الفَرعُ الثَّالثُ: عَلاقةُ قَولِ اللِّسانِ بقَولِ القَلبِ وعَمَلِه
إنَّ قَولَ القَلبِ مُتعَلِّقُ التوحيدِ الخَبَريِّ الاعتِقاديِّ.
وعَمَلَ القَلْبِ هو متعَلِّقُ التوحيدِ الطَّلَبيِّ الإراديِّ.
فالإيمانُ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ والقَدَرِ: يتضَمَّنُ توحيدَ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتصديقَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ ما أخبر عن رَبِّه من الكُتُبِ وما فيها، والملائِكةِ وأعمالِهم وصِفاتِهم، والنبِّيين ودَعوتِهم وأخبارِهم، وأحوالِ البَرْزَخِ والآخِرةِ، والمقاديرِ وسائِرِ المغيَّباتِ؛ فالإقرارُ بهذا والتصديقُ به مجمَلًا أو مفصَّلًا هو قَولُ القَلبِ، وهو التوحيدُ الخَبَريُّ الاعتقاديُّ.
وعَمَلُ القَلبِ يتضَمَّنُ توحيدَ اللهِ عزَّ وجَلَّ بعبادتِه وَحْدَه؛ حُبًّا وخَوفًا ورجاءً، ورغبةً ورَهبةً، وإنابةً وتوكُّلًا، وخشوًعا واستعانةً، ودُعاءً وإجلالًا، وتعظيًما وانقيادًا، وتسليمًا لأمْرِه الكونيِّ وأمْرِه الشَّرعيِّ، ورضًا بحُكْمِه القَدَريِّ والشَّرعيِّ، وسائِرِ أنواعِ العبادةِ التي صَرْفُها لغيرِ اللهِ شِرْكٌ
[122] كما يتضَمَّنُ عَمَلُ القَلبِ أعمالًا دون ذلك ممَّا افَتَرَضها اللهُ وجَعَلَها من واجباتِ الإيمانِ؛ كمَحَبَّةِ المؤمنين والنُّصحِ لهم، والتواضُعِ، والشَّفَقةِ، واجتنابِ الكبرِ والحسَدِ، ونحو ذلك. .
وهذان هما نوعا التوحيدِ الذي جاءت به الرُّسُلُ، وأنزل اللهُ به الكُتُبَ، وشهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ -التي هي رأسُ الأعمالِ وأوَّلُ واجبٍ على العبدِ- إنما هي إنشاءٌ للالتزامِ بهذين النوعينِ، ومن ثَمَّ سُمِّيت كَلِمةَ التوحيدِ، ومن هنا كان أجهَلُ النَّاسِ بالتوحيدِ مَن ظَنَّ أنَّ المطلوبَ بقَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ هو التلَفُّظُ بها باللِّسانِ فقط!
فإنَّ كُلَّ عَمَلٍ مِن أعمالِ الإنسانِ الظَّاهِرةِ -على اللِّسانِ أو الجوارحِ- لا بُدَّ أن يكونَ تعبيرًا عمَّا في القَلبِ، وتحقيقًا له، ومُظهِرًا لإرادتِه، وإلَّا كان صاحِبُه مُنافِقًا النِّفاقَ الشَّرعيَّ أو العُرفيَّ، وأخَصُّ من ذلك العباداتُ؛ فكُلُّ عبادةٍ قَوليَّةٍ وفِعليَّةٍ لا بُدَّ أن يقتَرِنَ بها مِن عَمَلِ القَلبِ وما يُفَرِّقُ بينها وبين أفعالِ الجماداتِ أو الحرَكاتِ اللَّاإراديَّةِ أو أفعالِ المنافقينَ، فما بالُك برأسِ العباداتِ وأعظَمِها، بل أعظَمِ شيءٍ في الوجودِ، الذي يَرجَحُ بالسَّمواتِ والأرضِ وعامِرِهنَّ غيرَ اللهِ تعالى: وهي شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ؟!
