الفَرعُ الرَّابِعُ: تَعبيراتُ السّلَفِ في تقريرِ التَّلازُمِ بين الإيمانِ والعَمَلِ
قَرَّر السَّلَفُ الصَّالحُ هذه القاعِدةَ التي هي أهَمُّ قاعدةٍ مِن قواعِدِ الإيمانِ والدِّينِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ الخَطَأَ في اسمِ الإيمانِ ليس كالخَطَأِ في اسمٍ مُحدَثٍ، ولا كالخَطَأِ في غيرِه من الأسماءِ؛ إذ كانت أحكامُ الدُّنيا والآخرةِ باسمِ الإيمانِ والإسلامِ، والكُفرِ والنِّفاقِ)
[212] يُنظر: ((الإيمان)) (309). .
وفيما يلي نَصُّ عِباراتِهم وصَريحُ كَلِماتِهم على تأصيلِ هذه القاعِدةِ:
أوَّلًا: النَّفيُ المُطلَقُ للإيمانِ الذي ليس معه عَمَلٌوالمقصودُ بالعَمَلِ هو العَمَلُ الظَّاهِرُ مع عَمَلِ القَلْبِ، لا عَمَلُ القَلْبِ وَحْدَه.
1- قال
الحَسَنُ البَصريُّ: (الإيمانُ قَولٌ، ولا قَولَ إلَّا بعَمَلٍ، ولا قَولَ وعَمَلَ إلَّا بنيَّةٍ، ولا قَولَ وعَمَل ونِيَّةٍ إلَّا بسُنَّةٍ)
[213] أخرجه الآجري في ((الشريعة)) (258)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1090). .
2- قال
سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: (الإيمانُ قَولٌ وعمَلٌ، وإنَّه لا يكونُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ)
[214] أخرجه الآجري في ((الشريعة)) (239)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1057). .
3- قال
الآجُرِّيُّ: (بابُ القَولِ بأنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقَلبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، لا يكونُ مُؤمِنًا إلَّا بأن تجتَمِعَ فيه الخِصالُ الثَّلاثُ)
[215] يُنظر: ((الشريعة)) (2/611). .
وقال أيضًا: (قد قال تعالى في كتابِه، وبَيَّن في غيِر موضِعٍ أنَّ الإيمانَ لا يكونُ إلَّا بعَمَلٍ، وبَيَّنَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، خِلافَ ما قالت
المُرجِئةُ الذين لَعِب بهم
الشَّيطانُ)
[216] يُنظر: ((الشريعة)) (2/614). .
وقال أيضًا: (فالأعمالُ -رحِمَكم اللهُ- بالجوارحِ: تصديقٌ عن الإيمانِ بالقَلبِ واللِّسانِ، فمن لم يصدِّقِ الإيمانَ بعَمَلِ جوارِحِه، مِثلُ: الطَّهارةِ، والصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصِّيامِ والحَجِّ وأشباهٍ لهذه، ورَضِيَ من نَفْسِه بالمعرفةِ والقَولِ؛ لم يكُنْ مُؤمِنًا، ولم تنفَعْه المعرفةُ والقَولُ، وكان تركُه للعَمَلِ تكذيبًا لإيمانِه، وكان العَمَلُ بما ذكَرْناه تصديقًا لإيمانِه، وباللهِ التوفيقُ)
[217] يُنظر: ((الشريعة)) (2/614). .
وفي كلامِ
الآجُرِّيِّ هذا بيانٌ واضِحٌ بأنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ المقبولَ عند اللهِ، المانِعَ مِن الخُلودِ في النَّارِ، الموجِبَ لدُخولِ الجنَّةِ: لا يمكِنُ إلَّا بعَمَلِ الجوارحِ الظَّاهِرةِ بعد عَمَلِ القَلبِ واللِّسانِ، وأنَّه يستحيلُ أن يدَّعِيَ الإنسانُ الإيمانَ بلِسانِه، ولم يأتِ بالعَمَلِ؛ فإنَّ ذلك -كما قال- تكذيبٌ لإيمانِه، كما أنَّ العَمَلَ تصديقٌ لصِحَّةِ إيمانِه وما أَقَرَّ به على لِسانِه.
4- قال
ابنُ بطَّةَ: (بابُ بيانِ الإيمانِ وفَرْضِه، وأنَّه تصديقٌ بالقَلْبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ والحَرَكاتِ، لا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا إلَّا بهذه الثَّلاثِ)
[218] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/760). .
