المَبحَثُ الثَّاني: ما ورَدَ في القُرآنِ الكَريمِ بشَأنِ أصحابِ الأعرافِ
قال اللهُ تعالى:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 46 - 49] .
قال ابنُ جُزَي: (
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ أي: بينَ الجَنةِ والنَّارِ أو بينَ أصحابِهما، وهو أرجَحُ لقَولِه:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ.
الأعرافُ قال
ابنُ عَبَّاسٍ: هو تَلٌّ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، وقيلَ: سورُ الجَنةِ.
رِجالٌ هَم أصحابُ الأعرافِ ورَدَ في الحَديثِ: أنَّهم قَومٌ من بني آدَمَ استَوَت حَسَناتُهم وسيئاتُهم، فلَم يَدخُلوا الجَنةَ ولا النَّارَ
[4103] روي عن حذيفة رَضِيَ اللهُ عنه أنه قال: (أصحابُ الأعرافِ قومٌ تجاوزت بهم حسناتهم النَّارَ، وقَصُرت بهم سيئاتهم عن الجنةِ، فإذا صُرِفَت أبصارهم تلقاءَ أصحاب النَّارِ، قالوا: ربَّنا لا تجعلنا مع القومِ الظَّالمين. فبينما هم كذلك إذ اطَّلع عليهم ربُّك، قال: قوموا ادخلوا الجنَّةَ؛ فإني قد غفرتُ لكم). أخرجه الحاكم (3247)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (101). صحَّحه الحاكم على شرط الشيخين. وأخرجه هناد في ((الزهد)) (202) عن حذيفة قال: (أصحابُ الأعراف قومٌ تجاوزت بهم حسناتهم عن النَّارِ، وقَصُرَت بهم سيئاتهم عن الجنَّة). ...
يَعرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ أي: يَعرِفونَ أهلَ الجَنةِ بعَلامَتِهم من بَياضِ وُجوهِهم، ويَعرِفونَ أهلَ النَّارِ بعَلامَتِهم من سَوادِ وُجوهِهم، أو غَيرِ ذلك من العَلاماتِ.
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي: سَلامُ أصحابِ الأعرافِ على أهلِ الجَنةِ.
لَم يَدخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعونَ أي: أنَّ أصحابَ الأعرافِ لَم يَدخُلوا الجَنَّةَ، وهم يَطمَعونَ في دُخولِها من بَعْدُ.
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ الضَّميرُ لأصحابِ الأعرافِ، أي: إذا رَأوا أصحابَ النَّارِ دَعَوُا اللهَ ألَّا يَجعَلَهم مَعَهم.
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعني من الكُفَّارِ الذينَ في النَّارِ، قالوا لهم ذلك على وجه التَّوبيخِ.
جَمْعُكُمْ يُحتَمَلُ أن يَكونَ أرادَ جَمعَهم للمالِ أو كثرَتَهم.
وما كُنتُم تَستَكبِرونَ أي: استِكبارُكم على النَّارِ، أوِ استِكبارُكم على الرُّجوعِ إلى الحَقِّ، فـما هاهنا مَصدَريَّةٌ، وما في قَولِه:
ما أغنى استِفهاميَّةٌ أو نافيةٌ.
أهؤُلاءُ الذينَ أَقْسَمْتُمْ من كلامِ أصحابِ الأعرافِ خِطابًا لأهلِ النَّارِ، والإشارةُ بهؤلاء إلى أهلِ الجَنةِ، وذلك أنَّ الكُفَّارَ كانوا في الدُّنيا يُقسِمونَ أنَّ اللهَ لا يَرحَمُ المُؤمِنينَ، ولا يَعْبَأُ بهم، فظَهَرَ خِلافُ ما قالوا، وقيلَ: هيَ من كلامِ المَلائِكةِ خِطابًا لأهلِ النَّارِ، والإشارةُ بهؤلاء إلى أصحابِ الأعرافِ.
ادخُلُوا الجَنَّةَ خِطابًا لأهلِ الجَنةِ إن كان من كلامِ أصحابِ الأعرافِ، تَقديرُه: قد قيلَ لهمُ: ادخُلوا الجَنَّةَ، أو خِطابًا لأهلِ الأعرافِ إن كان من كلامِ المَلائِكةِ)
[4104] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/ 289). .
