المَطلَبُ التَّاسِعُ: دُخُولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةَ ورُؤيَتُه أناسًا مِن أهلِها، ورُؤيَتُه أناسًا مِن أهلِ النَّارِ في الدُّنيا
ثَبَتَ في عَدَدٍ مِنَ الأحاديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخلَ الجَنَّةَ ورَأى أناسًا في الجَنَّةِ وآخَرينَ في النَّارِ، وهذه الرُّؤيا لَهم قيلَ: إنَّها رُؤيةُ يَقَظةٍ حَقيقيَّةٌ نُؤمِنُ بوُقُوعِها وإنْ جَهِلْنا كيفيَّةَ حُدُوثِها، وقيلَ: إنَّها رُؤيةٌ مَناميَّةٌ.
ومن هذه الأحاديثِ:1- عَن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عَنهما عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اطلَّعْتُ في الجَنَّةِ فرَأيتُ أكثَرَ أهلِها الفُقَراءَ، واطَّلَعْتُ في النَّارِ فرَأيتُ أكثَرَ أهلِها النِّساءَ )) [4405] أخرجه البخاري (3241) واللَّفظُ له، ومسلم (2738) بمعناه مختصرًا. .
2- وعَن
جابرٍ رَضيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَأيتُني دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فإذا أنا بالرُّمَيصاءِ، امرَأةِ أبي طَلحةَ، وسَمِعْتُ خَشفةً، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بِلالٌ، ورَأيتُ قَصرًا بفِنائِه جاريَةٌ، فقُلتُ: لِمَن هذا؟ فقال: لِعُمَرَ، فأرَدتُ أن أدخُلَه فأنظُرَ إليه، فذَكَرْتُ غيرَتَكَ))، فقال عُمرُ: بأبي وأُمِّي يا رَسولَ اللهِ، أعليكَ أغارُ؟!))
[4406] أخرجه البخاري (3679) واللَّفظُ له، ومسلم (2394). .
3- وعَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لِبلالٍ عِندَ صَلاةِ الفَجْرِ:
((يا بلالُ حَدِّثْني بأرجى عَمَلٍ عَمِلْتُه في الإسلامِ، فإنِّي سَمِعتُ دَفَّ نَعليكَ بينَ يَديَّ في الجَنَّةِ. قال: ما عَمِلْتُ عَمَلًا أرجى عِندي أنِّي لَم أتَطَهَّرْ طُهورًا في ساعةِ ليلٍ أو نَهارٍ، إلَّا صَلَّيتُ بذَلِكَ الطُّهورِ ما كُتِبَ لي أنَّ أصلِّيَ )) [4407] أخرجه البخاري (1149) واللَّفظُ له، ومسلم (2458). .
4- وعَن
جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... وعُرِضَتْ عليَّ النَّارُ، فرَأيتُ فيها امرَأةً مِن بني إسرائيلَ تُعذَّبُ في هِرَّةٍ لَها رَبَطَتْها فلَم تُطعِمْها، ولَم تَدَعْها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ.. )) [4408] أخرجه مسلم (904) مطولًا. ورُوي بلفظ: (.. ودنت مني النارُ حتى قلتُ: أي ربِّ، وأنا معهم؟ فإذا امرأةٌ -حسبتُ أنه قال- تخدشُها هِرَّةٌ، قُلتُ: ما شأنُ هذه؟ قالوا: حبَسَتْها حتى ماتت جوعًا، لا أطعمَتْها، ولا أرسلَتْها تأكلُ - قال نافع: حسبتُ أنه قال: من خشيشِ -أو خَشاش- الأرضِ). أخرجه البخاري (745) مطولًا من حديث أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللهُ عنهما. .
5- عَن أبي هريرةَ رَضيَ اللهُ عَنه، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَأيتُ عَمْرَو بنَ عامِرٍ الخُزاعيَّ يَجُرُّ قُصْبَه في النَّارِ.. )) [4409] أخرجه مطولًا البخاري (3521)، ومسلم (2856) واللَّفظُ له .
ومِمَّن ذَهَبَ إلى أنَّها رُؤيا حَقيقة: الصَّنعانيُّ، وابنُ عُثيمين. قال
الصَّنعانيُّ عِندَ شَرحِه لِحَديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عَنه: (إن قُلتَ: مَتى وقَعَ هذا الِاطِّلاعُ والرُّؤيةُ ولَمَّا يَدخُلْها أهلُها بَعدُ؟ قُلتُ: الظَّاهرُ أنَّها رُؤيةٌ حَقيقيَّةٌ أطلَعه اللهُ على الدَّارينِ، وعلى مَن يَتَنَعَّمُ أو يُعذَّبُ فيهما مِنَ الهالِكينَ واللَّاحِقينَ، ويُحتَمَلُ أنَّه أريَ الهالِكينَ مِن أهلِ الدَّارينِ فقَط، وأنَّ لَفظَ أهلِها مِنَ العامِّ والمُرادُ به الخاصُّ، ويَجري مِثلُه في قَولِه:
((واطَّلَعتُ في النَّارِ فرَأيتُ أكثَرَ أهلِها النِّساءَ))، وهذا غيرُ مُستَنكَرٍ، فقَد طَفَحتْ به الآثارُ، وثَبتَت به مِنَ الأخبارِ ما ليسَ لَه انحِصارٌ، وكَم ورَدَ مِن حَديثِ رُؤيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنةَ ودُخُولِه إليها، وسَمْعِ حِسِّ بلالٍ وقَد سَبَقَه إليها
[4410] روي بلفظ: ((أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال)). أخرجه البخاري (3679) بلفظ: "حشفة"، ومسلم (2457) واللَّفظُ له من حديث جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. ، ورأى قصورَ جماعةٍ من أصحابه
[4411] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ قال: ((بينا أنا نائمٌ رأيتني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعُمَرَ بنِ الخطَّابِ..)). أخرجه البخاري (3242) واللَّفظُ له، ومسلم (2395). ، وأخبَرَ عَنِ النَّارِ وأنَّه رَآها، ورَأى امرَأةً تُعذَّبُ في هِرَّةٍ ورَأى عُمرَو بنَ لُحيٍّ يَجرُّ قُصبَه في النَّارِ
[4412] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رأيتُ عَمْرَو بنَ عامرٍ الخُزاعيَّ يجرُّ قُصْبَه في النَّارِ..)). أخرجه مطولًا البخاري (3521)، ومسلم (2856) واللَّفظُ له ، ورَأى الجَنةَ والنَّارَ وهو في بَعضِ الصَّلَواتِ، وهمَّ بأخذِ قِطفٍ مِنَ الجَنَّةِ، وتَأخَّرَ لَمَّا رَأى النَّارَ
[4413] لفظ الحديث: ((..رأيتُ في مقامي هذا كلَّ شيءٍ وُعِدْتُه، حتى لقد رأيتُ أريدُ أن آخُذَ قِطفًا من الجنَّةِ حين رأيتموني جعلتُ أتقدَّم، ولقد رأيتُ جهنَّم يحطِمُ بعضُها بعضًا حين رأيتموني تأخَّرتُ..)). أخرجه مطولًا البخاري (1212) واللَّفظُ له، ومسلم (901) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، وهذه رُؤيا حَقيقيَّةٌ، وإخبارٌ عَن مَحسُوساتٍ، ولا مانِعَ مِنها، وقَد كانَ المَلَكُ يُخاطِبُه ويُلقِّنُه الوحيَ بحَضرةِ أصحابه ولا يَرَونَه ولا يَسمَعُونَه، وأخبرهم أنَّه شيَّع سَعدَ بنَ مُعاذٍ كَذا وكَذا مِنَ المَلائِكةِ
