الفَصلُ الثَّاني: هل الإسلامُ يَزيدُ ويَنقُصُ؟
قال
ابنُ رجب: (إذا أُفرِدَ كُلٌّ من الإسلامِ والإيمانِ بالذِّكرِ، فلا فَرْقَ بينهما حينَئذٍ، وإن قُرِنَ بين الاسمينِ كان بينهما فَرقٌ.
والتحقيقُ في الفَرْقِ بينهما: أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القَلْبِ وإقرارُه ومعرفتُه، والإسلامَ: هو استسلامُ العَبدِ للهِ، وخُضوعُه وانقيادُه له، وذلك يكونُ بالعَمَلِ، وهو الدِّينُ، كما سَمَّى اللهُ في كتابِه الإسلامَ دينًا، وفي حديثِ
جِبريلَ سَمَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدُلُّ على أنَّ أحَدَ الاسمينِ إذا أُفرِدَ دَخَل فيه الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بينهما حيثُ قُرِن أحَدُ الاسمينِ بالآخَرِ، فيكونُ حينئذٍ المرادُ بالإيمانِ جِنسُ تصديقِ القَلْبِ، وبالإسلامِ: جِنسُ العَمَلِ)
[561] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/107). .
فالإسلامُ على ضوءِ هذا التعريفِ المتقَدِّم يَزيدُ كما يَزيدُ الإيمانُ ويَنقُصُ كما يَنقُصُ، أمَّا على الإطلاقِ الأوَّلِ عند الإفرادِ فظاهِرٌ؛ لأنَّه أصبح مرادِفًا للإيمانِ، فله حُكمُه تمامًا من حيثُ قَبولُ الزِّيادةِ والنُّقصانِ، وأمَّا على الإطلاقِ الثَّاني حالَ اجتِماعِه مع الإيمانِ حيث يكونُ المرادُ بالإسلامِ الأعمالَ الظَّاهِرةَ، فالزيادةُ والنُّقصانُ في هذا لا إشكالَ فيهما البتَّةَ؛ لأنَّ الأعمالَ تَزيدُ وتَنقُصُ، وتَقِلُّ وتَكثُرُ وتتفاضَلُ، وهذا الأمرُ ظاهِرٌ أيضًا.
ويدُلُّ على ذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المسلِمُ من سَلِمَ المُسلِمون من لسانِه ويَدِه )) [562] أخرجه مطولاً البخاري (10) واللفظ له، ومسلم (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. فالألِفُ واللامُ في قَولِه:
((المسلِمِ)) للكَمالِ، نحوُ: زيدٌ الرَّجُلُ، أي: الكامِلُ في الرجوليَّةِ، وإثباتُ اسمِ الشَّيءِ على معنى إثباتِ الكَمالِ له مستفيضٌ في كلامِ العَرَبِ
[563] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/53). .
قال
النَّوويُّ: ( قالوا: معناه المسلِمُ الكامِلُ، وليس المرادُ نَفْيَ أصلِ الإسلامِ عمَّن لم يكُنْ بهذه الصِّفةِ، بل هذا كما يقالُ: العِلمُ ما نفع، أو العالمُ زيدٌ، أي: الكامِلُ أو المحبوبُ، وكما يقالُ: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبِلُ، فكُلُّه على التفضيلِ لا للحَصْرِ، ويدُلُّ على ما ذكَرْناه من معنى الحديثِ قَولُه: أيُّ المُسلِمين خيرٌ؟ قال:
((من سَلِمَ المُسلِمون من لسانِه ويَدِه )) [564] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/10). . وقد بوَّب
النوويُّ لهذا الحديثِ في صحيحِ
مُسلمٍ بـقَولِه: (بابُ بيانِ تفاضُلِ الإسلامِ وأيُّ أُمورِه أفضَلُ). ودلالةُ الحديثِ للبابِ ظاهِرةٌ.
وأورد في البابِ نَفْسِه حديثَ
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو أنَّ رَجُلًا سأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال:
((تُطعِمُ الطَّعامَ، وتقرَأُ السَّلامَ على من عَرَفْتَ ومن لم تَعرِفْ )) [565] أخرجه البخاري (12)، ومسلم (39). .
فإطعامُ الطَّعامِ وبَذْلُ السَّلامِ، الواردانِ في هذا الحديثِ، وكَفُّ الأذى الواردُ في الحديثِ الذي قَبْلَه: كُلُّها من أعمالِ الإسلامِ ومن خصالِه الواجِبةِ، والإسلامُ يَزيدُ بزيادتِها، ويَنقُصُ بنَقْصِها، فهذا ونحوُه ممَّا يدُلُّ على أنَّ الإسلامَ يَزيدُ ويَنقُصُ.
وكذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بُنِيَ الإسلامُ على خَمسٍ: شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وحَجِّ البَيتِ، وصَومِ رَمَضانَ )) [566] أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) واللفظ له من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. يدُلُّ على تفاضُلِ الإسلامِ، فإنَّ من وفى بهذه الأعمالِ وأتى بها على الوَجْهِ الأكمَلِ، كَمَل إيمانُه، ومن نَقَص منها شيئًا نَقَص إيمانُه.
ولهذا قال
ابنُ تيميَّةَ في مناقشتِه ل
محمَّدِ بنِ نَصرٍ المروزيِّ فيما ادَّعاه من ترادُفِ الإسلامِ والإيمانِ في كُلِّ حالٍ:
(أمَّا ما ذكره من أنَّ الإسلامَ يَنقُصُ كما يَنقُصُ الإيمانُ، فهذا أيضًا حَقٌّ كما دَلَّت عليه الأحاديثُ الصَّحيحةُ؛ فإنَّ مَن نَقَص من الصَّلاةِ والزكاة أو الصَّومِ أو الحَجِّ شيئًا فقد نَقَص من إسلامِه بحسَبِ ذلك)
[567] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/414). . وبالمقابِلِ من كَمَّل هذه الأمورَ وأتى بها على وَجْهِها زاد إسلامُه وكَمَل.
إذَنِ الإسلامُ عند الإفرادِ يَزيدُ ويَنقُصُ لاشتمالِه على مراتِبِ الدِّينِ كُلِّه، وكذلك عند اجتماعِه مع الإيمانِ فإنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ؛ لأنَّه يُرادُ به الأعمالُ الظَّاهِرةُ.
أمَّا من قال: إنَّ الإسلامَ هو الكَلِمةُ، وأراد به أصلَ الإسلامِ أو الشَّهادتين أو القولَ، فلا يُقبَلُ فيه الزيادةُ والنُّقصانُ، وهذا منقولٌ عن
الزُّهريِّ؛ حيث قال: (فنرى أنَّ الإسلامَ الكَلِمةُ، والإيمانَ العَمَلُ)، وقال بقَولِه هذا من العُلَماءِ: حَمَّادُ بنُ زيدٍ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ذئبٍ، و
أحمدُ بنُ حَنبلٍ [568]يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/893-895). .
فعلى هذا القَولِ: الإسلامُ لا يَقبَلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ؛ قال
ابنُ تيميَّةَ: (الإسلامُ الذي لا يُستثنى فيه: الشَّهادتان باللِّسانِ فقط، فإنَّها لا تزيدُ ولا تَنقُصُ فلا استثناءَ فيها)
[569] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/259). ويُنظر: ((زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه)) لعبدالرزاق البدر (ص: 267 وما بعدها). .