الفَرعُ الأوَّلُ: العَلاقةُ بين إيمانِ القَلبِ وعَمَلِ الجوارِحِ
إنَّ العَلاقةَ بين إيمانِ القَلْبِ وعَمَلِ الجوارحِ مِن أهَمِّ مَسائلِ الإيمانِ؛ فقد تقَرَّر أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، وأنَّ ذلك يَشمَلُ القَلبَ والجوارحَ معًا، فهذان الرُّكنانِ -القَولُ والعَمَلُ-، أو الأربعةُ الأجزاءِ -قَولُ القَلبِ، وعَمَلُه، وقَولُ اللِّسانِ، وعَمَلُ الجوارحِ- يتركَّبُ منهما هيئةٌ مجتَمِعةٌ أو حقيقةٌ جامعةٌ لأُمورٍ، هذه الهيئةُ والحقيقةُ هي (الإيمانُ الشَّرعيُّ)، كما أنَّ حقيقةَ الإنسانِ مُرَكَّبةٌ من الجَسَدِ والرُّوحِ، أو العَقلِ والوِجدانِ، وكما أنَّ الشَّجرةَ تتركَّبُ مِن الجُذورِ الضَّاربةِ في الأرضِ، والسَّاقِ والأغصانِ الظَّاهرةِ.
وبهذا يُفهَمُ اندراجُ جميعِ الأعمالِ والطَّاعاتِ -فَرضًا أو نَفلًا- في مُسَمَّى الإيمانِ المطلَقِ، ودُخولُها في حقيقتِه الجامِعةِ، كما يظهَرُ تفاوُتُ النَّاسِ في الإيمانِ ودَرَجاتِه. قال
الآجري : (فالأعمالُ -رحِمَكم اللهُ- بالجوارحِ: تصديقٌ عن الإيمانِ بالقَلبِ واللِّسانِ، فمن لم يصدِّقِ الإيمانَ بعَمَلِ جوارِحِه، مِثلُ: الطَّهارةِ، والصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصِّيامِ والحَجِّ وأشباهٍ لهذه، ورَضِيَ من نَفْسِه بالمعرفةِ والقَولِ؛ لم يكُنْ مُؤمِنًا، ولم تنفَعْه المعرفةُ والقَولُ، وكان تركُه للعَمَلِ تكذيبًا لإيمانِه، وكان العَمَلُ بما ذكَرْناه تصديقًا لإيمانِه، وباللهِ التوفيقُ)
[138] يُنظر: ((الشريعة)) (2/614). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إذا أُفرِدَ الإيمانُ أُدخِلَ فيه الأعمالُ الظَّاهِرةُ؛ لأنَّها لوازِمُ ما في القَلبِ؛ لأنَّه متى ثبت الإيمانُ في القَلبِ، والتصديقُ بما أخبَرَ به الرَّسولُ؛ وَجَب حُصولُ مُقتضى ذلك ضرورةً؛ فإنَّه ما أسَرَّ أحَدٌ سَريرةً إلَّا أبداها اللهُ على صَفَحاتِ وَجْهِه، وفَلَتاتِ لِسانِه، فإذا ثبت التصديقُ في القَلْبِ لم يتخَلَّفِ العَمَلُ بمُقتَضاه البتَّةَ، فلا تستَقِرُّ مَعرِفةٌ تامَّةٌ ومحَبَّةٌ صحيحةٌ، ولا يكونُ لها أثَرٌ في الظَّاهِرِ؛ ولهذا ينفي اللهُ الإيمانَ عمَّن انتَفَت عنه لوازِمُه، فإنَّ انتفاءَ اللَّازِم يقتضي انتفاءَ الملزومِ، كقَولِه تعالى:
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81] )
[139] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/272). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (القُرآنُ يُبَيِّنُ أنَّ إيمانَ القَلبِ يَستلزِمُ العَمَلَ الظَّاهِرَ بحسَبِه، كقَولِه تعالى:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 – 51] . فنفى الإيمانَ عمَّن تولى عن طاعةِ الرَّسولِ، وأخبَرَ أنَّ المؤمنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورَسولِه ليَحكُمَ بينهم سَمِعوا وأطاعوا، فبَيَّن أنَّ هذا من لوازمِ الإيمانِ)
[140] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/221). .
وقال أيضًا: (القَلبُ هو الأصلُ، فإذا كان فيه معرفةٌ وإرادةٌ سَرَى ذلك إلى البَدَنِ بالضَّرورةِ، لا يمكِنُ أن يتخَلَّف البدَنُ عمَّا يريدُه القَلْبُ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ:
((ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائِرُ الجَسَدِ، وإذا فَسَدَت فَسَد لها سائِرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ )) [141] أخرجه البُخاريُّ (52)، ومسلم (1599) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ... فإذا كان القَلبُ صالحًا بما فيه من الإيمانِ عِلمًا وعَمَلًا قلبيًّا، لَزِمَ ضَرورةً صلاحُ الجسَدِ بالقَولِ الظَّاهِرِ والعَمَلِ بالإيمانِ المطلَقِ، كما قال أئمَّةُ أهلِ الحديثِ: قَولٌ وعَمَلٌ؛ قَولٌ باطِنٌ وظاهِرٌ، وعَمَلٌ باطِنٌ وظاهِرٌ، والظَّاهِرُ تابِعٌ للباطِنِ لازِمٌ له، متى صلح الباطِنُ صَلَح الظَّاهِرُ، وإذا فَسَد فَسَد)
[142] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/187). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ عن أعمالِ القُلوبِ: (هي الأصلُ المرادُ المقصودُ، وأعمالُ الجوارِحِ تَبَعٌ ومُكَمِّلةٌ ومُتَمِّمةٌ، وأنَّ النيَّةَ بمنزلةِ الرُّوحِ، والعَمَلَ بمنزلةِ الجَسَدِ للأعضاءِ، الذي إذا فارق الرُّوحَ فمَواتٌ، وكذلك العَمَلُ إذا لم تصحَبْه النيَّةُ فحرَكةُ عابثٍ؛ فمَعرِفةُ أحكامِ القُلوبِ أهَمُّ مِن معرفةِ أحكامِ الجوارحِ؛ إذ هي أصلُها، وأحكامُ الجوارحِ مُتفَرِّعةٌ عليها)
[143] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (3/1140). .
وقال أيضًا: (اللهُ تعالى أمَرَ عِبادَه أن يقوموا بشَرائعِ الإسلامِ على ظواهِرِهم، وحقائِقِ الإيمانِ على بواطِنِهم، ولا يَقبَلُ واحِدًا منهما إلَّا بصاحِبِه وقَرينِه،... فكُلُّ إسلامٍ ظاهِرٍ لا ينفُذُ صاحِبُه منه إلى حقيقةِ الإيمانِ الباطنةِ، فليس بنافعٍ حتى يكونَ معه شيءٌ من الإيمانِ الباطِنِ، وكُلُّ حقيقةٍ باطنةٍ لا يقومُ صاحِبُها بشرائِعِ الإسلامِ الظَّاهِرةِ لا تنفَعُ، ولو كانت ما كانت، فلو تمزَّق القَلبُ بالمحبَّةِ والخَوفِ ولم يتعَبَّدْ بالأمرِ وظاهِرِ الشَّرعِ، لم يُنْجِه ذلك من النَّارِ، كما أنَّه لو قام بظواهِرِ الإسلامِ، وليس في باطِنِه حقيقةُ الإيمانِ، لم يُنْجِه مِنَ النَّارِ)
[144]يُنظر: ((الفوائد)) (ص: 142). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش