الفرعُ الثَّالِثُ: معنى المَحْوِ والإثباتِ في الصُّحُفِ
قال اللهُ تعالى:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] .
قال
السَّعديُّ: (
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الأقدارِ
وَيُثْبِتُ ما يشاءُ منها، وهذا المحوُ والتغييرُ في غيرِ ما سبق به عِلْمُه وكَتَبه قَلَمُه؛ فإنَّ هذا لا يقَعُ فيه تبديلٌ ولا تغييرٌ؛ لأنَّ ذلك محالٌ على اللهِ أن يقَعَ في عِلمِه نَقصٌ أو خَلَلٌ؛ ولهذا قال:
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ أي: اللَّوحُ المَحفوظُ الذي ترجِعُ إليه سائِرُ الأشياءِ، فهو أصلُها، وهي فُروعٌ له وشُعَبٌ.
فالتغييرُ والتبديلُ يقعُ في الفُروعِ والشُّعَبِ، كأعمالِ اليومِ واللَّيلةِ التي تكتُبُها الملائكةُ، ويجعَلُ اللهُ لثبوتها أسبابًا ولمحوِها أسبابًا، لا تتعدَّى تلك الأسبابُ ما رُسِمَ في اللَّوحِ المَحفوظِ، كما جعل اللهُ البِرَّ والصِّلَةَ والإحسانَ منْ أسبابِ طُولِ العُمُرِ وسَعةِ الرِّزقِ، وكما جعل المعاصِيَ سَبَبًا لمحْقِ بركةِ الرِّزقِ والعُمُرِ، وكما جعل أسبابَ النجاةِ من المهالِكِ والمعاطِبِ سَببًا للسلامةِ، وجعَل التعَرُّضَ لذلك سببًا للعَطَبِ، فهو الذي يدَبِّرُ الأمورَ بحسَبِ قدرتِه وإرادتِه، وما يُدَبِّرُه منها لا يخالِفُ ما قد عَلِمَه وكتبه في اللَّوحِ المَحفوظِ)(
يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 419). .
وقال اللهُ سُبحانَه حكايةً لِقَولِ نُوحٍ عليه السَّلامُ لقَومِه:
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 3-4] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى أي: يُمِدَّ في أعمارِكم ويدرَأْ عنكم العذابَ الذي إن لم تنزَجِروا عمَّا نهاكم عنه أوقعه بكم.
وقد يَستدِلُّ بهذه الآيةِ من يقولُ: إنَّ الطاعةَ والبِرَّ وصِلةَ الرَّحِمِ، يُزادُ بها في العُمُرِ حقيقةً، كما ورد به الحديثُ)(
يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 231). .
عن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من سَرَّه أن يُبسَطَ عليه رِزقُه أو يُنسَأَ في أَثَرِه( قال النووي: (يُنسَأ -مهموزٌ- أي: يُؤَخَّر، والأثَرُ: الأجَلُ؛ لأنَّه تابعٌ للحياةِ في أثَرِها، وبَسْطُ الرِّزقِ: توسيعُه وكثرتُه، وقيل: البركةُ فيه). ((شرح مسلم)) (16/114). فلْيَصِلْ رَحِمَه ))(
أخرجه البخاري (5986)، ومسلم (2557) واللَّفظُ له. .
إنَّ الأقدارَ المكتوبةَ كالرِّزقِ والعُمُرِ على نوعينِ: نوعٌ كُتِبَ في اللَّوحِ المَحفوظِ، فهذا لا يتغيَّرُ ولا يتبدَّلُ، ونوعٌ أعلَمَ اللهُ به ملائكتَه فهو في صُحُفِهم يزيدُ ويَنقُصُ بحسَبِ الأسبابِ، فالمَلَكُ لا يَعلَمُ أيزادُ له في ذلك أم يُنقَصُ، لكِنَّ اللهَ يَعلَمُ بسابقِ عِلمِه ما يستقِرُّ عليه الأمرُ.