وقال
السَّعديُّ: (أي: وبينَ أصحابِ الجَنةِ وأصحابِ النَّارِ حِجابٌ يُقالُ له:
الأعرافُ لا من الجَنةِ ولا من النَّارِ، يُشرِفُ على الدَّارينِ، ويُنظَرُ مِن عليه حالُ الفَريقينِ، وعلى هذا الحِجابِ رِجالٌ يَعرِفونَ كُلًّا من أهلِ الجَنةِ والنَّارِ بسيماهم، أي: عَلاماتِهم التي بها يُعرَفونَ ويُميَّزونَ، فإذا نَظَروا إلى أهلِ الجَنةِ نادوهم
أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي: يُحَيُّونَهم ويُسَلِّمونَ عليهم، وهم -إلى الآنَ- لَم يَدخُلوا الجَنةَ، ولَكِنَّهم يَطمَعونَ في دُخولِها، ولَم يَجعَلِ اللهُ الطَّمعَ في قُلوبِهم إلَّا لِما يُريدُ بهم من كرامَتِه.
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ورَأوا مَنظَرًا شَنيعًا، وهولًا فظيعًا
قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ القَومِ الظَّالِمينَ فأهلُ الجَنةِ إذا رَآهم أهلُ الأعرافِ يَطمَعونَ أن يَكونوا مَعَهم في الجَنةِ، ويُحَيُّونَهم ويُسَلِّمونَ عليهم، وعِندَ انصِرافِ أبصارِهم بغَيرِ اختيارِهم لأهلِ النَّارِ، يَستَجيرونَ بالله من حالِهم هذا على وجه العُمومِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الخُصوصَ بَعدَ العُمومِ، فقال:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وهم من أهلِ النَّارِ، وقد كانوا في الدُّنيا لهم أُبَّهةٌ وشَرَفٌ، وأموالٌ وأولادٌ، فقال لهم أصحابُ الأعرافِ، حينَ رَأوهم مُنفَرِدينَ في العَذابِ، بلا ناصِرٍ ولا مُغيثٍ:
مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ في الدُّنيا، الذي تَستَدفِعونَ به المَكارَه، وتَتَوَسَّلونَ به إلى مَطالِبِكم في الدُّنيا، فاليَومَ اضمَحَلَّ، ولا أغنى عنكم شَيئًا، وكَذلك أيُّ شَيءٍ نَفعَكمُ استِكبارُكم على الحَقِّ وعلى من جاءَ به وعلى من اتَّبَعَه؟
ثُمَّ أشاروا لهم إلى أناسٍ من أهلِ الجَنةِ كانوا في الدُّنيا فُقَراءَ ضُعَفاءَ يَستَهزِئُ بهم أهلُ النَّارِ، فقالوا لأهلِ النَّارِ:
أَهُؤُلَاءِ الذينَ أدخَلَهمُ اللهُ الجَنَّةَ
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ برَحْمَةٍ احتِقارًا لهم وازدِراءً وإعجابًا بأنفُسِكم، قد حَنَثتُم في أيمانِكم، وبَدا لَكم من اللهِ ما لَم يَكُن لَكم في حِسابٍ،
ادْخُلُوا الجَنَّةَ بما كُنتُم تَعمَلونَ، أي: قيلَ لهؤلاء الضُّعفاءِ إكرامًا واحتِرامًا: ادخُلوا الجَنةَ بأعمالِكمُ الصَّالِحةِ
لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ فيما يُستَقبَلُ من المَكارِه
وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ على ما مَضى، بَل آمِنونَ مُطمَئِنُّونَ فَرِحون بكُلِّ خَيرٍ. وهذا كقَولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين: 29، 30] إلى أنْ قال:
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: 34، 35].
واختَلَفَ أهلُ العِلمِ والمُفَسِّرونَ من هم أصحابُ الأعرافِ وما أعمالُهم؟
والصَّحيحُ من ذلك أنَّهم قَومٌ تَساوَتْ حَسَناتُهم وسيِّئاتُهم، فلا رَجَحَت سَيِّئاتُهم فدَخَلوا النَّارَ، ولا رَجَحَت حَسَناتُهم فدَخَلوا الجَنَّةَ، فصاروا في الأعرافِ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تعالى يُدخِلُهم برِحمَتِه الجَنَّةَ؛ فإنَّ رَحمَتَه تَسبِقُ وتَغلِبُ غَضبَه ورَحمَتُه وسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ)
[4105] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 290). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13].
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ في التَّفسيرِ: أنَّهم إذا رَجَعوا إلى ذلك المَوضِعِ ولَم يَجِدوا النُّورَ عادوا ليَتَّبِعوا نُورَ المُؤمِنينَ، فيَغشاهم عَذابٌ من عَذابِ الله، ويُضرَبُ بينَهم وبينَ المُؤمِنينَ بسورٍ، وهو مَعنى قَولِه تعالى:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ وقيلَ: هو الأعرافُ الذي ذُكِرَ في سورةِ الأعرافِ)
[4106] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 370). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ قال الحَسَنُ، وقتادةُ: هو حائِطٌ بينَ الجَنةِ والنَّارِ. وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ زَيدِ بنِ أسلَمَ: هو الذي قال اللهُ تعالى:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف: 46] . وهَكَذا رُوِيَ عن مُجاهدٍ، رَحِمَه اللهُ، وغَيرِ واحِدٍ، وهو الصَّحيحُ.