وقال أيضًا: (في مواضِعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ، أمَرَ اللهُ فيها بإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصيامِ شَهرِ رَمَضانَ، والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، وإنفاقِ الأموالِ، وبَذْلِ النَّفسِ في ذلك، والحَجِّ بحَرَكةِ الأبدانِ، ونَفَقةِ الأموالِ؛ فهذا كُلُّه من الإيمانِ، والعَمَلُ به فَرضٌ، لا يكونُ المؤمِنُ إلَّا بتأدِيَتِه)
[219] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/763). .
ثانيًا: قَولُهم: (لا يَصلُحُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ):روى ذلك عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ بسَنَدِه في كتابِ السُّنَّةِ عن الأئمِة: محمَّدِ بنِ مُسلمٍ الطَّائفيِّ، و
فُضَيلِ بنِ عِياضٍ، و
الثَّوريِّ [220] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/337). .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ: (لا يَصلُحُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ)
[221] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/340). .
ثالثًا: قَولُهم: (لا يَستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالعَمَلِ): 1- قال
الأوزاعيُّ: (لا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالقَولِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ إلَّا بالعَمَلِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ إلَّا بموافَقةٍ للسُّنَّةِ)
[222] يُنظر: ((شرح أصول أهل السنة)) للالكائي (5/956)، ((الإبانة الكبرى)) (2/807). .
2- قال داودُ بنُ أبي هندٍ: (لا يستقيمُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ، ولا قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ إلَّا بموافَقةِ السُّنَّةِ)
[223] يُنظر: ((أصول السنة)) لابن أبي زمنين (209). .
3- قال
الثَّوريُّ: (كان الفُقَهاءُ يقولون: لا يستقيمُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ، ولا يستقيمُ قَولٌ وعمَلٌ إلَّا بنيَّةٍ، ولا يستقيمُ قَولٌ وعمَلٌ ونيَّةٌ إلَّا بموافَقةِ السُّنَّةِ)
[224] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/807). .
رابعًا: قَولُهم: (لا ينفَعُ الإيمانُ إلَّا بعَمَلٍ):1- قال
الحَسَنُ البَصْريُّ: (الإيمانُ كَلامٌ، وحَقيقتُه العَمَلُ، فإنْ لم يحقِّقِ القَولَ بالعَمَلِ لم ينفَعْه القَولُ)
[225] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/634). .
2- قال
الزُّهْريُّ: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ قرينانِ، لا ينفَعُ أحَدُهما إلَّا بالآخَرِ)
[226] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (231). .
3- قال الحميدي: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ، لا ينفَعُ قَولٌ إلَّا بعَمَلٍ، ولا عَمَلٌ وقَولٌ إلَّا بنيَّةٍ، ولا قَولٌ وعَمَلٌ ونيَّةٌ إلَّا بسُنَّةٍ)
[227] يُنظر: ((أصول السنة آخر مسند الحميدي)) (2/546). .
3- قال
ابنُ بطّةَ: (اعلَموا -رَحِمكم الله- أنَّ الله عزَّ وجَلَّ لم يُثْنِ على المؤمنين ولم يَصِفْ ما أعَدَّ لهم من النعيمِ المقيمِ والنَّجاةِ مِن العذابِ الأليمِ، ولم يخبِرْهم برِضاه عنهم؛ إلَّا بالعَمَلِ الصَّالحِ، والسَّعيِ الرَّابِحِ، وقَرْنِ القَولِ بالعَمَلِ، والنيَّةِ بالإخلاصِ، حتى صار اسمُ الإيمانِ مُشتَمِلًا على المعاني الثَّلاثةِ، لا ينفَصِلُ بَعضُها مِن بَعضٍ، ولا ينفَعُ بعضُها دونَ بَعضٍ، حتى صار الإيمانُ قَولًا باللِّسانِ، وعَمَلًا بالجوارحِ، ومَعرفةً بالقَلْبِ، خِلافًا لقَولِ
المُرجِئةِ الضَّالَّةِ الذين زاغت قُلوبُهم، وتلاعبت الشياطينُ بعُقولِهم، وذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ ذلك كُلَّه في كتابِه، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سُنَّتِه)
[228] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/779). .
خامِسًا: قَولُهم: (الإيمانُ لا يُجزِئُ إلَّا بالعَمَلِ):1- قال
الشَّافعيُّ: (كان الإجماعُ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين ومَن بَعْدَهم ممَّن أدرَكْناهم أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ، لا يُجزئُ واحِدٌ من الثلاثةِ إلَّا بالآخَرِ)
[229] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/956). .
2- قال
الآجُريُّ: (الإيمانُ: مَعرِفةٌ بالقَلبِ تصديقًا يقينًا، وقَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، لا يكونُ مُؤمِنًا إلَّا بهذه الثَّلاثةِ، لا يجزِئُ بعضُها عن بعضٍ)
[230] يُنظر: ((الشريعة)) (2/686). .