[4414] لفظ الحديث: عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((هذا الذي تحرَّك له العرش، وفُتِحَت له أبوابُ السَّماءِ، وشَهِدَه سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً، ثم فُرج عنه)). أخرجه النسائي (2055) واللَّفظُ له، والطبراني (6/10) (5333)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (4/28). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2055)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (781)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الخلاصة)) (2/1042)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (1/295)، وجوَّده ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (4/130). ، وهذا النَّوعُ كَثيرٌ جِدًّا، وقَد آمنَ به السَّلَفُ، ولَم يَسألُوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن كيفيَّتِه، فنَحنُ نُؤمِنُ به كَذَلِكَ، ونَعلَمُ صِدْقَه وإنْ جَهِلْنا الكيفيَّةَ. وقَد ذَهَبَ البَعضُ إلى أنَّها رُؤيةٌ تَمثيليَّةٌ، وأنَّه مُثِّلَ لَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةُ والنَّارُ ومَن فيهما فشاهدَهما على نَحوِ مُشاهَدةِ النُّجُومِ والنِّيران في الماءِ، أو على أنَّ المُرادَ أنَّه أخبَرَه اللهُ تعالى مِن ذَلِكَ خَبرًا صارَ عِندَه مُخبَرُه كالمُشاهِدِ، والأولُ هو الَّذي يَنشَرِحُ لَه الصَّدرُ)
[4415] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (2/ 439). .
وقال
ابنُ عُثيمين عِندَ إجابَتِه على سُؤالٍ: كيفَ رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحوالَ أهلِ الجَنةِ وأحوالَ أهلِ النَّارِ ليلةَ
الإسراءِ والمِعراجِ مَعَ أنَّ السَّاعةَ لَم تَقُم بَعدُ؟: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَنا بذَلِكَ، وأنَّه رَأى الجَنَّةَ والنَّارَ، ورَأى أقوامًا يُعذَّبُونَ وأقوامًا يُنعَّمُونَ، واللهُ أعلَمُ بكيفيَّةِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ أُمُورَ الغيبِ لا يُدرِكُها الحِسُّ، فمِثلُ هذه الأُمُورِ إذا جاءَت يَجِبُ عَلينا أن نُؤمِنُ بها كَما جاءَت، وأنَّ لا نَتَعَرَّضُ لِطَلَب الكيفيَّةِ. ولِم!؟ لِأنَّ عُقُولَنا أقصَرُ وأدنى مِن أن تُدرِكَ هذا الأمرَ؛ فقَد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن أُمُورٍ لا يُمكِنُ إدراكُها بالعَقلِ، أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَنزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يَبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ كُلَّ ليلةٍ، ومَعلُومٌ الآنَ أنَّ ثُلُثَ اللَّيلِ يَدُورُ على الكُرةِ الأرضيَّةِ، فإذا انتَقَلَ مِن جِهةٍ حَلَّ في جِهةٍ أُخرى؛ فقَد تَقُولُ: كيفَ ذَلِكَ؟ فنَقُولُ عَليكَ أن تُؤمِنَ بما أخبركَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تَقُلْ: كيفَ؟ لِأنَّ عَقلَكَ أدنى وأقصَرُ مِن أن يُحيطَ بمِثلِ هذه الأُمُورِ الغيبيَّةِ، فعَلينا أن نَستَسلِمَ ولا نَقُولَ: كيفَ؟ ولم؟ ولِهذا قال بَعضُ العُلَماءِ كَلِمةً نافِعةً، قال: قُل: بمَ أمرَ اللهُ؟ ولا تَقُلْ: لم أمرَ اللهُ؟، واللهُ وليُّ التَّوفيقِ)
[4416] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 53). .
