المَطلَبُ الثَّاني: شفاعةُ الأنبياءِ الآخَرينَ
مِن إكرامِ اللهِ تعالى لأنبيائِه قَبولُ شفاعتِهم فيمَن يَشفَعونَ له مِمَّن سَبَقَت لهمُ الرَّحمةُ، فيَتَقَدَّمونَ بطَلَبِ شفاعتِهم إلى رَبِّهم في إخراجِ أقوامٍ من النَّارِ دَخلوها بذُنوبِهم ليَخرُجوا منها.
قال
ابنُ عُثَيمين في أنواعِ الشَّفاعةِ: (النَّوعُ الثَّاني: العامَّةُ، وهيَ الشَّفاعةُ فيمَن دَخلَ النَّارَ من المُؤمِنينَ أهلِ الكَبائِرِ أن يَخرُجوا منها بَعدَما احتَرَقوا وصاروا فَحمًا وحَميمًا... وهذه الشَّفاعةُ تَكونُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيرِه من الأنبياءِ والمَلائِكةِ والمُؤمِنينَ؛ لحَديثِ أبي سَعيدٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه:
((فيَقولُ اللهُ تعالى: شَفَعَتِ المَلائِكةُ، وشَفعَ النَّبيُّونَ، وشَفعَ المُؤمِنونَ، ولَم يَبقَ إلَّا أرحَمُ الرَّاحِمينَ، فيَقبِضُ قَبضةً من النَّارِ فيُخرِجُ منها قَومًا لَم يَعمَلوا خَيرًا قَطُّ قد عادوا حُمَمًا )) [3424] أخرجه مطولًا البخاري (7439) باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (183) واللَّفظُ له. من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. [3425] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 129). .
وليس مَعنى هذا أنَّ اللهَ يُخرِجُهم من النَّارِ وهم كُفَّارٌ، بَلِ المَعنى أنَّهم لَم يَعمَلوا خَيرًا سِوى الشَّهادَتينِ، ولَولاهما لما خَرَجوا.
وعن أبي بَكَرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((يَحمِلُ النَّاسُ على الصِّراطِ يَومَ القيامةِ، فتُقادِعُ بهم جَنبَتا الصِّراطِ تَقادُعَ الفَراشِ في النَّارِ، قال: فيُنجِّي اللهُ برَحمَتِه من يَشاءَ، قال: ثُمَّ يُؤذَنُ للمَلائِكةِ والنَّبِيِّينِ والشُّهداءِ أن يَشفَعوا، فيَشفَعونَ ويُخرِجونَ، ويَشفَعونَ ويُخرِجونَ، ويَشفَعونَ ويُخرِجونَ، وزادَ عَفَّانُ مَرَّةً، فقال أيضًا: ويَشفَعونَ ويُخرِجونَ مَن كان في قَلبِه ما يَزِنُ ذَرَّةً من إيمانٍ)) [3426] أخرجه أحمد (20440) واللَّفظُ له، والبزار (3671)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (929). حسن إسناده الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (837)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20440)، ووثق رواته البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/166)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/362): رجاله رجال الصحيح. .
وعن صالِحِ بن أبي طَريفٍ قال: قُلتُ لأبي سَعيدٍ الخُدْريِّ: أسمِعتَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في هذه الآيةِ:
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] فقال: نَعَم، سَمِعتُه يَقولُ:
((يُخرِجُ اللهُ أناسًا من النَّارِ بَعدَما يَأخُذُ نِقمَتَه منهم، قال: لَمَّا أدخَلَهمُ اللهُ النَّارَ مَعَ المُشرِكينَ قال المُشرِكونَ: أليسَ كُنتُم تَزعُمونَ في الدُّنيا أنَّكم أولياءُ، فما لَكم مَعنا في النَّارِ؟! فإذا سَمِعَ اللهُ ذلك منهم أَذِنَ في الشَّفاعةِ، فيَتَشَفَّعُ لهمُ المَلائِكةُ والنَّبيونُ حَتَّى يَخرُجوا بإذْنِ اللهِ، فلَمَّا أُخرِجوا قالوا: يا لَيتَنا كُنَّا مِثلَهم فتُدرِكَنا الشَّفاعةُ فنَخرُجَ من النَّارِ! فذلك قَولُ اللهِ جَلَّ وعلارُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، قال: فيُسَمَّونَ في الجَنَّةِ الجَهَنَّمِيِّينَ من أجلِ سَوَادٍ في وُجوهِهم، فيَقولونَ: رَبَّنا أذهِبْ عنَّا هذا الِاسمَ، قال: فيَأمُرُهم فيَغتَسلونَ في نَهرِ الجَنَّةِ فيَذهَبُ ذلك منهم)) [3427] أخرجه ابن حبان (7432) واللَّفظُ له، وقوام السنة في ((الحجة في بيان المحجة)) (493). صحَّحه ابن حبان، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7432). .