قال
ابنُ العربيِّ في حديثِ
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه... ثم يَبعَثُ اللهُ إليه ملَكًا ويُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه ورِزْقَه وأجَلَه وشَقِيٌّ أو سعيدٌ ))(
أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (3208) واللَّفظُ له، ومسلم (2643). : (قَولُه:
((ويُؤمَرُ)) هذه الفائِدةُ العُظمى؛ لأنَّه لو أخبر فقال: أجَلُه كذا ورِزْقُه كذا، وهو شَقِيٌّ أو سعيدٌ، ما تغيَّرَ خَبَرُه أبدًا؛ لأنَّ خَبَرَ اللهِ لا يجوزُ أن يُوجَدَ بخِلافِ مُخبَرِه؛ لوجوبِ الصِّدقِ له، ولكنَّه يأمُرُ بذلك كُلِّه، وللهِ سُبحانَه أن يَنسَخَ أمْرَه ويُقَلِّبَ ويُصَرِّفَ العِبادَ فيه من وَجهٍ إلى وَجهٍ، فافهَموا هذا؛ فإنَّه نفيسٌ وفيه يقَعُ المحوُ والتبديلُ، وأمَّا في الخبرِ فلا يكونُ ذلك أبدًا، وكذلك يقَعُ المحْوُ في صحائِفِ المَلَكِ ويُرفَعُ إلى ما في أمِّ الكِتابِ، وهو تأويلُ قَولِه:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)(
يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (8/ 303). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ اللهَ يكتُبُ للعبدِ أجَلًا في صُحُفِ الملائكةِ، فإذا وصل رَحِمَه زاد في ذلك المكتوبِ. وإن عَمِل ما يوجِبُ النَّقصَ نقص من ذلك المكتوبِ. ونظيرُ هذا ما في
الترمذيِّ وغيره عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ آدمَ لَمَّا طلب من اللهِ أن يُريَه صورةَ الأنبياءِ من ذرِّيَّتِه فأراه إيَّاهم فرأى فيهم رجلًا له بصيصٌ، فقال: من هذا يا رَبِّ؟ فقال: ابنُك داودَ. قال: فكم عُمُرُه؟ قال: أربعون سنةً. قال: وكم عمري؟ قال: ألفُ سنةٍ. قال: فقد وهبتُ له من عُمُري سِتِّين سنةً. فكُتِب عليه كِتابٌ وشَهِدت عليه الملائكةُ، فلما حضرَتْه الوفاةُ قال: قد بَقِيَ من عمري ستون سنةً. قالوا: وهَبْتَها لابنِك داودَ. فأنكر ذلك فأخرجوا الكتابَ. قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فنَسِيَ آدَمُ فنَسِيَت ذُرِّيتُه، وجحد آدمُ فجَحَدت ذرِّيَّتُه(
أخرجه الترمذي (3076)، والبزار (8892)، والحاكم (3257) باختِلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الترمذي، والحاكِمُ على شرط مسلم، وابن منده في ((الرد على الجهمية)) (49). ، ورُوِيَ أنَّه كمَّل لآدَمَ عُمُرَه ولداودَ عُمُرَه. فهذا داودُ كان عمُرُه المكتوبُ أربعين سنةً ثمَّ زادَه سِتِّينَ، وهذا معنى ما رُوِيَ عن عُمَرَ أنَّه قال: اللَّهمَّ إن كنتَ كتَبْتَني شقيًّا فامحُني واكتُبْني سعيدًا؛ فإنَّك تمحو ما تشاءُ وتُثبِتُ(
أخرجه الفاكهي في ((أخبار مكة)) (418)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1565)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (1207) باختِلافٍ يسيرٍ. حسَّن إسنادَه ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (2/593). . واللهُ سُبحانَه عالمٌ بما كان وما يكونُ وما لم يكُنْ لو كان كيف كان يكونُ؛ فهو يَعلَمُ ما كتبه له وما يزيدُه إيَّاه بعد ذلك، والملائكةُ لا عِلمَ لهم إلَّا ما عَلَّمهم اللهُ، واللهُ يَعلَمُ الأشياءَ قبل كَونِها وبعد كَونِها؛ فلهذا قال العُلَماءُ: إنَّ المحوَ والإثباتَ في صُحُفِ الملائكةِ، وأمَّا عِلمُ اللهِ سُبحانَه فلا يختَلِفُ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (14/ 490-492). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ مشيرًا إلى هذه المسألةِ في سياقِ حديثِه عن النَّسْخِ في الشريعةِ: (بَيَّن ذلك سُبحانَه وتعالى بقَولِه:
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 106، 107].