وقال أيضًا: (الأُمُورُ الغيبيَّةُ لا يَنبَغي أن نَبحَثَ فيها عَن كيفيَّتِها وأن نَتَعَمَّقَ؛ لِأنَّ هذا مِنَ التَّنَطُّعِ، وقَد قال النَّبيُّ صَلى الله عليه وعلى آلِه وسَلَّم:
((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ! هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ! هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ! )) [4417] أخرجه مسلم (2670). ، وقال
الإمامُ مالِكٌ لِمَن سَألَه: كيفَ استَوى اللهُ على العَرْشِ؟ قال لَه: «الِاستِواءُ مَعلُومٌ، والكيفُ مَجهولٌ» هذه الأُمُورُ يَجِبُ أن نُؤمِنُ بها، وألَّا نَبحَثَ عَنها، ولِهذا ألقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحَديثَ على أصحابِه، ولَم يَنبِسْ واحِدٌ مِنهم بكَلِمةٍ، يَقُولُ: كيفَ ذَلِكَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ حَتَّى أنَّه أخبَرَ أنَّه سَمِعَ خَشَخشةَ نِعالِ بلالٍ، ومَعَ ذَلِكَ ما قالُوا: كيفَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ بلالٌ في الدُّنيا ما ذَهَبَ إلى الآخِرةِ ولا جاءَ! لَكِنَّهم آمَنُوا وصَدَّقُوا. فنَصيحَتي لَكم جَميعًا: أنَّ مِثلَ هذه الأُمُورِ تُؤمِنُونَ بها على ظاهرِها وتَقُولُونَ: هي حَقٌّ، وأمَّا كيفَ ذَلِكَ؟ وهَل أهلُ الجَنةِ الآنَ مَوجُودُونَ فيها، وأهلُ النَّارِ مَوجُودُونَ فيها؟ فقَد رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ الجَنَّةِ مَن رَأى، ورَأى مِن أهلِ النَّارِ مَن رَأى، رَأى عَمرَو بنَ لُحَيٍّ يَجرُّ قُصبَه، أي: أمعاءَه في النَّارِ، ورَأى امرَأةً تُعذَّبُ في هِرَّةٍ حَبسَتْها، ورَأى فيها صاحِبَ المِحْجَنِ الَّذي يَسرِقُ الحُجَّاجَ بمِحْجَنِه، فالحاصِلُ أنِّي أنصَحُ لَكم: ألَّا تَتَعَرَّضُوا لِمِثلِ هذه الأسئِلةِ. أمَّا مَوقِفي أنا فيها فهو مَوقِفُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عَنهم، أن أقُولَ: آمَنتُ باللهِ وبرسُولِ الله، وبما جاءَ عَنِ اللهِ ورَسولِه، ولا أتَجاوزُ ذَلِكَ، وأقُولُ: إنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في المِعراجِ أخبَرَنا عَمَّا رَأى، وهو حَقٌّ. وأقُولُ: إنَّا إذا لَزَمنا هذه الطَّريقَ استَرَحنا، وأيُّ واحِدٍ يَسألُنا نُبيِّنُ لَه أنَّ هذا لا طَريقَ لِلعِلمِ به، وأنَّ مَوقِفَنا مِنه هو التَّفويضُ، أي: تَفويضُ الكيفيَّةِ إلى الله عَزَّ وجَلَّ، أمَّا المَعنى فنَحنُ نَعرِفُ المَعنى)
[4418] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 87). .
وأمَّا دُخُولُ الجَنَّةِ في الدُّنيا حَقيقةً فقَد قال عَنه
ابنُ القيِّمِ في رَدِّه على مَن يَقُولُ بأنَّ جَنةَ آدَمَ لَم تَكُنْ هي جَنَّةَ الخُلدِ: (أمَّا قَولُكم: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرَ أنَّ جَنَّةَ الخُلدِ إنَّما يَقَعُ الدُّخُولُ إليها يَومَ القيامةِ، ولَم يَأتِ زَمَنُ دُخُولِها بَعدُ؛ فهذا حَقٌّ في الدُّخُولِ المُطلَقِ الَّذي هو دُخُولُ استِقرارٍ ودَوامٍ، وأمَّا الدُّخُولُ العارِضُ فيَقَعُ قَبلَ يَومِ القيامةِ، وقَد دَخلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةَ ليلةَ الإسراءِ، وأرواحُ المُؤمِنينَ والشُّهداءِ في البَرزَخِ في الجَنَّةِ، وهذا غيرُ الدُّخُولِ الَّذي أخبَرَ اللهُ به يَومَ القيامةِ؛ فدُخُولُ الخُلُودِ إنَّما يَكُونُ يَومَ القيامةِ؛ فمِن أينَ لَكم أنَّ مُطلَقَ الدُّخُولِ لا يَكُونُ في الدُّنيا؟)
[4419] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 42). .
