الْمَطْلَبُ الرَّابِعُ: زَمانُ وُقوعِ حَشْرِ النَّاسِ بالنَّارِ
الحَشْرُ الْمَذكورُ في الأحاديثِ السَّابِقةِ يَكونُ في الدُّنيا، ولَيسَ الْمُرادُ به حَشْرَ النَّاسِ بَعدَ البَعثِ مِنَ القُبورِ.
قال
القُرطُبيُّ: (الحَشْرُ ومَعناه الجَمعُ، وهو على أربَعةِ أوجُهٍ: حَشْرانِ في الدُّنيا، وحَشْرانِ في الآخِرةِ.
أمَّا الذي في الدُّنيا فقَولُه تعالى:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهم لأوَّلِ الحَشْرِ [الحشر: 12] . قال
الزُّهريُّ: كانوا من سبطٍ لَم يُصِبْهم جَلاءٌ، وكان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قَد كَتَبَ عليهم الجَلاءَ، فلَولا ذلك لعَذبَهم في الدُّنيا، وكان أوَّلُ حَشْرٍ حُشِروا في الدُّنيا إلى الشَّامِ... الثَّاني: ما أخرجه
مُسْلِمٌ عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يُحشَرُ النَّاسُ على ثَلاثِ طَرائِقِ: راغِبينَ وراهِبين، واثنانِ على بَعيرٍ، وثَلاثة على بَعيرٍ، وأربَعة على بَعيرٍ، وعَشَرةٌ على بَعيرٍ، وتَحشُرُ بَقيَّتَهم النَّارُ، تَبيت مَعَهم حَيثُ باتوا، وتَقيلُ مَعَهم حَيثُ قالوا، وتُصبِحُ مَعَهم حَيثُ أصبَحوا، وتُمسِي مَعَهم حَيثُ أمسَوا )). أخرَجَه
البُخاريُّ أيضًا...
[2966] أخرجه البخاري (6522)، ومسلم (2861) واللَّفظُ له. قال القاضي عِياضٌ: هذا الحَشْرُ في الدُّنيا قَبلَ قيامِ السَّاعةِ، وهو آخِرُ أشراطِها. كما ذَكَرَه
مُسْلِمٌ بَعدَ هذا في آياتِ السَّاعةِ. قال فيه:
((وآخِرُ ذلك نارٌ تَخرُجُ من قَعرِ عَدَنٍ تَزْجُرُ النَّاسَ)) [2967] أخرجه مسلم (2901) من حديث حُذَيفةَ بن أُسَيد رضي الله عنه بلفظ: ((ونارٌ تَخرجُ مِن قُعرةِ عَدَنٍ تُرَحِّلُ النَّاسَ)). ، وفي رِوايةٍ:
((تَطرُدُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهم))، ويَدُلُّ على أنَّها قَبلَ يَومِ القيامةِ قَولُه:
((فتَقيلُ مَعَهم حَيثُ قالوا، وتُمسي مَعَهم حَيثُ أَمْسَوا، وتُصبِحُ حَيثُ أَصْبَحوا )) [2968] أخرجه البخاري (6522)، ومسلم (2861) مُطَولًا. . وذَكَرَ عُمَرُ بنُ شبَّةَ في كِتابِ الْمَدينةِ على ساكِنِها السَّلامُ، عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال:
((آخِرُ مَن يُحشَرُ رَجُلانِ؛ رَجُلٌ من جُهَينةَ وآخَرُ من مُزَينةَ، فيَقولانِ: أينَ النَّاسُ؟ فيَأتيانِ الْمَدينةَ، فلا يَريانِ إلَّا الثَّعلَبَ، فيَنزِلُ إليهما مَلَكانِ، فيَسحَبانِهما على وُجوهِهما حَتَّى يُلحِقاهما بالنَّاسِ)) [2969] أخرجه ابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (1/278). . وهذا كُلُّه ممَّا يَدُلُّ على أنَّ ذلك في الدُّنيا، كما قال القاضي عياضٌ، وأمَّا الآخِرةُ فالنَّاسُ أيضًا مُختَلِفو الحالِ على ما ذَكروه... والحَشْرُ الثَّالِثُ: حَشْرُهم إلى الْمَوقِفِ... قال اللهُ تعالى:
وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] . والرَّابِعُ: حَشْرُهم إلى الجَنَّةِ والنَّارِ، قال اللهُ تعالى:
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم: 85] أي: رُكبانًا على النُّجُبِ. وقيلَ: على الأعمالِ)
[2970] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 228-231). .
