المَطلَبُ الرَّابعُ: الَّذينَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ
عَن سَهلِ بن سَعدٍ رَضيَ اللهُ عَنهما عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ليَدخُلَنَّ الجَنَّةَ مِن أمَّتي سَبعُونَ ألفًا أو سَبعُمِائةِ ألفٍ لا يَدخُلُ أوَّلُهم حَتَّى يَدخُلَ آخِرُهم، وُجُوهُهم على صُورةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ )) [4312] أخرجه البخاري (3247). .
وفي رِوايةٍ:
((ليَدخُلَنَّ الجَنَّةَ مِن أمَّتي سَبعُونَ ألفًا أو سَبعُمِائةِ ألفٍ -شَكَّ في أحَدِهما- مُتَماسِكينَ، آخِذٌ بَعضُهم ببَعضٍ، حَتَّى يَدخُلَ أولُهم وآخِرُهمُ الجَنَّةَ، ووُجُوهُهم على ضَوءِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ )) [4313] أخرجها البخاري (6543) واللَّفظُ له، ومسلم (219). .
قال السَّفارينيُّ: (ثَبَت في عِدَّةِ أخبارٍ عَنِ النَّبيِّ المُختارِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كَرَّ اللَّيلُ على النَّهارِ أنَّ طائِفةً مِن هذه الأُمَّةِ بلا ارتيابٍ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، فيَدخُلُونَ جَناتِ النَّعيمِ قَبلَ وضعِ المَوازينِ، وأخذِ الصُّحُفِ بالشِّمالِ واليَمينِ)
[4314] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/177). .
وعَن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((وعَدَني رَبِّي أن يُدخِلَ الجَنَّةَ مِن أمَّتي سَبعينَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبعينَ ألفًا، وثَلاثَ حَثيَاتٍ مِن حَثيَاتٍ رَبِّي )) [4315] أخرجه الترمذي (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد (22303) واللَّفظُ له صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4286)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22303)، وحسَّنه الوادعي في ((الشفاعة)) (130)، وقوَّى إسناده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/460)، وجوَّده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). وأخرجه من طريقٍ آخَرَ عن أبي أمامة رضي الله عنه: أحمد (22156)، وابن حبان (7246)، والطبراني (8/181) (7665) مطولًا. صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3614)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22156)، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((الإصابة)) (3/651)، وحسَّنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). قال عياضٌ: (ثَلاث حَثيَاتٍ، ويُروى حَفَناتٍ، بفَتحِ الحاءِ والفاءِ والثَّاءِ، قيلَ: هو الغَرْفُ مِلءَ اليَدِ، وقيلَ: الحَثيَةُ باليَدِ الواحِدةِ، والحَفنةُ بهما جَميعًا)
[4316] يُنظر: ((مشارق الأنوار)) (1/ 180). .
وقال
ابنُ باز: (هذه الحَثيَاتُ لا يَعلَمُ مِقدارَها إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالى. والجامِعُ في هذا أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ استَقامَ على أمرِ اللهِ وعلى تَركِ مَحارِمِ اللهِ ووقَفَ عِندَ حُدُودِ اللهِ هو داخِلٌ في السَّبعينَ، داخِلٌ في حُكمِهم بأنَّه يَدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ)
[4317] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 70). .
وعَن أبي هريرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حَديثِ الشَّفاعةِ: ثُمَّ يُقالُ:
((يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأسَك، سَلْ تُعطَه، اشفَعْ تُشَفَّعْ، فأرفَعُ رَأسي فأقولُ: يا رَبِّ أُمَّتي أُمَّتي، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، أدخَلِ الجَنَّةَ من أمَّتِك من لا حِسابَ عليه من البابِ الأيمَنِ من أبوابِ الجَنَّةِ، وهم شُركاءُ النَّاسِ فيما سِوى ذلك من الأبوابِ)) [4318] أخرجه مطولًا البخاري (4712)، ومسلم (194) واللَّفظُ له. .
قال أبُو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((أدخِلِ الجَنةَ مِن أمَّتِكَ مَن لا حِسابَ عليه)) يَعني به -واللهُ أعلَمُ-: السَّبعينَ ألفًا الَّذينَ لا يَستَرْقُونَ ولا يَتَطيَّرُونَ وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ، ومِنَ الباب الأيمَنِ هو الَّذي عَن يَمينِ القاصِدِ إلى الجَنَّةِ بَعدَ جَوازِ الصِّراطِ -واللهُ أعلَمُ- وكَأنَّه أفضَلُ الأبوابِ)
[4319] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 438). .
وقَد وصَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّبعينَ ألفًا الأوائِلَ وبيَّنَ صِفاتِهم الَّتي نالُوا بها هذا الفَضلَ العَظيمَ.عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عُرِضَتْ عليَّ الأمَمُ، فأخذُ النَّبيُّ يَمُرُّ مَعَه الأمَّةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه النَّفَرُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه العشَرةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه الخَمسةُ، والنَّبيُّ يَمُرُّ وحدَه، فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ كَثيرٌ، قُلتُ: يا جِبريلُ، هَؤُلاءِ أمَّتي؟ قال: لا، ولَكِنِ انظُر إلى الأفُقِ، فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ كَثيرٌ. قال: هَؤُلاءِ أمتُكَ، وهَؤُلاءِ سَبعُونَ ألفًا قُدَّامَهم لا حِسابَ عليهم ولا عَذابَ، قُلتُ: ولمَ؟ قال: كانُوا لا يَكتَوُونَ، ولا يَستَرْقُونَ، ولا يَتَطيَّرُونَ، وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ ))، فقامَ إليه عُكَّاشةُ بنُ مِحصنٍ، فقال: ادعُ اللهَ أن يَجعَلَني مِنهم. قال:
((اللَّهمَّ اجعَلْه مِنهم)). ثُمَّ قامَ إليه رَجُلٌ آخَرُ فقال: ادْعُ اللهَ أن يَجعَلَني مِنهم. قال:
((سَبَقَكَ بها عُكَّاشةُ)) [4320] أخرجه البخاري (6541). .
قال ابنُ قاسِم: («همُ الَّذينَ لا يَستَرْقُونَ» أي: لا يَطلُبُونَ مَن يَرقيهم؛ استِسلامًا لِلقَضاءِ وتَلذُّذًا بالبلاءِ، وهَكَذا ثَبَتَ في الصَّحيحينِ... وقَد سُئِلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الرُّقى فقال:
((مَنِ استَطاعَ مِنكم أن يَنفَعَ أخاه فليَفعَلْ )) [4321] أخرجه مسلم (2199) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. ، وقال:
((لا بَأسَ بالرُّقى إذا لَم تَكُن شِرْكًا )) [4322] أخرجه مسلم (2200) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عوفِ بن مالك الأشجعي رَضِيَ اللهُ عنه. . وقد رقى
جِبريلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[4323] لفظ الحديث: عن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عنه (أن جبريلَ أتى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا محمدُ اشتكيتَ؟ فقال: نعم. قال: باسم الله أرقيك من كلِّ شيءٍ يؤذيك، من شَرِّ كلِّ نفسٍ أو عينِ حاسدٍ اللهُ يشفيك، باسمِ الله أرقيك). أخرجه مسلم (2186). ، ورَقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه
[4324] لفظ الحديث: عن عبد العزيز قال: دخلتُ أنا وثابتٌ على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة، اشتكيتَ. فقال أنس: ألا أرقيك برقيةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: بلى. قال: ((اللهمَّ ربَّ النَّاسِ مُذهِبَ الباسِ، اشْفِ أنت الشافي، لا شافيَ إلا أنت، شفاءً لا يغادِرُ سقَمًا)). أخرجه البخاري (5742). ، والفَرقُ بينَ الرَّاقي والمُستَرقي: أنَّ المُستَرِقيَ سائِلٌ مُستَعْطٍ مُلتَفِتٌ إلى غيرِ اللهِ بقَلْبِه، والرَّاقي مُحسِنٌ، وإنَّما المُرادُ وصفُ السَّبعينَ ألفًا بتَمامِ التَّوكُّلِ، فلا يَسألُونَ غيرَهم أن يَرْقِيَهم.