وذَهَبَ عَدَدٌ مِن أهلِ العِلمِ إلى أنَّ دُخُولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةَ ورُؤيَتَه لِأناسٍ مِن أهلِها أو أناسٍ مِن أهلِ النَّارِ كانَت رُؤى مَناميَّةًقال
التِّرمذيُّ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَأيتُ في الجَنَّةِ قَصرًا مِن ذَهَبٍ، فقُلتُ: لِمِن هذا؟ فقيلَ: لِعُمرَ بنِ الخَطَّابِ)): (مَعنى هذا الحَديثِ: أنِّي دَخَلتُ البارِحةَ الجَنَّةَ يَعني: رَأيتُ في المَنامِ كَأنِّي دَخَلتُ الجَنَّةَ، هَكَذا رُويَ في بَعضِ الحَديثِ، ويُروى عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قال: رُؤيا الأنبياءِ وَحيٌ)
[4420] يُنظر: ((سنن الترمذي)) (6/ 61). .
وفي شَرحِ حَديثِ
جابرٍ رَضيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَأيتُني دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فإذا أنا بالرُّميصاءِ امرَأةِ أبي طَلحةَ، وسَمِعتُ خَشفةً، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بلالٌ ...)) [4421] أخرجه البخاري (3679) واللَّفظُ له، ومسلم (2394). قال العِراقيُّ: (إنْ قيلَ: ما مَعنى رُؤياه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِبلالٍ أمامَه في الجَنَّةِ كُلَّما دَخلَ مَعَ كَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أولَ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ، فكيفَ مَعنى تقَدُّمِ بلالٍ عليه في هذه الرُّؤيا؟ والجَوابُ أنَّه لَم يَقُلْ في هذه الرُّؤيا: إنَّه يَدخُلُها قَبلَه في القيامةِ، وإنَّما رَآه أمامَه في مَنامِه، وأمَّا الدُّخُولُ حَقيقةً فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أولُ مَن يَدخُلُها مُطلَقًا، وأمَّا هذا الدُّخُولُ فالمُرادُ به سَريانُ الرُّوحِ في حالةِ النَّومِ، فلا إشكالَ في ذَلِكَ، واللهُ أعلَمُ)
[4422] يُنظر: ((طرح التثريب)) (2/ 58). .
وقال أيضًا: (فيه أنَّ رُؤيا الأنبياءِ حَقٌّ ووَحْيٌ؛ لِأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لِبلالٍ: بمَ سَبَقتَني إلى الجَنَّةِ؟ فجَزم بسَبقِه اعتِمادًا على رُؤياه لِذَلِكَ، ولَو كانَت رُؤياه يَجُوزُ وُقُوعُها والخُلفُ فيها كَغيرِ الأنبياءِ لَم يَجزِمْ بسَبقِه بجَوازِ الخُلفِ في مَنامِه)
[4423] يُنظر: ((طرح التثريب)) (2/ 58). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِبلالٍ:
((فإنِّي سَمِعتُ دَفَّ نَعليكَ بينَ يَديَّ في الجَنَّةِ)): (... وقَعَ في حَديثِ بُرَيدةَ المَذكُورِ:
((يا بلالُ بمَ سَبَقتَني إلى الجَنَّةِ؟))، وهذا ظاهرٌ في كَونِه رَآه داخِلَ الجَنةِ، ويُؤيِّدُ كَونَه وقَعَ في المَنامِ ما سيَأتي في أوَّلِ مَناقِب عُمَرَ مِن حَديثِ
جابرٍ مَرفُوعًا:
((رَأيتُني دَخَلْتُ الجَنَّةَ فسَمِعْتُ خَشفةً، فقيلَ: هذا بلالٌ، ورَأيتُ قَصْرًا بفِنائِه جاريةً، فقيلَ: هذا لِعُمرَ)) الحَديثُ. وبَعدَه مِن حَديثِ أبي هريرةَ مَرفُوعًا:
((بينَا أنا نائِمٌ رَأيتُني في الجَنَّةِ فإذا امرَأةٌ تَتَوضَّأُ إلى جانِب قَصْرٌ، فقيلَ: هذا لِعُمرَ )) الحَديث، فعرفَ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ في المَنامِ، وثَبَتَتِ الفَضيلةُ بذَلِكَ لِبلالٍ؛ لِأنَّ رُؤيا الأنبياءِ وحيٌ؛ ولِذَلِكَ جَزم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَه بذَلِكَ، ومَشيُه بينَ يَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ مِن عادَتِه في اليَقَظةِ، فاتَّفَقَ مِثلُه في المَنامِ)
[4424] يُنظر: ((فتح الباري)) (3/ 35). .
