّا بذَواتِهم، وإمَّا بما خَلَقَ اللهُ لَهم مِنَ الأسبابِ الَّتي تُقَرِّبُ لَهم البَعيدَ، وتُسَهِّلُ عليهم الصَّعبَ، وأنَّهم يَقهَرونَ النَّاسَ، ويَعْلونَ عليهم في الدُّنيا، وأنَّه لا يَدَ لأحَدٍ بقِتالِهم.
واقتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ أي: يَومَ القيامةِ الذي وعَدَ اللهُ بإتيانِه، ووَعْدُه حَقٌّ وصِدْقٌ)
[2860] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 531). .
وعَن
زينَبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ الله عَنها أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَلَ عليها يَومًا فَزِعًا يَقولُ:
((لا إلَه إلَّا اللهُ، ويْلٌ للعَرَبِ من شَرٍّ قَدِ اقتَرَبَ، فُتِحَ من رَدْمِ يَأجوجَ ومَأجوجَ مِثلُ هَذِه ))، وحَلَّقَ بإصبَعَيه: الإبهامُ والَّتي تَليها، قالت
زينَبُ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أنهْلِكُ، وفينا الصَّالِحونَ؟ قال:
((نَعَم، إذا كثُرَ الخَبَثُ)) [2861] أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880) مُطَولًا باختلافٍ يسيرٍ. .
قال ابنُ بطالٍ: (هَذِه الأحاديثُ كُلُّها ممَّا أنذَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها أمَّتَه وعَرَّفَهم قُربَ السَّاعةِ لكى يَتُوبوا قَبلَ أن يَهجُمَ عليهم وقتُ غَلقِ بابِ التَّوبةِ حينَ لا يَنفَعُ نَفسًا إيمانُها لَم تَكُن آمَنَت من قَبلُ، وقَد ثَبَت أنَّ خُروجَ يَأجوجَ ومَأجوجَ من آخِرِ الأشراطِ، فإذا فُتِحَ من رَدمِهم في وقتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلُ عَقدِ التِّسعين أوِ الْمِائةِ، فلا يَزالُ الفَتحُ يَستَديرُ ويَتَّسِعُ على مَرِّ الأوقاتِ، وهذا الحَديثُ في مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتينِ، وأشارَ بأصبَعَيه السَّبَّابةِ والتي تَليها )) [2862] أخرجه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: (بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتينِ، ويَقرِنُ بين إصبَعَيه السَّبابةِ والوُسطى). [2863] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 11). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وَيلٌ للعَرَبِ من شَرٍّ قَدِ اقتَرَبَ)) هذا تَنبيهٌ على الِاختِلافِ والفِتَنِ والهَرجِ الواقِعِ في العَرَبِ، وأوَّلُ ذلك قَتْلُ عُثمانَ رَضِيَ الله عَنه؛ ولِذلك أخبَر عَنه بالقُربِ، ثُمَّ لَم يَزَلْ كذلك إلى أن صارَتِ العَربُ بينَ الأُمَمِ كالقَصْعةِ بينَ الأكَلَةِ، كما قال في الحَديثِ الآخَرِ:
((أوشَكَ أن تَداعى عليكم الأُمَمُ كما تَتَداعى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها )) [2864] أخرجه من طرق أبو داود (4297)، وأحمد (22397) مُطَولًا. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4297)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4297)، وحسَّن إسنادَه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (5/106). . قال ذلك مُخاطِبًا للعَرَبِ، ولَهم خاطَبَ أيضًا بقَولِه:
((إنِّي لأرى مَواقِعَ الفِتَنِ خِلالَ بُيوتِكم كمَواقِعِ القَطْرِ )) [2865] أخرجه البخاري (1878)، ومسلم (2885) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. . وقَولُه:
((فُتِحَ اليَومَ من رَدْمِ يَأجوجَ ومَأجوجَ مِثلُ هَذِه)) الرَّدْمُ: هو السَّدُّ الذي بناه ذو القَرنين على يَأجوجَ ومَأجوجَ، ويُهمَزانِ ولا يُهمَزانِ لغَتانِ. وقُرِئَ بهما، فمَن هَمزَهما جَعَلَهما من أَجيجِ النَّارِ، وهو ضَوءُها وحَرارَتُها، وسُمُّوا بذلك لكَثرَتِهم وشِدَّتِهم، وقيلَ: مِنَ الأُجاجِ، وهو الْماءُ الشَّديدِ الْمُلوحةِ... وقَولُه:
((مِثلُ هَذِه، وحَلَّقَ بأصبَعَيه: الإبهامِ والَّتي تَليها )) هذا إخبارٌ وتَفسيرٌ مِنَ الصَّحابةِ الَّتي شاهَدَت إشارةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ إنَّ الرُّواةَ بَعدَهم عَبَّروا عَن ذلك باصطِلاحِ الحِسابِ، فقال بَعضُهم: وعَقدَ
سُفيانُ بيَدِه عَشَرة، وقال بَعضُهم: وعَقدَ وهيبٌ بيَدِه تِسعين، وهذا تَقريبٌ في العِبارةِ. والحاصِلُ: أنَّ الذي فتَحُوا مِنَ السَّدِّ قَليلٌ، وهم مَعَ ذلك لَم يُلهِمْهم اللهُ أن يَقولوا: غَدًا نَفتَحُه إن شاءَ الله تعالى، فإذا قالوها خَرَجوا، واللهُ أعلَمُ)
[2866] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 206-208). .
وقال
النَّوَويُّ: (قَولُه:
((أنهْلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: إذا كثُرَ الخَبَثُ )) هو بفَتحِ الخاءِ والباءِ، وفَسَّرَه الجُمهورُ بالفُسوقِ والفُجورِ، وقيلَ: الْمُرادُ الزِّنا خاصَّةً، وقيلَ: أولادُ الزِّنا، والظَّاهِرُ أنَّه الْمَعاصِي مُطلَقًا)
[2867] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 3). .