ولهذا يتفاوَتُ قائِلو هذه الكَلِمةِ تفاوُتًا عظيمًا بحَسَبِ تفاوُتِ ما في قُلوبِهم من التوحيدِ
[123] يُنظر: ((الإيمان)) لابن منده (1/226)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/550-553) (13/233). قال
ابنُ القَيِّمِ: (اعلَمْ أنَّ أشِعَّةَ لا إلهَ إلَّا اللهُ تُبَدِّدُ مِن ضبابِ الذُّنوبِ وغُيومِها بقُدرةِ قُوَّةِ الشُّعاعِ وضَعْفِه؛ فلها نورٌ، وتفاوُتُ أهلِها في ذلك النُّورِ قوةً وضَعفًا لا يُحصِيه إلَّا اللهُ تعالى، فمِنَ النَّاسِ مَن نورُ هذه الكَلِمةِ في قَلْبِه كالشَّمسِ، ومنهم من نورُها في قَلْبِه كالكوكَبِ الدُّرِّيِّ، ومنهم من نورُها في قَلْبِه كالمِشْعَلِ العظيمِ، وآخَرُ كالسِّراجِ المضيءِ، وآخَرُ كالسِّراجِ الضَّعيفِ؛ ولهذا تظهَرُ الأنوارُ يومَ القيامةِ بأيمانِهم وبين أيديهم على هذا المِقدارِ، بحَسَبِ ما في قُلوبِهم من نُورِ هذه الكَلِمةِ؛ عِلمًا وعَمَلًا، ومَعرِفةً وحالًا.
وكُلَّما عَظُم نورُ هذه الكَلِمةِ واشتَدَّ، أحرَقَ مِن الشُّبُهاتِ والشَّهواتِ بحسَبِ قُوَّتِه وشِدَّتِه، حتى إنَّه ربَّما وصل إلى حالٍ لا يصادِفُ معها شُبهةً ولا شهوةً ولا ذَنبًا إلَّا أحرَقَه، وهذا حالُ الصَّادِقِ في توحيدِه، الذي لم يُشرِكْ باللهِ شيئًا، فأيُّ ذَنبٍ أو شهوةٍ أو شُبهةٍ دَنَت من هذا النُّورِ أحرَقَها، فسماءُ إيمانِه قد حُرِسَت بالنُّجومِ مِن كُلِّ سارقٍ لحَسَناتِه، فلا ينالُ منها السَّارِقُ إلَّا على غِرَّةٍ وغَفلةٍ لا بُدَّ منها للبَشَرِ، فإذا استيقَظَ وعَلِمَ ما سُرِقَ منه استنقَذَه من سارِقِه، أو حصَّل أضعافَه بكَسْبِه، فهو هكذا أبدًا مع لُصوصِ
الجِنِّ والإنسِ، ليس كمن فَتَح لهم خِزانَتَه، وولَّى البابَ ظَهْرَه، وليس التوحيدُ مجَرَّدَ إقرارِ العَبدِ بأنَّه لا خالِقَ إلَّا اللهُ، وأنَّ اللهَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ ومَليكُه، كما كان عُبَّادُ الأصنامِ مُقِرِّين بذلك، وهم مُشرِكون، بل التوحيدُ يتضَمَّنُ من محبَّةِ اللهِ، والخُضوعِ له، والذُّلِّ له، وكَمالِ الانقيادِ لطاعتِه، وإخلاصِ العبادةِ له، وإرادةِ وَجْهِه الأعلى بجَميعِ الأقوالِ والأعمالِ، والمنعِ والعَطاءِ، والحُبِّ والبُغضِ: ما يحولُ بين صاحِبِه وبين الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى المعاصي والإصرارِ عليها، ومن عَرَف هذا عَرَف قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ حَرَّم على النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ يبتغي بذلك وَجْهَ اللهِ )) [124] أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33). من حديثِ عِتبانَ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقَولَه:
((لا يدخُلُ النَّارَ من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [125] أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32) ولفظ البخاري: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم.. قال: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار)) ، وما جاء من هذا الضَّربِ مِن الأحاديثِ التي أَشكَلَت على كثيرٍ مِن النَّاسِ، حتى ظَنَّها بعضُهم منسوخةً، وظَنَّها بعضُهم قيلَت قبل ورودِ الأوامِرِ والنَّواهي واستقرارِ الشَّرعِ، وحَمَلَها بعضُهم على نارِ المُشرِكين والكُفَّارِ، وأوَّلَ بَعضُهم الدُّخولَ بالخُلودِ، وقال: المعنى لا يدخُلُها خالِدًا، ونحوَ ذلك من التأويلاتِ المُستَكرَهةِ.
والشَّارِعُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه لم يجعَلْ ذلك حاصِلًا بمجَرَّدِ قَولِ اللِّسانِ فقط؛ فإنَّ هذا خلافُ المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ، فإنَّ المنافقين يقولونَها بألسِنَتِهم، وهم تحت الجاحِدينَ لها في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ، فلا بدَّ مِن قَولِ القَلبِ، وقَولِ اللِّسانِ!
وقَولُ القَلبِ: يتضَمَّنُ معرفتَها، والتصديقَ بها، ومَعرِفةَ حقيقةِ ما تضمَّنَتْه من النَّفيِ والإثباتِ، ومعرفةَ حقيقةِ الإلهيَّةِ المنفيَّةِ عن غيرِ اللهِ، المختَصَّةِ به، التي يستحيلُ ثُبوتُها لغيرِه، وقيامَ هذا المعنى بالقَلْبِ؛ عِلمًا ومعرفةً، ويقينًا وحالًا: ما يوجِبُ تحريمَ قائِلِها على النَّارِ، وكُلُّ قَولٍ رَتَّب الشَّارعُ ما رَتَّب عليه من الثَّوابِ، فإنَّما هو القَولُ التَّامُّ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من قال في يومٍ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه مائةَ مَرَّةٍ، حُطَّت عنه خطاياه أو غُفِرَت ذُنوبُه، ولو كانت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ )) [126] أخرجه البخاري (6405)، ومسلم (2691) باختلافٍ يسيرٍ مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وليس هذا مُرَتَّبًا على مجَرَّدِ قَولِ اللِّسانِ، نعم من قالها بلِسانِه غافِلًا عن معناها، مُعرِضًا عن تدَبُّرِها، ولم يواطِئْ قَلْبُه لسانَه، ولا عَرَفَ قَدْرَها وحقيقتَها، راجيًا من ذلك ثوابَها؛ حُطَّت مِن خطاياه بحَسَبِ ما في قَلْبِه؛ فإنَّ الأعمالَ لا تتفاضَلُ بصُوَرِها وعَدَدِها، وإنَّما تتفاضَلُ بتفاضُلِ ما في القُلوبِ، فتكونُ صورةُ العَمَلينِ واحِدةً، وبينهما في التفاضُلِ كما بين السَّماءِ والأرضِ، والرَّجُلانِ يكونُ مَقامُهما في الصَّفِّ واحِدًا وبين صلاتَيهما كما بين السَّماءِ والأرضِ.
وتأمَّلْ حديثَ البِطاقةِ التي توضَعُ في كِفَّةٍ، ويقابِلُها تسعةٌ وتِسعون سِجِلًّا، كلُّ سِجِلٍّ منها مَدَّ البَصَرِ، فتَثقُلُ البطاقةُ وتَطيشُ السِّجِلَّاتُ! فلا يُعَذَّبُ
[127] حديثُ البطاقة أخرجه: الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (6994). من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حِبان في ((صحيحه)) (225)، وصحَّحه على شرطِ مسلمٍ: الحاكم في ((المستدرك)) (9)، وابن الملقِّن في ((شرح صحيح البخاري)) (33/595). .
ومعلومٌ أنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ له مِثلُ هذه البطاقةِ، وكثيرٌ منهم يدخُلُ النَّارَ بذُنوبِه، ولكِنَّ السِّرَّ الذي ثقَّل بطاقةَ ذلك الرَّجُلِ، وطاشت لأجْلِه السِّجِلَّاتُ، لَمَّا لم يحصُلْ لغيرِه من أربابِ البِطاقاتِ، انفَرَدَتْ بطاقتُه بالثِّقلِ والرَّزانةِ.
