الْمَطْلَبُ الثَّاني: غَلْقُ بابِ التَّوبةِ بَعدَ طُلوعِ الشَّمسِ من مَغرِبِها
قال اللهُ تعالى:
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .
قال
السُّمعانيُّ: (
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ أجمَعَ الْمُفَسِّرونَ على أنَّه أرادَ به طُلوعَ الشَّمسِ من مَغرِبِها، إلَّا في رِوايةٍ شاذَّةٍ عَن مُعاذِ بن جَبَلٍ أنَّه: خُروجُ الدَّجَّالِ، وخُروجُ يَأجوجَ ومَأجوجَ. وقَد ثَبَت برِوايةِ
ابنِ مَسعودٍ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال فيه:
((هيَ طُلوعُ الشَّمسِ من مَغرِبِها))، وكَذلك أخرجه أبو سَعيدٍ الخُدريُّ مَرفوعًا بلَفظِه)
[2908] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/ 159). .
وعَن صَفوانَ بن عَسالٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الله جَعَلَ بالمَغرِبِ بابًا عَرضُه مَسيرةُ سَبعين عامًا للتَّوبةِ لا يُغلَقُ ما لَم تَطلُعِ الشَّمسُ من قِبَلِه، وذلك قَولُ الله عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا الآية)) [2909] أخرجه الترمذي (3536) واللفظ له، وابن ماجه (4070)، وأحمد (18093، 18094) مفرقاً باختلاف يسير. صححه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1321)، وابن العربي في ((الناسخ والمنسوخ)) (2/156). .
قال الْمظهريُّ: (قَولُه:
((إنَّ الله جَعَلَ بالمَغرِبِ بابًا ...)) إلى آخِرِه. يَعني: تَدخُلُ توبةُ التَّائِبينَ في ذلك البابِ، فمَن تابَ قَبلَ أن يُغلَقَ ذلك البابُ تُترَكُ تَوبَتُه حَتَّى تَدخُلَ في ذلك البابِ، ومَن تابَ بَعدَ أن أُغلِقَ تُرَدُّ تَوبتُه.
((مِن قِبَلِه)) أي: من جانِبِ البابِ.
قَولُه:
بَعضُ آياتِ رَبِّكَ أي: بَعضُ العَلاماتِ الَّتي يُظهِرُها رَبُّكَ إذا قَرُبَتِ القيامةُ. قَولُه:
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا يَعني: لا يَنفَعُ نَفسًا أن تَعمَلَ طاعةً وتوبةً في ذلك الوَقتِ)
[2910] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 189). .
وعَن أبي موسى رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ يَبسُطُ يَدَه باللَّيلِ ليَتوبَ مُسيءُ النَّهارِ ويَبسُّطُ يَدَه بالنَّهارِ ليَتوبَ مُسيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ من مَغرِبِها )) [2911] أخرجه مسلم (2759). قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (إنَّ التَّوبةَ تَصِحُّ وتُقبَلُ دائِمًا إلى الوَقتِ الذي تَطلُعُ فيه الشَّمسُ من حَيثُ تَغرُبُ، فإذا كان ذلك طُبِعَ على كُلِّ قَلبٍ بما فيه، ولَم تَنفَعْ تَوبةُ أحَدٍ)
[2912] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 105). .
وقال أبو عَبد اللهِ القُرطُبيُّ: (قال العُلَماءُ: وإنَّما لا يَنفَعُ نَفسًا إيمانُها عِندَ طُلوعِ الشَّمسِ من مَغرِبِها؛ لأنَّه خَلَصَ إلى قُلوبِهم مِنَ الفَزَعِ ما تَخمدُ مَعَه كُلُّ شَهوةٍ من شَهَواتِ النَّفسِ، وتَفتُرُ كُلُّ قوَّةٍ من قوى البَدَنِ، فيَصيرُ النَّاسُ كُلُّهم لإيقانِهم بدُنُوِّ القيامةِ، في حالِ من حَضَرَه الْمَوتُ في انقِطاعِ الدَّواعي إلى أنواعِ الْمَعاصي عَنهم وبُطْلانِها من أبدانِهم، فمَن تابَ في مِثلِ هَذِه الحالِ لَم تُقبَل تَوبَتُه، كما لا تُقبَلُ تَوبةُ من حَضَرَه الْمَوتُ)
[2913] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 415). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (إذا أنشَأ الكافِرُ إيمانًا يومَئِذٍ لا يُقبَلُ مِنه، فأمَّا من كان مُؤمِنًا قَبلَ ذلك فإن كان مُصلِحًا في عَمَلِه فهو بخَيرٍ عَظيمٍ، وإن كان مُخَلِّطًا فأحدَثَ توبةً حينَئِذٍ لَم تُقبَلْ مِنه تَوبَتُه)
[2914] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/371). .
وقال أيضًا: (فهَذِه الأحاديثُ الْمُتَواتِرةُ مَعَ الآيةِ الكَريمةِ دَليلٌ على أنَّ من أحدَثَ إيمانًا أو توبةً بَعدَ طُلوعِ الشَّمسِ من مَغرِبِها، لا تُقبَلُ مِنه، وإنَّما كان كذلك -والله أعلَمُ- لأنَّ ذلك من أكبَرِ
أشراطِ السَّاعةِ وعَلاماتِها الدَّالَّةِ على اقتِرابِها ودُنُوِّها، فعُومِلَ ذلك الوَقتُ مُعامَلةَ يَومِ القيامةِ، كما قال تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام: 158] ، وقال تعالى:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84، 85])
[2915] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (19/ 263). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ بَعدَ ذِكرِه أحاديثَ وآثارًا كثيرةً تَدُلُّ على استِمرارِ قَفلِ بابِ التَّوبةِ إلى يَومِ القيامةِ: (فهَذِه آثارٌ يَشُدُّ بَعضُها بَعضًا مُتَّفِقةٌ على أنَّ الشَّمسَ إذا طَلَعَت مِنَ الْمَغرِبِ أُغلِقَ بابُ التَّوبةِ، ولَم يُفتَح بَعدَ ذلك، وأنَّ ذلك لا يَختَصُّ بيَومِ الطُّلوعِ، بَل يَمتَدُّ إلى يَومِ القيامةِ)
[2916] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 355). .