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي: الجَنَّةُ وما فيها
وَظَاهِرُه مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ أي: النَّارُ. قاله قتادةُ، وابنُ زيد، وغَيرُهما)
[4107] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 17). .
وقَدِ اختَلَفَ العُلَماءُ في تَعيينِ أصحابِ الأعرافِ، فقد ذَكَرَهم اللهُ سُبحانَه وتعالى في القُرآنِ الكَريمِ، ولَم يُبَيِّن من هم بالتَّحديدِ. وأمَّا ما ورَدَ في السُّنَّةِ من ذلك فلا يُثبُتُ بسَندٍ صَحيحٍ
[4108] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 383). .
قال
ابنُ جَريرٍ: (الصَّوابُ من القَولِ في أصحابِ الأعرافِ أن يُقال -كما قال اللهُ جَلَّ ثَناؤُه فيهم:- هم رَجالٌ يَعرِفونَ كُلًّا من أهلِ الجَنةِ وأهلِ النَّارِ بسِيماهم، ولا خَبَرٌ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصِحُّ سَنَدُه، ولا آيةٌ مُتَّفَقٌ على تَأويلِها، ولا إجماعٌ من الأمَّةِ على أنَّهم مَلائِكةٌ. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ذلك لا يُدرَكُ قياسًا، وكان المُتَعارَفُ بينَ أهلِ لسانِ العَرَبِ أنَّ الرِّجالَ اسمٌ يَجمَعُ ذُكورَ بني آدَم دونَ إناثِهم، ودونَ سائِرِ الخَلقِ غَيرِهم؛ كان بَيِّنًا أنَّ ما قاله أبو مجلزٍ من أنَّهم مَلائِكةٌ قَولٌ لا مَعنى له، وأنَّ الصَّحيحَ من القَولِ في ذلك ما قاله سائِرُ أهلِ التَّأويلِ غَيرَه، هذا مَعَ مَن قال بخِلافِه من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَعَ ما رُوِيَ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك من الأخبارِ، وإن كان في أسانيدِها ما فيها)2.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قَولُه تعالى:
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف: 46] أي بينَ أهلِ الجَنةِ والنَّارِ حِجابٌ. قيلَ: هو السُّورُ الذي يُضرَبُ بينَهم له بابٌ باطِنُه فيه الرَّحمةُ وظاهرُه مِنْ قِبَلِه العَذابُ: باطِنُه الذي يَلي المُؤمِنينَ فيه الرَّحمةُ، وظاهرُه الذي يَلي الكُفَّارَ من جِهَتِه العَذابُ. والأعرافُ جَمعُ عُرْفٍ، وهو المَكانُ المُرتَفِعُ، وهو سورٌ عالٍ بينَ الجَنةِ والنَّارِ. قيلَ: هو هذا السُّورُ الذي يُضرَبُ بينَهم. وقيلَ: جِبالٌ بينَ الجَنةِ والنَّارِ عليها أهلُ الأعرافِ.