وقال النَّوَويُّ: (قال العُلَماءُ: وهذا الحَشْرُ في آخِرِ الدُّنيا قُبَيلَ القيامةِ وقُبَيلَ النَّفخِ في الصُّورِ، بدَليلِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تَحشُرُ بَقيَّتَهم النَّارُ، تَبِيت مَعَهم وتَقِيلُ، وتُصبِحُ وتُمسي)) [2971] الحديث أخرجه البخاري (6522)، ومسلم (2861) باختلافٍ يسيرٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ مسلم: ((... تحشُرُ بقيَّتَهم النارُ، تَبِيتُ معهم حيث باتوا، وتَقِيلُ معهم حيث قالوا، وتُصبِحُ معهم حيث أصبحوا، وتُمسي معهم حيث أمْسَوا)). ، وهذا آخِرُ
أشراطِ السَّاعةِ)
[2972] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/194). .
وقال
ابنُ كثيرٍ بَعدَ ذِكرِ الأحاديثِ الوارِدةِ في خُروجِ النَّارِ: (فهَذِه السِّياقاتُ تَدُلُّ على أنَّ هذا الحَشْرَ هو حَشْرُ الْمَوجودينَ في آخِرِ الدُّنيا من أقطارِ الأرضِ إلى مَحَلَّةِ الْمَحْشَرِ، وهيَ أرضُ الشَّامِ... وهذا كُلُّه ممَّا يَدُلُّ على أنَّ هذا إنَّما يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ آخِرِ الدُّنيا؛ حَيثُ يَكونُ الأكلُ والشُّربُ والرُّكوبُ مَوجودًا، والمُشتَرى وغَيرُه، وحَيثُ تُهلِكُ الْمُتَخَلِّفين مِنهم النَّارُ، ولَو كان هذا بَعدَ نَفخةِ البَعثِ لَم يَبْقَ مَوتٌ، ولا ظَهَرَ مشتَرى، ولا أكلٌ ولا شُربٌ، ولا لُبْس في العَرَصاتِ)
[2973] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (19/ 332). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه في بَقيَّةِ الحَديثِ:
((حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليُعطيَ الحَديقةَ الْمُعْجِبةَ بالشَّارِفِ)) ومِن أينَ يَكونُ للَّذينَ يُبعَثونَ بَعدَ الْمَوتِ عُراةً حُفاةً حَدائِقُ حَتَّى يَدفَعوها في الشَّوارِفِ؟! فالرَّاجِحُ ما تقَدَّمَ، وكَذا يَبعُدُ غايةَ البُعدِ أن يَحتاجَ مَن يُساقُ مِنَ الْمَوقِفِ إلى الجَنةِ إلى التَّعاقُبِ على الأبعِرَةِ، فرَجحَ أنَّ ذلك إنَّما يَكونُ قَبلَ الْمَبعَثِ، واللهُ أعلَمُ)
[2974] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 382). .
وأمَّا حَشْرُ الآخِرةِ فإنَّه قَد جاءَ في الأحاديثِ أنَّ النَّاسَ مُؤمِنَهم وكافِرَهم يُحشَرونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا بُهْمًا.
عَنِ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنهما قال: قامَ فينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((إنَّكم مَحشورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] )) [2975] أخرجه البخاري (3349) واللَّفظُ له، ومسلم (2860). .
وقال
ابنُ بازٍ: (لَها أشراطٌ تَأتي في آخِرِ الزَّمانِ، حَتَّى الآنَ لَم تَقَع، وسَوفَ تَقَعُ كما أخبَرَ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ أشراطٌ مُتَّصِلةٌ عَشَرةٌ... والعاشِرةُ: نارٌ تَخرُجُ من قَعرِ عَدَنٍ تَسُوقُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهم إلى الشَّامِ، تَبيت مَعَهم حَيثُ يَبيتونَ، تَقيلُ حَيثُ يَقيلونَ، وبَعدَ ذلك قيامُ السَّاعةِ في الوَقتِ الذي يَشاؤُه اللهُ سُبحانَه وتعالى)
[2976] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 265). .