فأخبر سُبحانَه أنَّ عُمومَ قُدرتِه ومُلكِه وتصَرُّفِه في مملكَتِه وخَلْقِه لا يمنَعُه أن ينسَخَ ما يشاءُ، ويُثبِتَ ما يشاءُ، كما أنَّه يمحو من أحكامِه القَدَريَّةِ الكَونيَّةِ ما يشاءُ ويُثبِتُ، فهكذا أحكامُه الدِّينيَّةُ الأمرِيَّةُ، يَنسَخُ منها ما يشاءُ، ويُثبِتُ منها ما يشاءُ)(
يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 1106). .
وقال
ابنُ حجَرٍ: (إنَّ الذي سبق في عِلمِ اللهِ لا يتغيَّرُ ولا يتبدَّلُ، وإنَّ الذي يجوزُ عليه التغييرُ والتبديلُ ما يبدو للنَّاسِ مِن عَمَلِ العامِلِ، ولا يَبعُدُ أن يتعلَّقَ ذلك بما في عِلمِ الحَفَظةِ والموكَّلين بالآدَميِّ، فيقَعُ فيه المحوُ والإثباتُ، كالزِّيادةِ في العُمُرِ والنَّقصِ، وأمَّا ما في عِلمِ اللهِ فلا محْوَ فيه ولا إثباتَ، والعِلْمُ عند اللهِ)(
يُنظر: ((فتح الباري)) (11/488) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال
ابنُ عثيمين: (هنا مسألةٌ: هل الكتابةُ تتغَيَّرُ أو لا تتغيَّرُ؟
الجوابُ: يقولُ رَبُّ العالَمينَ عزَّ وجَلَّ:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] . أي: اللَّوحُ المَحفوظُ ليس فيه محوٌ ولا كتابٌ، فما كُتِب في اللَّوحِ المَحفوظِ فهو كائِنٌ ولا تغييرَ فيه، لكِنْ ما كُتِبَ في الصُّحُفِ التي في أيدي الملائكةِ فهذا:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، قال عزَّ وجَلَّ:
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .
وفي هذا المقامِ يُنكَرُ على من يقولون: «اللهُمَّ إني لا أسألُك رَدَّ القَضاءِ، ولكِنْ أسألُك اللُّطفَ فيه» فهذا دعاءٌ بِدعيٌّ باطِلٌ،... فالإنسانُ يسألُ اللهَ عزَّ وجَلَّ رَفْعَ البلاءِ نهائيًّا، فيقولُ مَثَلًا: اللهُمَّ عافِنِي، اللهُمَّ ارزُقْني، وما أشبهَ ذلك. وإذا كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَقُلْ أحَدُكم: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي إن شِئْتَ))(
أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (7477) واللَّفظُ له، ومسلم (2679) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فقولك: «اللهُمَّ إني لا أسألُك رَدَّ القَضاءِ، ولكِنْ أسألُك اللُّطفَ فيه» أشَدُّ.
واعلَمْ أنَّ الدُّعاءَ قد يَرُدُّ القَضاءَ، كما جاء في الحديثِ: لا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعاءُ(
أخرجه ابن ماجه (90)، وأحمد (22386) مُطَوَّلًا من حديثِ ثوبان رَضِيَ اللهُ عنه. صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (872)، وحسنه العراقي كما في ((مصباح الزجاجة)) للبوصيري (1/54)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (90)، وحسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22386)، وصحح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (1814). ، وكم من إنسانٍ افتقر غايةَ الافتقارِ حتى كاد يَهلِكُ، فإذا دعا أجاب اللهُ دعاءَه! وكم من إنسانٍ مرض حتى أَيِسَ من الحياةِ، فيدعو فيستجيبُ اللهُ دُعاءَه! قال اللهُ تعالى:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] ، فذكر حالَه يريد أنَّ اللهَ يكشِفُ عنه الضُّرَّ، قال الله:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء: الآية 84])(
يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 66). .