وقال أيضًا: (اعلَموا -رَحِمَنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّ الذي عليه عُلَماءُ المُسلِمين: أنَّ الإيمانَ واجِبٌ على جميعِ الخَلْقِ، وهو تصديقٌ بالقَلبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، ثمَّ اعلَموا أنَّه لا تُجزِئُ المعرِفةُ بالقَلبِ والتصديقُ إلَّا أن يكونَ معه الإيمانُ باللِّسانِ نُطقًا، ولا تُجزِئُ مَعرِفةٌ بالقَلبِ ونُطقُ اللِّسانِ حتى يكونَ عَمَلُ الجوارحِ، فإذا كَمَلَت فيه هذه الخِصالُ الثَّلاثُ كان مؤمنًا. دَلَّ على ذلك القرآنُ والسُّنَّةُ وقَولُ عُلَماءِ المُسلِمينَ)
[231] يُنظر: ((الشريعة)) (2/611). .
3- قال
ابنُ بطَّةَ: (اعلَموا -رَحِمَكم اللهُ- أنَّ اللهَ -جَلَّ ثناؤه وتقَدَّست أسماؤُه- فرَضَ على القَلبِ المعرفةَ به، والتصديقَ له ولرُسُلِه ولكُتُبِه، وبكُلِّ ما جاءت به السُّنَّةُ، وعلى الألسُنِ النُّطقُ بذلك، والإقرارُ به قولًا، وعلى الأبدانِ والجوارحِ العَمَلُ بكُلِّ ما أمر به وفَرَض من الأعمالِ، لا تجزِئُ واحِدةٌ من هذه إلَّا بصاحِبَتِها، ولا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا إلَّا بأن يجمَعَها كُلَّها، حتى يكونَ مُؤمِنًا بقَلْبِه، مُقِرًّا بلسانِه، عامِلًا مجتَهِدًا بجوارِحِه، ثمَّ لا يكونُ أيضًا مع ذلك مؤمِنًا حتى يكونَ مُوافِقًا للسُّنَّةِ في كُلِّ ما يقولُه ويَعمَلُه، مُتَّبِعًا للكِتابِ والعِلمِ في جميعِ أقوالِه وأعمالِه، وبكُلِّ ما شرَحْتُه لكم نَزَل به القرآنُ، ومضت به السُّنَّةُ، وأجمع عليه عُلَماءُ الأُمَّةِ)
[232] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/761). .
سادِسًا: قَولُهم: (لا يُقبَلُ الإيمانُ إلَّا بعَمَلٍ):1- قال
الأوزاعيُّ: (كان من مضى ممَّن سلَفَ لا يُفَرِّقون بين الإيمانِ والعَمَلِ؛ العَمَلُ من الإيمانِ، والإيمانُ من العَمَلِ، وإنما الإيمانُ اسمٌ جامِعٌ، كما جمع هذه الأديانَ اسمُها، وتصديقُه العَمَلُ، فمن آمَن بلِسانِه، وعرَف بقَلْبِه، وصَدَّق ذلك بعَمَلِه؛ فذلك العروةُ الوُثقى التي لا انفِصامَ لها، ومن قال بلِسانِه، ولم يَعرِفْ بقَلْبِه، ولم يصَدِّقْ بعَمَلِه؛ لم يُقبَلْ منه، وكان في الآخِرةِ مِن الخاسِرينَ)
[233] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/956). .
2- قال
ابنُ بطَّةَ (... وأنَّ اللهَ لا يَقبَلُ قَولًا إلَّا بعَمَلٍ، ولا عَمَلًا إلَّا بقَولٍ)
[234] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/795). .
سابعًا: نفيُ صِحَّةِ الإيمانِ بلا عَمَلٍ:قال
الآجُريُّ: (لا يصِحُّ الدِّينُ إلَّا بالتصديقِ بالقَلْبِ، والإقرارِ باللِّسانِ، والعَمَلِ بالجوارحِ، مِثلُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصِّيامِ والحَجِّ والجِهادِ، وما أشبَهَ ذلك)
[235] يُنظر: ((الشريعة)) (2/ 556). .
ثامِنًا: من تعبيراتِ السَّلَفِ نَفيُ الإيمانِ بلا عَمَلٍ، وأنَّه لا بُدَّ فيه من تصديقِه بالعَمَلِ:قال
الحَسَنُ البَصريُّ: (إنَّ الإيمانَ ليس بالتحَلِّي ولا بالتمَنِّي، إنما الإيمانُ ما وَقَر في القَلبِ، وصَدَّقه العَمَلُ)
[236] أخرجه ابن أبي شيبة (30351)، وعبدالله بن أحمد في ((زوائد الزهد)) (1483). .