وقال أيضًا: (قَولُه:
((بينَما أنا نائِمٌ رَأيتُني في الجَنَّةِ)) هذا يُعيِّنُ أحَدَ الِاحتِمالينِ في الحَديثِ الَّذي قَبلَه؛ حيثُ قال فيه:
((دَخَلْتُ الجَنَّةَ أو أتيتُ الجَنةَ)) وأنَّه يُحتَمَلُ أنَّ ذَلِكَ كانَ في اليَقَظةِ أو في النَّومِ، فبينَ هذا الحَديثُ أنَّ ذَلِكَ كانَ في النَّومِ)
[4425] يُنظر: ((فتح الباري)) (9/ 325). .
وقال
العينيُّ: (... قيلَ: كيفَ يَسبِقُ بلالٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دُخُولِ الجَنةِ، والجَنةُ مُحَرَّمةٌ على مَن يَدخُلُ فيها قَبلَ دُخُولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ ... قُلتُ: التَّحقيقُ فيه أنَّ رُؤيةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيَّاه في الجَنَّةِ حَقٌّ؛ لِأنَّ رُؤيا الأنبياءِ حَقٌّ. وقال
التِّرمذيُّ: ويُروى أنَّ رُؤيا الأنبياءِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وحيٌ. وأمَّا سَبْقُ بلالٍ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّخُولِ في هذه الصُّورةِ، فليسَ هو مِن حيثُ الحَقيقةُ، وإنَّما هو بطَريقِ التَّمثيلِ؛ لِأنَّ عادَتَه في اليَقَظةِ أنَّه كانَ يَمشي أمامَه؛ فلِذَلِكَ تَمَثَّلَ لَه في المَنامِ، ولا يَلزَمُ مِن ذَلِكَ السَّبْقُ الحَقيقيُّ في الدُّخُولِ)
[4426] يُنظر: ((عمدة القاري)) (7/ 207). .
وقال
الشَّوكانيُّ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فإنِّي سَمِعتُ دَفَّ نَعليكَ بينَ يَديَّ في الجَنةِ )): (قَولُه:
((فإنِّي سَمِعتُ)) زادَ
مُسلِمٌ:
((اللَّيلةَ))، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ وقَعَ في المَنامِ)
[4427] يُنظر: ((نيل الأوطار)) (3/ 86). .
وقال مُحَمَّد الخَضِر الشِّنقيطيُّ: (قَولُه:
((عِندَ صِلاةِ الفَجْرِ)) فيه إشارةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ وقَعَ في المَنامِ؛ لِأنَّ عادَتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كانَ يَقُصُّ ما رَآه، ويُعَبرُ ما رَآه أصحابُه)
[4428] يُنظر: ((كوثر المعاني الدراري)) (11/ 65). .