((ولا يَكتَوُونُ)) أي: لا يَسألُونَ غيرَهم أن يَكْويَهم، كَما لا يَسألُونَ غيرَهم أن يَرْقيَهم، وقَولُه:
((ولا يَكتَوُونَ)) أعَمُّ مِن أن يَسألُوا ذَلِكَ أو يُفعَلَ بهم باختيارِهم، والكَيُّ في نَفسِه جائِزٌ، كَما في الصَّحيحِ عَن
جابرٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعثَ إلى أبيِّ بنِ كَعبٍ طَبيبًا فقَطَعَ لَه عِرْقًا وكَواه
[4325] أخرجه مسلم (2207) باختلاف يسير. . وكَوى
أنسٌ مِن ذاتِ الجَنبِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ. أخرجه
البُخاريُّ [4326] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم (5721)، وأخرجه موصولًا البيهقي (20037) بلفظ: (كُوِيتُ من ذاتِ الجنبِ ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ). "وكوي أنس" أخرجه البخاري (5719) بلفظ: ((عن أنس أن أبا طلحةَ وأنسَ بنَ النَّضرِ كوياه، وكواه أبو طلحةَ بيده)). . وفي الصَّحيحِ عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ مَرفُوعًا:
((الشِّفاءُ في ثَلاثٍ: شَرْبةُ عَسَلٍ، وشَرْطةُ مِحْجَمٍ، وكيَّةُ نارٍ، وأنهى أمَّتي عَنِ الكيِّ)) [4327] أخرجه البخاري (5680). . وفي لَفظٍ:
((وما أُحِبُّ أن أكتَويَ))...
[4328] أخرجه البخاري (5683)، ومسلم (2205) مطولًا من حديث جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. .
((ولا يَتَطيَّرُونَ)) أي: لا يَتَشاءَمُونَ بالطَّيرِ ونَحوِها...
((وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ)) فتَرَكُوا الشِّرْكَ رَأسًا ولَم يُنزِلُوا حَوائِجَهم بأحَدٍ فيَسألُونَه الرُّقيَةَ فما فوقَها، وتَرَكُوا الكيَّ وإن كانَ يُرادُ لِلشِّفاءِ، والحامِلُ لَهم على ذَلِكَ قُوةُ تَوكُّلِهم على اللهِ، وتَفويضُ أُمُورِهم إليه، وثِقتُهم به، ورِضاهمُ عَنه، وصِدْقُ الِالتِجاءِ إليه، وإنزالُ حَوائِجِهم به سُبحانَه وتعالى، والِاعتِمادُ بالقَلبِ الَّذي هو نِهايةُ تَحقيقِ التَّوحيدِ، وهو الأصلُ الجامِعُ الَّذي تَفَرَّعَت عَنه تِلكَ الأفعالُ والخِصالُ، وعَطفُه على تِلكَ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدةٍ مِنها صِفةٌ خاصَّةٌ مِنَ التَّوكُّلِ، وهو أعَمُّ مِن ذَلِكَ، والحَديثُ لا يَدُلُّ على أنَّهم لا يُباشِرُونَ الأسبابَ أصلًا، فإنَّ مُباشَرةَ الأسبابِ في الجُملةِ أمرٌ فِطريٌّ ضَرُوريٌّ، بَل نَفسُ التَّوكُّلِ مُباشَرةٌ لِأعظَمِ الأسبابِ، وإنَّما المُرادُ أنَّهم يَتركُونَ الأُمُورَ المَكرُوهةَ مَعَ حاجَتِهم إليها تَوكُّلًا على اللهِ؛ كالِاكتِواءِ والِاستِرقاءِ، وأمَّا مُباشَرةُ الأسبابِ والتَّداوي على وجهٍ لا كَراهةَ فيه، فغيرُ قادِحٍ في التَّوكُّلِ، فلا يَكُونُ تَركُه مَشرُوعًا؛ لِما في الصَّحيحينِ:
((ما أنزَلَ اللهُ مِن داءٍ إلَّا أنزَلَ لَه شِفَاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه)) [4329] أخرجه البخاري (5678) مختصرًا من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شِفاءً)). أما لفظ الحديث: ((ما أنزل اللهُ من داءٍ إلا أنزل له شفاءً، عَلِمَه من عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه)). أخرجه ابن ماجه (3438) مختصرًا، وأحمد (3922) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((الطب النبوي)) (5) واللَّفظُ له من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6062)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/285)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (1/387)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3438)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3922). . وأَخرَجَ
أحمَدُ:
((يا عِبَادَ اللهِ تَداوَوْا؛ فإنَّ اللهَ لَم يَضَعْ داءً إلَّا وضَعَ لَه شِفاءً )) [4330] أخرجه مطولًا أبو داود (3855)، والترمذي (2038) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3436) من حديث أسامة بن شريك رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6064)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/281). [4331] يُنظر: ((حاشية كتاب التوحيد)) (ص: 45). .