وإذا أردت زيادةَ الإيضاحِ لهذا المعنى فانظُرْ إلى ذِكْرِ مَن قَلْبُه مَلآنُ بمحَبَّتِك، وذِكرِ من هو مُعرِضٌ عنك غافِلٌ ساهٍ، مشغولٌ بغيرك، قد انجذَبَت دواعي قَلْبِه إلى محبَّةِ غَيرِك، وإيثارِه عليك، وهل يكونُ ذِكرُهما واحِدًا؟ أم هل يكونُ وَلَداك اللَّذان هما بهذه المثابةِ أو عبداك أو زَوجَتاك عندك سَواءً؟!
وتأمَّلْ ما قام بقَلبِ قاتِلِ المائةِ مِن حقائِقِ الإيمانِ التي لم تشغَلْه عند السِّياقِ عن السَّيرِ إلى القريةِ، وحمَلَتْه -وهو في تلك الحالِ- على أن جَعَل ينوءُ بصَدْرِه، ويعالجُ سكَراتِ الموتِ، فهذا أمرٌ آخَرُ، وإيمانٌ آخَرُ، ولا جَرَمَ أن أُلحِقَ بالقريةِ الصَّالحةِ، وجُعِل مِن أهلِها.
وقريبٌ من هذا ما قام بقَلبِ البَغيِّ التي رأت ذلك الكَلْبَ وقد اشتَدَّ به العَطَشُ، يأكُلُ الثَّرى، فقام بقَلْبِها ذلك الوَقتَ -مع عَدَمِ الآلةِ، وعَدَمِ المعينِ، وعَدَمِ مَن تُرائيه بعَمَلِها- ما حمَلَها على أن غَرَّرَت بنَفْسِها في نزولِ البِئرِ، ومَلءِ الماءِ في خُفِّها، ولم تَعبَأْ بتعَرُّضِها للتَّلَفِ، وحَمْلِها خُفَّها بفيها وهو ملآنُ، وحتى أمكَنَها الرُّقيُّ من البئرِ، ثم تواضُعِها لهذا المخلوقِ الذي جرت عادةُ النَّاسِ بضَرْبِه؛ فأمسكت له
الخُفَّ بيَدِها حتى شَرِب، ومن غيرِ أن ترجوَ منه جزاءً ولا شُكورًا، فأحرقت أنوارُ هذا القَدْرِ من التوحيدِ ما تقدَّم منها من البِغاءِ، فغُفِرَ لها!
فهكذا الأعمالُ والعُمَّالُ عند الله، والغافِلُ في غَفلةٍ مِن هذا الإكسيرِ الكِيماويِّ، الذي إذا وُضِعَ منه مثقالُ ذَرَّةٍ على قناطيرَ مِن نُحاسِ الأعمالِ قَلَبَها ذَهَبًا، واللهُ المستعانُ)
[128] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/339-341). .
وقال
ابنُ رجبٍ: (قَولُ العَبدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ يقتضي أنْ لا إلهَ غَيرُ اللهِ، والإلهُ: الذي يُطاعُ فلا يُعصى؛ هيبةً له وإجلالًا، ومحبَّةً وخوفًا ورجاءً، وتوكُّلًا عليه، وسؤالًا منه، ودعاءً له، ولا يصلُحُ ذلك كُلُّه إلَّا للهِ عزَّ وجَلَّ، فمن أشرك مخلوقًا في شيءٍ مِن هذه الأمورِ التي هي من خصائِصِ الإلهيَّةِ، كان ذلك قَدْحًا في إخلاصِه في قَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ونقصًا في توحيدِه؛ فكان فيه عبوديَّةٌ لذاك المخلوقِ بحسَبِ ما فيه من ذلك)
[129]يُنظر: ((التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص، ضمن مجموع رسائل ابن رجب)) (3/53). .