وقال مُحَمَّد الأمين الهَرريُّ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُريتُ الجَنَّةَ، فرَأيتُ امرَأةَ أبي طَلحةَ)):
(((أُرِيتُ)) بالبناءِ لِلمَفعُولِ، أي: أراني لَه
((الجَنةَ)) في المَنامِ
((فرَأيتُ)) فيها
((امرَأةَ أبي طَلحةَ)) أمَّ سُلَيمٍ أمَّ أنسٍ)
[4429] يُنظر: ((الكوكب الوهاج)) (23/ 622). .
ومِنَ العُلَماءِ من جَعلَ الأمرَ مُحتَمَلًا بينَ الحَقيقةِ والمَنامِوقال التُّوربشتيُّ: (في رِوايةٍ:
((يا بلالُ ما عَمَلُكَ، فإنِّي لا أراني أدخُلُ الجَنةَ فأسمَعُ الخَشفةَ فأنظُرُ إلَّا رَأيتُكَ)) [4430] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبلال عند صلاة الغداة: ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته، عندك في الإسلامِ منفعةً؛ فإني سمعتُ الليلةَ خَشفَ نعليك، بين يديَّ في الجنة)). قال بلال: ما عملتُ عملًا في الإسلامِ أرجى عندي منفعةً من أني لا أتطهَّرُ طهورًا تامًّا في ساعةٍ من ليل ولا نهار إلَّا صليتُ بذلك الطهور ما كتب اللهُ لي أن أصلِّي. أخرجه البخاري (1149) بلفظ: "دَفَّ نعليك"، ومسلم (2458) واللَّفظُ له. ، والخَشفةُ: الحِسُّ والحَرَكةُ، تَقُولُ مِنه. خَشفَ الإنسانُ يَخشفُ خَشفًا، وخَشفُ الثَّلجِ وذَلِكَ في شِدَّةِ البَردِ يُسمَعُ لَه خَشفةٌ عِندَ المَشيِ، وهذا شيءٌ كَوشِفَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عالَمِ الغيبِ في نَومِه أو يَقَظتِه)
[4431] يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (1/ 325). .
وقال المظهريُّ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فإنِّي سَمِعتُ دَفَّ نَعليكَ بينَ يَديَّ في الجَنةِ )): (يُحتَمَلُ أن تَكُونَ هذه الواقِعةُ ليلةَ المِعراجِ، ويُحتَمَلُ أن يَراه في النَّومِ، أو أراه اللهُ -عليه السَّلام- في اليَقَظةِ)
[4432] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 301). .
وقال الكرمانيُّ: (فإنْ قُلتَ: هذا السَّماعُ لا بُدَّ أن يَكُونَ في النَّومِ؛ إذ لا يَدخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا بَعدَ المَوتِ. قُلتُ: يُحتَمَلُ كَونُه في حالِ اليَقَظةِ، وقَد صَرحَ في أولِ كِتاب الصَّلاةِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخلَ فيها ليلةَ المِعراجِ)
[4433] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (6/ 203). .
وقال ابنُ الملكِ الرُّوميُّ الحَنفيُّ: (هذا أمرٌ كُوشِفَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن عالَمِ الغيبِ في نَومِه، أو يَقَظتِه، أو بينَ النَّومِ واليَقَظةِ، أو رَأى ذَلِكَ ليلةَ المِعراجِ)
[4434] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (2/ 202). .
وقال أبُو بَكرٍ الجَزائِريُّ عِندَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اطَّلعْتُ في الجَنةِ فرَأيتُ أكثَرَ أهلِها الفُقَراءَ)): (اطِّلاعُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الجَنةِ والنَّارِ، كانَ ليلةَ
الإسراءِ والمِعراجِ وجائِزٌ أن يَكُونَ في المَنامِ، وجائِزٌ أن يَكُونَ وهو يُصَلِّي يَومَ كَسفَتِ الشَّمسُ، وهذا أقرَبُ وُقُوعًا، والكُلُّ مُحتَمَلٌ وصَحيحٌ)
[4435] يُنظر: ((عظات وعبر من أحاديث سيد البشر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (ص: 31). .