قال حُذَيفةُ و
عَبدُ اللهِ بنُ عَباسٍ: هَم قَومٌ استَوَت حَسَناتُهم وسيئاتُهم، فقَصرَت بهم سَيِّئاتُهم عن الجَنةِ، وتَجاوَزَت بهم حَسَناتُهم عن النَّارِ، فوَقَفوا هناك حَتَّى يَقضيَ اللهُ فيهم ما يَشاءُ، ثُمَّ يُدخِلُهمُ الجَنَّةَ بفَضلِ رَحمَتِه. قال
عَبدُ اللهِ بنُ المَبارَكِ: أخبَرَنا أبو بَكرٍ الهُذَلي قال: كان سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ يُحدِّثُ عن
ابنِ مَسعودٍ قال: يُحاسِبُ اللهُ النَّاسَ يَومَ القيامةِ، فمَن كانت حَسَناتُه أكثَرَ من سَيِّئاتِه بواحِدةٍ دَخلَ الجَنةَ، ومَن كانت سَيِّئاتُه أكثَرَ من حَسَناتِه بواحِدِة دَخلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأ قَولَه تعالى:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف: 8- 9] ، ثُمَّ قال: إنَّ الميزانَ يخِفُّ بمِثقالِ حَبَّةٍ أو يَرْجَحُ. قال: ومَنِ استَوَت حَسَناتُه وسيئاتُه كان من أصحابِ الأعرافِ... وقيلَ: هم قَومٌ خَرجوا في الغَزوِ بغَيرِ إذْنِ آبائِهم فقُتِلوا، فأُعتِقوا من النَّارِ لقَتْلِهم في سَبيلِ اللهِ، وحُبِسوا عن الجَنَّةِ لمَعصيةِ آبائِهم. وهذا من جِنسِ القَولِ الأوَّلِ. وقيلَ: هم قَومٌ رَضِيَ عنهم أحَدُ الأبَوينِ دونَ الآخَرِ، يُحبَسونَ على الأعرافِ حَتَّى يَقضي اللهُ بينَ النَّاسِ، ثُمَّ يُدخِلُهمُ الجَنَّةَ، وهي من جِنسِ ما قَبلَه، فلا تَناقُضَ بينَهما. وقيلَ: هم أصحابُ الفَترةِ وأطفالُ المُشرِكينَ. وقيلَ: هم أولو الفَضلِ من المُؤمِنينَ عُلوًّا على الأعرافِ، فيَطَّلِعونَ على أهلِ النَّارِ وأهلِ الجَنَّةِ جَميعًا. وقيلَ: همُ المَلائِكةُ لا من بني آدَم. والثَّابِتُ عن الصَّحابةِ هو القَولُ الأوَّلُ، وقد رُوِيَت فيه آثارٌ كثيرةٌ مَرفوعةٌ لا تَكادُ تَثبُتُ أسانيدُها. وآثارُ الصَّحابةِ في ذلك المُعتَمَدةُ)
[4109] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 382). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (اختَلَفَت عِباراتُ المُفَسِّرينَ في أصحابِ الأعرافِ مَن هُم، وكُلُّها قَريبةٌ تَرجِعُ إلى مَعنًى واحِدٍ، وهو أنَّهم قَومٌ استَوَت حَسَناتُهم وسيئاتُهم. نَصَّ عليه حُذَيفةُ، و
ابنُ عَبَّاسٍ، و
ابنُ مَسعودٍ، وغَيرُ واحِدٍ من السَّلَفِ والخَلفِ، رَحمَهمُ اللهُ)
[4110] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 418). .
وقال أيضًا بَعدَ أن أورَدَ مَجموعةَ أحاديثَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَبَيَّنَ أنَّهم قَومٌ استَوَت حَسَناتُهم مَعَ سَيِّئاتِهم: (اللهُ أعلَمُ بصِحَّةِ هذه الأخبارِ المَرفوعةِ، وقُصاراها أن تَكونَ مَوقوفةً)
[4111] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/419). .
وقال
ابنُ كثيرٍ أيضًا: (عن أبي مجلزٍ... قال: هم رِجالٌ من المَلائِكةِ... وهذا صَحيحٌ إلى أبي مجلزٍ لاحِقِ بن حُمَيدِ أحَدِ التَّابِعينَ، وهو غَريبٌ من قَولِه وخِلافُ الظَّاهرِ من السِّياقِ، وقَولُ الجُمهورِ مُقَدَّمٌ على قَولِه، بدَلالةِ الآيةِ على ما ذَهَبوا إليه.
وكَذا قَولُ مُجاهِدٍ: إنَّهم قَومٌ صالِحونَ عُلَماءُ فُقَهاءُ، فيه غَرابةٌ أيضًا. والله أعلَمُ. وقد حَكَى
القُرطُبيُّ وغَيرُه فيهم اثني عَشَرَ قَولًا؛ منها: أنَّهم شَهِدوا أنَّهم صُلَحاءُ تَفَرَّعوا من فرعِ الآخِرةِ، دَخَلوا يَطَّلِعونَ على أخبارِ النَّاسِ. وقيلَ: هَم أنبياءُ. وقيلَ: مَلائِكةٌ)
[4112] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/421). .
وقال
مُحَمَّد رَشيد رِضا: (رَجَّحَ الجُمهورُ بكَثرةِ الرِّواياتِ أنَّهم الذينَ استَوَت حَسَناتُهم وسيَّئاتُهم)
[4113] يُنظر: ((تفسير المنار)) (8/385). .
وقال أيضًا عن دُعاءِ أهلِ الأعرافِ:
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ *الأعراف: 47*: (الإنصافُ أنَّ هذا الدُّعاءَ أليقُ بحالٍ مَنِ استوَت حَسَناتُهم وسيِّئاتُهم، وكانوا مَوقوفينَ مَجهولًا مَصيرُهم)
[4114] يُنظر: ((تفسير المنار)) (8/387). .