المَطْلَب التَّاسِعُ: اجتِماعُ أهلِ الجَنَّةِ وأحاديثُهم
قال تعالى سُبحانَه في وصفِ أهلِ الجَنَّةِ:
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة: 15، 16].
قال
ابنُ عُثيمين: (هم مُتَقابلُونَ لِأنَّ أمكِنَتَهم واسِعةٌ، ولِأنَّ لَديهم مِن كَمالِ الأدَب ما لا يُمكِنُ أن يَستَدبِرَ أحَدُهمُ الآخَرَ، كُلُّهم مُؤَدَّبُونَ، كُلُّهم قُلُوبٌ صافيةٌ، قال اللهُ تعالى:
ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
[4862] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الحجرات والحديد)) (ص: 331). .
وذَكَر اللهُ تعالى شيئًا من أحاديثِهم مع بعضِهم، فقال:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25-27].
قال
ابنُ كَثيرٍ: (أقبَلُوا يَتَحادَثُونَ ويَتَساءَلُونَ عَن أعمالِهم وأحوالِهم في الدُّنيا، وهذا كَما يَتَحادَثُ أهلُ الشَّرابِ على شَرابِهم إذا أخَذَ فيهمُ الشَّرابُ بما كانَ مِن أمرِهم.
قالُوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ أي: قَد كُنَّا في الدَّارِ الدُّنيا ونَحنُ بينَ أهلِنا خائِفينَ مِن رَبِّنا مُشْفِقينَ مِن عَذابِه وعِقابِه
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ أي: فتَصَدَّق عَلينا وأجارَنا مِمَّا نَخافُ.
إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أي: نَتَضَرَّعُ إليه فاستجابَ اللهُ لَنا وأعطانا سُؤْلَنا،
إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)
[4863] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 435). .
ومِن ذَلِكَ أيضًا قَولُ اللهِ تعالى عَنهم:
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 50-61] .
قال
السَّعْديُّ: (لَمَّا ذَكَرَ تعالى نَعيمَهم وتَمامَ سُرُورِهم بالمآكِلِ والمَشارِب، والأزواجِ الحِسانِ، والمَجالِسِ الحَسَنةِ؛ ذَكَرَ تَذاكُرَهم فيما بينَهم، ومُطارَحَتَهم لِلأحاديثِ عَنِ الأُمُورِ الماضيةِ، وأنَّهم ما زالُوا في المُحادَثةِ والتَّساؤُلِ، حَتَّى أفضى ذَلِكَ بهم، إلى أنْ قال قائِلٌ مِنهم:
إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ في الدُّنيا يُنكِرُ البَعثَ، ويَلُومُني على تَصديقي به. و
يَقُولُ لي
أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصدَّقينَ أئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ أي: مَجازَونَ بأعمالِنا؟ أي: كيفَ تُصَدِّقُ بهذا الأمرِ البَعيدِ، الَّذي في غايةِ الِاستِغرابِ، وهو أنَّنا إذا تَمَزَّقنا فصِرْنا تُرابًا وعِظامًا أنَّنا نُبعَثُ ونُعادُ، ثُمَّ نُحاسَبُ ونُجازَى بأعمالِنا؟ أي: يَقُولُ صاحِبُ الجَنَّةِ لِإخوانِه: هذه قِصَّتي، وهذا خَبري أنا وقَريني، ما زِلتُ أنا مُؤمِنًا مُصَدِّقًا، وهو ما زالَ مُكَذِّبًا مُنكِرًا لِلبَعثِ، حَتَّى مِتْنا ثُمَّ بُعِثْنا، فوصَلْتُ أنا إلى ما تَرَونَ مِنَ النَّعيمِ الَّذي أخبَرَتْنا به الرُّسُلُ، وهو لا شَكَّ أنَّه قَد وصَلَ إلى العَذابِ. فـ
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ لِنَنظُرَ إليه، فنَزدادَ غِبطةً وسُرُورًا بما نَحنُ فيه، ويَكُونَ ذَلِكَ رَأيَ عينٍ؟ والظَّاهرُ مِن حالِ أهلِ الجَنَّةِ وسُرُورِ بَعضِهم ببَعضٍ ومُوافَقةِ بَعضِهم بَعضًا، أنَّهم أجابُوه لِما قال، وذَهَبُوا تَبَعًا لَه لِلِاطِّلاعِ على قَرينِه.
فاطَّلَعَ فرَأى قَرينَه
في سَوَاءٍ الجِحِيمِ أي: في وسَطِ العَذابِ وغَمَراتِه، والعَذابُ قَد أحاطَ به. فـ
قَالَ لَه لائِمًا على حالِه، وشاكِرًا للهِ على نَعمَتِه أنْ نَجَّاهُ مِن كَيدِه:
تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي: تُهلِكُني بسَبَب ما أدخَلتَ عليَّ مِنَ الشُّبَه بزَعمِكَ.
ولَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي عليَّ أنْ ثَبَّتَني على الإسلامِ
لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ في العَذابِ مَعَكَ.
أَفَمَا نَحْنُ بمِّيتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي: يَقُولُه المُؤمِنُ مُبتَهِجًا بنَعمةِ اللهِ على أهلِ الجَنةِ بالخُلُودِ الدَّائِمِ فيها والسَّلامةِ مِنَ العَذابِ، استِفهامٌ بمَعنى الإثباتِ والتَّقريرِ، أي: يَقُولُ لِقَرينِه المُعَذَّبِ: أفتَزعُمُ أنَّنا لَسنا نَمُوتُ سِوى المَوتةِ الأُولى، ولا بَعثَ بَعدَها ولا عَذابَ؟ وقَولُه:
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ وحُذِفَ المَعمُولُ، والمَقامُ مَقامُ لَذَّةٍ وسُرُورٍ، فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّهم يَتَساءَلُونَ بكُلِّ ما يَلتَذُّونَ بالتَّحَدُّثِ به، والمَسائِلِ الَّتي وقَعَ فيها النِّزاعُ والإشكالُ.
ومِنَ المَعلُومِ أنَّ لَذَّةَ أهلِ العِلمِ بالتَّساؤُلِ عَنِ العِلمِ والبَحثِ عَنه فوقَ اللَّذَّاتِ الجاريةِ في أحاديثِ الدُّنيا، فلَهم مِن هذا النَّوعِ النَّصيبُ الوافِرُ، ويَحصُلُ لَهم مِنِ انكِشافِ الحَقائِقِ العِلميَّةِ في الجَنَّةِ ما لا يُمكِنُ التَّعبيرُ عَنه)
[4864] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 703). .