قال
السَّمعانيُّ في قَولِه تعالى:
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ: (اختَلَفَ القَولُ في الحالِ الذي يَتَمَنَّى الكُفَّارُ هذا -والودُّ هو التَّمَنِّي-:
فالقَولُ الأوَّلُ: أنَّه في حالِ المُعايَنةِ، وهذا قَولُ الضَّحاكِ.
والقَولُ الثَّاني: أنَّه يَومُ القيامةِ.
والقَولُ الثَّالِثُ -وهو الأشهرُ-: أنَّه حينَ يُخرِجُ اللهُ المُؤمِنينَ من النَّارِ)
[3428] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 128). .
وقال
البَغَويُّ: (اختَلَفوا في الحالِ التي يَتَمَنَّى الكافِرُ فيها الإسلامَ؛ قال الضَّحَّاك: حالة المُعايَنةِ.
وقيلَ: يَومُ القيامةِ. والمَشهورُ أنَّه حينَ يُخرِجُ اللهُ المُؤمِنينَ من النَّارِ.
ورُوِيَ عن أبي موسى الأشعَريِّ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا اجتَمَعَ أهلُ النَّارِ في النَّارِ ومَعَهم من شاءَ اللهُ من أهلِ القِبلةِ، قال الكُفَّارُ لِمَن في النَّارِ من أهلِ القِبلةِ: ألستُم مُسلِمينَ؟ قالوا: بَلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامُكم وأنتم مَعنا في النَّارِ؟! قالوا: كانت لَنا ذُنوبٌ فأُخِذْنا بها، فيَغفِرُ اللهُ لهم بفَضلِ رَحمَتِه، فيَأمُرُ بكُلِّ من كان من أهلِ القِبلةِ في النَّارِ فيَخرُجونَ منها، فحينَئِذٍ يَوَدُّ الذينَ كفروا لَو كانوا مُسلِمينَ )) [3429] أخرجه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (7/48)، والحاكم (2954)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (79) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (843)، وصحَّح إسناده الحاكم. [3430] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 49). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ حَولَ شفاعةِ الأنبياءِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ:1- قال
البَربَهاريُّ: (ما من نَبيٍّ إلَّا له شفاعةٌ، وكَذلك الصِّدِّيقونُ والشُّهداءُ والصَّالِحون)
[3431] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 46). .
2- قال أبو اليسر البَزدَويُّ: (الشَّفاعةُ لأهلِ الكَبائِرِ حَقٌّ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فيَشفَعُ الرُّسُلُ والأنبياءُ والعُلَماءُ لأهلِ الكَبائِرِ قَبلَ دُخولِ النَّارِ، فلا يُدخِلُ اللهُ تعالى أهلَ الكَبائِرِ النَّارَ لشَّفاعتِهم، بَل يُدخِلُهمُ الجَنَّةَ، وقد يَشفَعونَ بَعدَ الدُّخولِ في النَّارِ، فيُخرِجُهم من النَّارِ لشَفاعتِهم، فيُدخِلُهمُ الجَنةَ)
[3432] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 166). .
3- قال
ابنُ قُدامةَ: (لسائِرِ الأنبياءِ والمُؤمِنينَ والمَلائِكةِ شفاعاتٌ)
[3433] يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 33). .
4- قال
ابنُ تَيميَّةَ في شفاعاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أمَّا الشَّفاعةُ ا
لثَّالِثةُ: فيَشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ.
وهذه الشَّفاعةُ له ولِسائِرِ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ وغَيرِهم، فيَشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ ألَّا يَدخُلَها، ويَشفَعُ فيمَن دَخلَها أن يَخرُجَ منها)
[3434] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 101). .
5- قال ابنُ أبي العِزِّ في ذِكرِ شفاعاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (النَّوعُ الثَّامِنُ: شفاعتُه في أهلِ الكَبائِرِ من أمَّتِه مِمَّن دَخل النَّارَ، فيَخرُجونَ منها، وقد تَواتَرَت بهذا النَّوعِ الأحاديثُ... وهذه الشَّفاعةُ تُشارِكُه فيها المَلائِكةُ والنَّبيونُ والمُؤمِنونَ أيضًا)
[3435] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 290). .