وقال
ابنُ باز: (المَقصُودُ مِن هذا: أنَّ المُؤمِنَ الَّذي استَقامَ على أمرِ اللهِ وتَركَ مَحارِمَ اللهِ، ومات على الِاستِقامةِ؛ فإنَّه يَدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، ومِنهم هَؤُلاءِ الَّذينَ أخبَرَ عَنهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((لا يَستَرْقُونَ)) يَعني: لا يَطلُبُونَ مِنَ النَّاسِ أن يَرقُوهم، يَعني: لا يَطلُبُونَ الرُّقيَةَ، أمَّا كَونُهم يَرقُونَ غيرَهم فلا بَأسَ؛ ... فالِاستِرقاءُ عِندَ الحاجةِ لا بَأسَ به، لَكِن تَركُه أفضَلُ إذا تيَسَّرَ عِلاجٌ آخَرُ، وهَكَذا الكيُّ تَركُه أفضَلُ إذا تيَسَّرَ عِلاجٌ آخَرُ؛ لِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الشِّفاءُ في ثَلاثٍ: كيَّةُ نارٍ، أو شَرْبةُ عَسَلٍ، أو شَرطةُ مِحْجَمٍ، وما أُحِبُّ أن أَكتَويَ )) [4332] أخرجه البخاري (5702)، ومسلم (2205) من حديث جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظ البخاري: ((إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ ففي شَربةِ عَسَل، أو شرطةِ مِحْجَم، أو لذعةٍ مِن نارٍ، وما أحِبُّ أن أكتوي)). . وفي اللَّفظِ الآخَرِ قال:
((وأنا أنهى أمَّتي عَنِ الكيِّ)) [4333] أخرجه البخاري (5680) عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما بلفظ: ((الشفاءُ في ثلاثةٍ: شَربةِ عَسَلٍ، وشَرطةِ مِحجَمٍ، وكيَّةِ نار، وأنهى أمتي عن الكَيِّ)). ؛ فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ الكَيَّ يَنبَغي أن يَكُونَ هو آخِرَ الطِّبِّ عِندَ الحاجةِ إليه، فإذا تيَسَّرَ أن يُكتَفى بغيرِه مِنَ الأدويةِ فهو أَولى، وقَد ثَبَتَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كَوى بَعضَ أصحابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإذا دَعَتِ الحاجةُ إلى الكيِّ فلا كَراهةَ، وإنِ استَغنى عَنه بدَواءٍ آخَرَ مِثلِ شَرْبةِ عَسَلٍ أو شَرطةِ مِحجَمٍ، يَعني الحِجامةَ أو قِراءةً أو دَواءً آخَرَ، كانَ أفضَلَ مِن الكيِّ، فالمَقصُودُ أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يَستَرْقُونَ ولا يَكتَوُونَ)) لا يَدُلُّ على التَّحريمِ، وإنَّما يَدُلُّ على أنَّ هذا هو الأفضَلُ، عَدَمُ الِاستِرقاءِ يَعني عَدَمَ طَلَب الرُّقيَةِ، وعَدَمَ الكيِّ، هذا هو الأفضَلُ، ومَتى دَعَتِ الحاجةُ إلى الِاستِرقاءِ أوِ الكيِّ، فلا حَرجَ ولا كَراهةَ في ذَلِكَ.
((ولا يَتَطيَّرُونَ)): التَّطيُّرُ هو التَّشاؤُمُ بالمَرئيَّاتِ أوِ المَسمُوعاتِ، والتَّطيُّرُ الشِّرْكيُّ مِن عَمَلِ الجاهليَّةِ، فهَؤُلاءِ السَّبعُونَ يَتركونَ ما حَرَّمَ اللهُ عليهم مِنَ الطِّيَرةِ وما كَرِهَ لَهم مِنَ الِاستِرقاءِ والكيِّ عِندَ عَدَمِ الحاجةِ إليه، وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ، يَتركونَ ذَلِكَ ثِقةً بالله واعتِمادًا عليه وطَلَبًا لِمَرَضاتِه، والمَعن:ى أنَّهمُ استَقامُوا على طاعةِ الله، وتَركُوا ما حَرمَ اللَّهُ، وتَرَكُوا بَعضَ ما أباحَ اللَّهُ، إذا كانَ غيرُه أفضَلَ مِنه، كالِاستِرقاءِ والكيِّ يَرجُونَ ثَوابَ اللهِ ويَخافُونَ عِقابَه، ويَتَقَرَّبُونَ إليه بما هو أحَبُّ إليه سُبحانَه وتعالى عَن تَوكُّلٍ وعَن ثِقةٍ به، واعتِمادٍ عليه سُبحانَه وتعالى.