وقال السَّفارينيُّ: (قال العُلَماءُ رَحِمَهم اللهُ تعالى: طُلوعُ الشَّمسِ من مَغرِبِها ثابِتٌ بالسُّنةِ الصَّحيحةِ، والأخبارِ الصَّريحةِ، بَل وبِالكِتابِ الْمُنَزَّلِ على النَّبيِّ الْمُرْسَلِ؛ قال تعالى:
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] الآيةِ. أجمَعَ الْمُفَسِّرونَ أو جُمهورُهم على أنَّها طُلوعُ الشَّمسِ من مَغرِبِها... الْمَقصودُ مِنَ الآيةِ الكَريمةِ: إنْ لَم يَكُنْ إيمانُه مُتَحَقِّقًا إذا طَلَعت الشَّمسُ من مَغرِبِها لَم يَنفَعْه تَجديدُ الإيمانِ ولَم يَنفَعْه فِعلُ بِرٍّ من جَميعِ الأعمالِ؛ لأنَّه فقَدَ الإيمانَ الذي هو الأساسُ لِما عَداه من تِلكَ الأعمالِ، فلا يَنفَعُه إيمانُه الحادِثُ حينَئِذٍ، ولا ما صَدَرَ مِنه قَبلَ ذلك مِنَ الإحسانِ وعَمَلِ البِرِّ مِن صِلَةِ الأرحامِ، وإعتاقِ الرِّقَابِ، وقِرَى الأضيافِ، وغَيرِ ذلك ممَّا هو من مَكارِمِ الأخلاقِ؛ لأنَّها على غَيرِ أساسٍ. قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم: 18] الآيةُ.
والإيمانُ الحادِثُ في ذلك الوَقتِ لَيسَ مَقبولًا حَتَّى يَكونَ من بابِ «أسلَمَ على ما سَلَفَ مِنَ الخَيرِ» فهَؤُلاءِ لا يَنفَعُهم لا بانضِمامِ الأفعالِ اللَّاحِقةِ ولا بانضِمامِ أعمالِهم السَّابِقةِ؛ لفَقدِ الأساسِ الذي هو الإيمانُ، وأمَّا من تَحَقَّقَ اتِّصافُه بالإيمانِ الشَّرعيِّ من قَبلِ ذلك الوَقتِ، واستَمَرَّ إيمانُه إلى طُلوعِ الشَّمسِ من مَغرِبِها، فهو لا يَخلو إمَّا أن يَكونَ مُؤمِنًا مُقيمًا على الْمَعاصي لَم يَكسِبْ في إيمانِه خَيرًا، أو مُؤمِنًا مُخَلِّطًا، أو مُؤمِنًا تائِبًا عَنِ الْمَعاصي كاسِبًا في إيمانِه خَيرًا ما استَطاعَ، «فالأوَّلُ» يَنفَعُه الإيمانُ السَّابِقُ الْمُجَرَّدُ مِنَ الأعمالِ لأصلِ النَّجاةِ فلا يُخلَّدُ في النَّارِ وإنْ دَخلَها بذُنوبِه، فالإيمانُ السَّابِقُ يَنفَعُه ويَنفَعُه الإيمانُ يومَئِذٍ أيضًا؛ لأنَّه نورٌ على نورٍ، ولَكِن لا تَنفَعُه التَّوبةُ عَنِ الْمَعاصي، ولا يُقبَلُ مِنه حَسَنةٌ يَعمَلُها بَعدَ ذلك.
«والثَّاني» يَنفَعُه إيمانُه السَّابِقُ لأصلِ نَجاتِه، ويَنفَعُه ما قَدَّمَه مِنَ الحَسَناتِ لدَرَجاتِه، ويَنفَعُه إيمانُ يومِئِذٍ أيضًا لِما مَرَّ، ولَكِنْ لا تَنفَعُه توبةٌ حينَئِذٍ مِنَ التَّخليطِ ولا حَسَنةٌ يَعمَلُها بَعدَ ذلك ما لَم يَكُن عَمِلَها من قَبلُ واستَمَرَّ على عَمَلِها من نَحوِ صَلاةٍ وقِراءةٍ وذِكرٍ كان يَعمَلُه.
«والثَّالِثُ» يَنفَعُه إيمانُه السَّابِقُ لأجلِ نَجاتِه، وتَنفَعُه أعمالُه السَّابِقةُ الصَّالِحةُ لدَرَجاتِه، ويَنفَعُه إيمانُه ذلك اليَومَ أيضًا، ويَنفَعُه ما يَعمَلُه بَعدَ ذلك مِنَ الحَسَناتِ الَّتي سَبَقَ مِنه أمثالُها.
وهذا التَّفصيلُ ممَّا دَلت عليه الآيةُ الكَريمةُ وبيَّنَتْه الأحاديثُ)
[2917] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 133). .