المَبحثُ السَّادِسُ: حُكمُ تاركِ الأركانِ الأربعةِ
اختلف أهلُ العِلمِ في تكفيرِ تارِكِ الأركانِ الأربعةِ التي سوى الشَّهادتينِ، أو بَعْضِها، مع الإقرارِ بوُجوبِها.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد اتَّفَق المُسلِمون على أنَّه من لم يأتِ بالشَّهادتينِ فهو كافِرٌ، وأمَّا الأعمالُ الأربعةُ فاختَلَفوا في تكفيرِ تاركِها، ونحن إذا قُلْنا: أهلُ السُّنَّةِ متَّفِقون على أنَّه لا يُكفَّرُ بالذَّنبِ، فإنَّما نريدُ به المعاصِيَ، كالزِّنا والشُّربِ، وأمَّا هذه المباني ففي تكفيرِ تاركِها نزاعٌ مشهورٌ، وعن
أحمَدَ في ذلك نزاعٌ، وإحدى الرِّواياتِ عنه: أنَّه يُكفَّرُ من ترك واحدةً منها، وهو اختيارُ أبي بكرٍ وطائفةٍ مِن أصحابِ
مالِكٍ كابنِ حبيبٍ، وعنه روايةٌ ثانيةٌ: لا يُكفَّرُ إلَّا بتَرْكِ الصَّلاةِ والزكاةِ فقط، وروايةٌ ثالثةٌ: لا يُكفَّرُ إلَّا بتركِ الصَّلاةِ والزكاةِ إذا قاتَلَ الإمامُ عليها، ورابعةٌ: لا يُكفَّرُ إلَّا بتركِ الصَّلاةِ، وخامِسةٌ: لا يُكفَّرُ بتَرْكِ شيءٍ منهنَّ، وهذه أقوالٌ معروفةٌ للسَّلَفِ)
[554] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/302). .
وقال
ابنُ رجب: (وأمَّا إقامُ الصَّلاةِ فقد وردت أحاديثُ متعَدِّدةٌ تدُلُّ على أنَّ من تركها فقد خرج من الإسلامِ ... وذهب إلى هذا القَولِ جماعةٌ من السَّلَفِ والخَلَفِ، وهو قَولُ
ابنِ المبارَكِ و
أحمدَ و
إسحاقَ، وحكى
إسحاقُ عليه إجماعَ أهلِ العِلمِ، وقال
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المروزيُّ: هو قَولُ جمهورِ أهلِ الحديثِ، وذهب طائفةٌ منهم إلى أنَّ من ترك شيئًا من أركانِ الإسلامِ الخَمسةِ عَمدًا أنَّه كافِرٌ بذلك، ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ ونافِعٍ والحَكَمِ، وهو روايةٌ عن
أحمدَ اختارها طائفةٌ من أصحابِه، وهو قَولُ ابنِ حبيبٍ من المالِكيَّةِ، ... وعن
أحمدَ روايةٌ: أنَّ تَرْكَ الصلاةِ والزكاةِ خاصَّةً كُفرٌ دونَ الصِّيامِ والحَجِّ)
[555] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/145-148). .
وقال أيضًا: (وأمَّا هذه الخمسُ فإذا زالت كُلُّها سقط البنيانُ ولم يَثبُتْ بعد زوالِها، وكذلك إن زال منها الرُّكنُ الأعظَمُ، وهو الشَّهادتانِ، وزوالُهما يكونُ بالإتيانِ بما يضادُّهما ولا يجتَمِعُ معهما. وأمَّا زوالُ الأربَعِ البَواقي فاختَلَف العُلَماءُ: هل يزولُ الاسمُ بزوالها أو بزوالِ واحدٍ منها أم لا يَزولُ بذلك، أم يُفَرَّقُ بين الصَّلاةِ وغيرِها، فيزولُ بتركِ الصَّلاةِ دون غيرها، أم يختصُّ زوالُ الإسلامِ بتَرْكِ الصلاةِ والزكاةِ خاصَّةً؟ وفي ذلك اختلافٌ مشهورٌ، وهذه الأقوالُ كُلُّها محكيَّةٌ عن
الإمامِ أحمد، ... وأكثَرُ أهلِ الحديثِ على أنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ كُفرٌ دونَ غَيرِها من الأركانِ، كذلك حكاه
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المروزيُّ وغيرُه عنهم. وممَّن قال بذلك:
ابنُ المبارَكِ، و
أحمدُ -في المشهورِ عنه-، و
إسحاقُ، وحكى عليه إجماعَ أهلِ العِلمِ -كما سبق-، وقال أيوبُ : تَرْكُ الصَّلاةِ كُفرٌ لا يُختَلَفُ فيه. وقال عبدُ اللهِ بنُ شَقيقٍ: كان أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَرَون شيئًا مِن الأعمالِ تَرْكُه كُفْرٌ غيرَ الصَّلاةِ
[556] أخرجه الترمذي (2622)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (137)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (948). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2622)، وصحَّح إسناده النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/245)، والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/819)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/16)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (9/79). .