6- قال السَّفارينيُّ: (الحاصِلُ أنَّه يَجِبُ أن يُعتَقَدَ أنَّ غَيرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من سائِرِ الرُّسُلِ والأنبياءِ والمَلائِكةِ والصَّحابةِ والشُّهداءِ والصِّدِّيقينَ والأولياءِ على اختِلافِ مَراتِبِهم ومَقاماتِهم عِندَ رَبهم يَشفَعونَ، وبِقَدرِ جاهِهم ووَجاهَتِهم يَشفَعونَ لثُبوتِ الأخبارِ بذلك، وتَرادُفِ الآثارِ على ذلك، وهو أمرٌ جائِزٌ غَيرُ مُستَحيلٍ، فيَجِبُ تَصديقُه والقَولُ بموجِبِه؛ لثُبوتِ الدَّليلِ)
[3436] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 209). .
7- قال
حافِظٌ الحَكَميُّ في أنواعِ الشَّفاعةِ: (ا
لثَّالِثةُ: الشَّفاعةُ في أقوامٍ قد أُمِرَ بهم إلى النَّارِ ألَّا يَدخُلوها.
الرَّابِعةُ: فيمن دَخلَها من أهلِ التَّوحيدِ أن يَخرُجوا منها، فيَخرُجونَ قَدِ امتُحِشوا وصاروا فَحمًا، فيُطرَحونَ في نَهرِ الحَياةِ فيَنبُتونَ كما تنبُتُ الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيلِ.
الخامِسةُ: الشَّفاعةُ في رَفعِ دَرَجاتِ أقوامٍ من أهلِ الجَنةِ، وهذه الثَّلاثُ ليست خاصَّةً بنَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَكِنَّه هو المُقَدَّمُ فيها، ثُمَّ بَعدَه الأنبياءُ والمَلائِكةُ والأولياءُ والأفراطُ يَشفَعونَ)
[3437] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 76). .
8- قال
ابنُ بازٍ: (هناك شفاعاتٌ له أخرى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليست مُختَصَّةً به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهناك شفاعاتٌ فيمَن دَخلَ النَّارَ من أهلِ التَّوحيدِ يَخرُجُ منها، ومن لَم يَدخُلها ألَّا يَدخُلَها من العُصاةِ... وهؤلاء الذينَ يَخرُجونَ من النَّارِ أقسامٌ:
منهم مَن يَخرُجُ بشفاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومنهم مَن يَخرُجُ بشفاعةِ غَيرِه من الأنبياءِ، ومنهم مَن يَخرُجُ بشفاعةِ المَلائِكةِ، ومنهم مَن يَخرُجُ بشفاعةِ المُؤمِنينَ والأفراطِ، ومنهم مَن يَبقى في النَّارِ حَتَّى يُخرِجَه اللهُ برَحمَتِه، من دونِ شفاعةِ أحَدٍ)
[3438] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (ص: 118). .
9-قال
ابنُ عُثَيمين: (أمَّا الشَّفاعةُ العامَّةُ التي تَكونُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولِغَيرِه من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ، فهذه تَكونُ فيمَن دَخلَ النَّارَ أن يَخرُجَ منها؛ فإنَّ عُصاةَ المُؤمِنينَ إذا دَخَلوا النَّارَ بقَدرِ ذُنوبِهم، فإنَّ الله سُبحانَه وتعالى يَأذَنُ لِمَن شاءَ من عِبادِه من النَّبِيينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ أن يَشفَعوا في هؤلاء بأن يَخرُجوا من النَّارِ)
[3439] يُنظر: ((فقه العبادات)) (ص: 463). .
10- قال
ابنُ جبرينَ في أنواعِ الشَّفاعةِ: (وأمَّا العامَّةُ فهيَ شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفاعةُ الأنبياءِ والصَّالِحينَ والمَلائِكةِ في أناسٍ دَخَلوا النَّارَ من الموَحِّدينَ أن يَخرُجوا منها، فيَخرُجونَ بَعدَ احتِراقِهم وصيرورَتِهم فحمًا وحُممًا، أي: سودًا، فيُلقَونَ في نَهرِ الحَياةِ، فيَنبُتونَ نَباتَ الحِبَّةِ في حَميلِ السَّيلِ)
[3440] يُنظر: ((التعليقات على متن لمعة الاعتقاد)) (ص: 155). .