وجاءَ في الرِّوايةِ الأُخرى:
((أنَّ الله زادَه مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبعينَ ألفًا)) [4334] أخرجه أحمد (22418)، وابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (455)، والطبراني (2/92) (1413) مطولًا من حديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن كثير في ((التفسير)) (2/79)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5366)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22418). . وفي بَعضِ الرِّواياتِ الأُخرى:
(((وثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِن حَثيَاتِ رَبِّي عَزَّ وجَلَّ)) [4335] أخرجه الترمذي (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد (22303) واللَّفظُ له من حديث أبي أمامة الباهلي رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4286)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22303)، وحسَّنه الوادعي في ((الشفاعة)) (130)، وقوى إسناده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/460)، وجوَّده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). وأخرجه من طريق آخر أحمد (22156)، وابن حبان (7246)، والطبراني (8/181) (7665) مطولًا. صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3614)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22156)، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((الإصابة)) (3/651)، وحسَّنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82)، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/311): رواته محتج بهم في الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/365): رجاله رجال الصحيح. ، وهذه الحَثَيَاتُ لا يَعلَمُ مِقدارَها إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالى، والجامِعُ في هذا أنَّ كُلَّ مُؤمِن استقامَ على أمرِ اللهِ وعلى تَركِ مَحارِمِ اللهِ، ووقَفَ عِندَ حُدُودِ اللهِ، هو داخِلٌ في السَّبعينَ، داخِلٌ في حُكمِهم بأنَّه يَدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ)
[4336] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 68-70). .
وقال
ابنُ عُثيمين: (
((همُ الَّذينَ لا يَستَرْقُونَ)) أي: لا يَطلُبُونَ مِن أحَدٍ أن يَقرَأ عليهم إذا أصابَهم شيءٌ؛ لأنهم مُعتَمِدُونَ على اللهِ، ولِأنَّ الطَّلَبَ فيه شيءٌ مِنَ الذُّلِّ؛ لِأنَّه سُؤالُ الغيرِ، فرُبَّما تُحرِجُه ولا يُريدُ أن يَقرَأَ، ورُبَّما إذا قَرَأ عَليكَ لا يَبرَأُ المَرَضُ، فتَتَّهِمُه، وما أشبَهَ ذَلِكَ... قَولُه:
((ولا يَكتَوُونَ)) يَعني: لا يَطلُبُونَ مِن أحَدٍ أن يَكويَهم إذا مَرِضُوا؛ لأنَّ الكيَّ عَذابٌ بالنَّارِ، لا يَلجأ إليه إلَّا عِندَ الحاجةِ. وقَولُه:
((ولا يَتَطيَّرُونَ)) يَعني: لا يَتَشاءَمُونَ لا بمَرئيٍّ ولا بمَسمُوعٍ، ولا بمَشمُومٍ ولا بمَذُوقٍ، يَعني: لا يَتَطيَّرُونَ أبَدًا. وقَد كانَ العَرَبُ في الجاهليَّةِ يَتَطيَّرُونَ، فإذا طارَ الطَّيرُ وذَهَبَ نَحو اليَسارِ تَشَءُمُوا، وإذا رَجَعَ تَشاءَمُوا، وإذا تقَدَّم نَحو الإمامِ صارَ لَهم نَظَرٌ آخَرُ، وكَذَلِكَ نَحوَ اليَمينِ وهَكَذا. والطِّيَرةُ مُحَرَّمةٌ، لا يَجُوزُ لأحَدٍ أن يَتَطيَّرَ لا بطُيُورٍ، ولا بأيَّامٍ، ولا بشُهورٍ، ولا بغَيرِها... قَولُه:
((وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ)) فمَعناه: أنهم يَعتَمِدُونَ على اللهِ وحدَه في كُلِّ شيءٍ، لا يَعتَمِدُونَ على غيرِه؛ لِأنَّه جَلَّ وعلا قال في كِتابِه:
وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] ، ومَن كانَ اللهُ حَسْبَه فقَد كُفِيَ كُلَّ شيءٍ. هذا الحَديثُ العَظيمُ فيه صِفاتُ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ بلا حِسابٍ ولا عَذابٍ. فهذه أربَعُ صِفاتٍ: لا يَستَرْقُونَ، ولا يَكتَوُونَ، ولا يَتَطيَّرُونَ، وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ)
[4337] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 550). .