ومن خالف في ذلك جعل الكُفرَ هنا غيرَ ناقِلٍ عن المِلَّةِ، كما في قَولِه تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] )
[557] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/20-24). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (أركانُ الإسلامِ الخمسةُ أوَّلها الشَّهادتان، ثم الأركانُ الأربعةُ؛ فالأربعةُ إذا أقَرَّ بها، وتركها تهاوُنًا، فنحن وإن قاتَلْناه على فِعْلِها، فلا نُكَفِّرُه بتَرْكِها، والعلماءُ اختلفوا في كُفرِ التاركِ لها كَسَلًا من غيرِ جُحودٍ، ولا نُكَفِّرُ إلَّا ما أجمع عليه العُلماءُ كُلُّهم، وهو: الشَّهادتان. وأيضًا: نُكَفِّرُه بعد التعريفِ إذا عَرَف وأنكَرَ)
[558] يُنظر: ((الدرر السنية)) (1/102). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (أمَّا الصَّلاةُ فمن أخَّرها عن وَقْتِها بهذه الصِّفةِ فإنَّه يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِل حدًّا؛ لِقَولِه تعالى:
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] ، وحديثِ:
((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ )). الحديث وغيره.
وأمَّا الزكاةُ فإن كان مانِعُها ممَّن لا شوكةَ له أخذها الإمامُ منه قَهرًا ونَكَّلَه بأخذِ شَيءٍ مِن مالِه؛… وإن كانوا جماعةً ولهم شوكةٌ وجب على الإمامِ قِتالُهم حتى يؤدُّوها؛ للآياتِ والأحاديثِ السَّابقةِ وغَيرِها، وفَعَله
أبو بكرٍ والصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين.
وأمَّا الصَّومُ فلم يَرِدْ فيه شيءٌ، ولكِنْ يؤَدِّبُه الإمامُ أو نائبُه بما يكون زجرًا له ولأمثالِه.
وأمَّا الحَجُّ فكُلُّ عُمرِ العَبدِ وَقتٌ له لا يفوتُ إلَّا بالموتِ، والواجِبُ فيه المبادرةُ، وقد جاء الوعيدُ الأُخرويُّ في التهاوُنِ فيه، ولم تَرِدْ فيه عقوبةٌ خاصَّةٌ في الدُّنيا)
[559] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 15). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الصَّحيحُ أنَّه لا يَكفُرُ إلَّا بتَرْكِ الشَّهادتين والصَّلاةِ، وإن كان رُوِيَ عن
الإمامِ أحمدَ أنَّ جميعَ أركانِ الإسلامِ يَكفُرُ بتَرْكِها، لكِنَّ الصَّحيحَ خِلافُ ذلك)
[560] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (9/78). .
والمقصودُ من ذِكرِ هذه المسألةِ بيانُ أنَّ قَولَ السَّلَفِ في مسألةِ تَرْكِ جِنسٍ العمَلِ يختَلِفُ عن قولِهم في مسألةِ تَرْكِ الأركانِ؛ فالأوَّلُ أمرٌ لم يخالِفْ فيه منهم أحدٌ؛ لأنَّه مقتضى إجماعِهم على حقيقةِ الإيمانِ، وأنَّه قَولٌ وعَمَلٌ، أمَّا الثَّاني فهو من مسائِلِ الاجتهادِ، وإن كان بين الأمرينِ عَلاقةٌ.