الفَصلُ الثاني: الإيمانُ الواجِبُ
الإيمانُ الواجِبُ، ويُسَمَّى: الإيمانَ المفَصَّلَ، أو الإيمانَ المُطلَقَ، أو حقيقةَ الإيمانِ، أو الكمالَ الواجِبَ.
وهو ما زاد على أصلِ الإيمانِ مِن فِعلِ جميعِ الطَّاعاتِ واجتنابِ جميعِ المحَرَّماتِ.
وقد رَتَّب اللهُ تعالى على هذا الإيمانِ الواجِبِ الوَعدَ بالجنَّةِ، والعِتقَ مِنَ النَّارِ، والوعيدَ لِمن قَصَّر فيه بتَرْكِ واجبٍ أو فِعلِ محَرَّمٍ، وفي هذا تقَعُ الزِّيادةُ والنُّقصانُ، والفَوزُ والخُسرانُ، فلا يُعطى لأحَدٍ اسمُ المُؤمِن المطلَق إلَّا لِمن كَمَل إيمانُه بفِعلِ جميعِ الطَّاعاتِ وتَرْكِ جميعِ المحَرَّماتِ
[637] يُنظر: ((قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) لعادل الشيخاني (ص: 399). .
قال الله تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
قال
السعديُّ: (لَمَّا كان الإيمانُ قِسمينِ: إيمانًا كامِلًا يترتَّبُ عليه المدحُ والثَّناءُ، والفَوزُ التَّامُّ، وإيمانًا دون ذلك، ذَكَر الإيمانَ الكامِلَ، فقال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألفُ واللامُ للاستغراقِ لشرائِعِ الإيمانِ...
أُولَئِكَ الذين اتَّصَفوا بتلك الصِّفاتِ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا؛ لأنَّهم جمَعوا بين الإسلامِ والإيمانِ، بين الأعمالِ الباطِنةِ والأعمالِ الظَّاهرةِ، بين العِلمِ والعَمَلِ، بين أداءِ حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ عِبادِه، وقَدَّم تعالى أعمالَ القلوبِ؛ لأنَّها أصلٌ لأعمالِ الجوارحِ، وأفضَلُ منها، وفيها دليلٌ على أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ، فيَزيدُ بفِعلِ الطَّاعةِ، ويَنقُصُ بضِدِّها)
[638] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 315). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 14، 15].
قال ابنُ أبي العِزِّ: (يعني -واللهُ أعلَمُ- أنَّ المُؤمِنين الكامِلي الإيمانِ هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم مُنتَفٍ عنكم الإيمانُ الكامِلُ)
[639] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/491). .
وقال اللهُ تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].
قال
ابنُ كثيرٍ: (وأمَّا الكلامُ على تفسيرِ هذه الآيةِ، فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ المُؤمِنين أوَّلًا بالتوجُّهِ إلى بيتِ المقْدِسِ، ثمَّ حَوَّلهم إلى الكعبةِ، شَقَّ ذلك على نفوسِ طائفةٍ مِن أهلِ الكتابِ وبَعضِ المُسلِمين، فأنزل اللهُ تعالى بيانَ حِكمتِه في ذلك، وهو أنَّ المرادَ إنَّما هو طاعةُ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وامتثالُ أوامِرِه، والتوَجُّهُ حيثما وَجَّه، واتِّباعُ ما شَرَع، فهذا هو البِرُّ والتقوى والإيمانُ الكامِلُ)
[640] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/485). .
وقد بشَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ من أتى بالإيمانِ الواجِبِ بحيث أدَّى ما عليه من الواجباتِ دون الإتيانِ بالمستحَبَّاتِ، كما في حديثِ النَّجدي، الذي قال لَمَّا أخبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يجِبُ عليه: واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أفلَحَ إن صَدَق)) [641] أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) مطولاً من حديثِ طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولَمَّا قال الأعرابيُّ: (والذي نَفْسي بيَدِه لا أزيدُ على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقُصُ منه). قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من سَرَّه أن ينظُرَ إلى رجُلٍ من أهلِ الجَنَّةِ فلْيَنظُرْ إلى هذا )) [642] أخرجه البخاري (1397)، ومسلم (14) مطولاً مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
المروزيُّ: (المُؤمِنون الذين زكَّاهم وأثنى عليهم، ووعَدَهم بالجنَّةِ هم الذين أكمَلوا إيمانَهم باجتنابِ كُلِّ المعاصي، واجتنابِ الكبائِرِ)
[643] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/567). .
وقال
ابنُ مَنْدَه: (لا يكونُ مُستكمِلًا له حتى يأتي بفَرْعِه، وفَرْعِه المفترَضِ عليه، أو الفرائضِ واجتنابِ المحارمِ)
[644] يُنظر: ((الإيمان)) (1/331). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخ: (المرتبةُ الثَّانيةُ من مراتبِ الدِّينِ: مرتبةُ أهلِ الإيمانِ المُطلَقِ، الذين كَمَل إسلامُهم وإيمانُهم بإتيانِهم ما وجب عليهم، وتَرْكِهم ما حَرَّم اللهُ عليهم، وعَدَمِ إصرارِهم على الذُّنوبِ، فهذه هي المرتبةُ الثَّانيةُ التي وعد اللهُ أهْلَها بدُخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ؛ لِقَولِه تعالى:
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد: 21] ، فهؤلاء اجتَمَعت لهم الأعمالُ الظَّاهرةُ والباطِنةُ، ففَعَلوا ما أوجَبَه اللهُ عليهم، وتَرَكوا ما حَرَّمه اللهُ عليهم، وهم السُّعَداءُ أهلُ الجَنَّةِ)
[645] يُنظر: ((الإيمان والرد على أهل البدع)) ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) (ص: 4). .
فإذا قصَّر في الواجِباتِ أو ارتكب الموبِقاتِ فلا يَستَحِقُّ اسمَ المُؤمِنِ على الإطلاقِ، بل يُعتَبَرُ من أهلِ الوعيدِ، وإيمانُه ناقِصٌ.
قال
ابنُ الصَّلاحِ: (لا يَقَعُ اسمُ المُؤمِنِ المطلَق على من ارتكَبَ كبيرةً أو بَدَّل فريضةً؛ لأنَّ اسمَ الشَّيءِ مطلقًا يقَعُ على الكامِلِ منه، ولا يُستعمَلُ في النَّاقِصِ ظاهِرًا إلَّا بقيدٍ)
[646] يُنظر: ((صيانة صحيح مسلم)) (ص: 134). .
والمقصودُ بإطلاقِ الاسمِ على ناقصِ الإيمانِ بقَيدٍ هو: قَولُ أهلِ السُّنَّةِ المعروفُ: (مُؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه).
قال
ابنُ تيميَّةَ: (من أتى بالإيمانِ الواجبِ استحَقَّ الثَّوابَ، ومن كان فيه شعبةُ نفاقٍ وأتى بالكبائِرِ، فذاك من أهلِ الوعيدِ، وإيمانُه ينفَعُه اللهُ به، ويُخرجُه به من النَّارِ، ولو أنَّه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ، لكِنْ لا يستحِقُّ به الاسمَ المطلَقَ المعَلَّقَ به وَعدُ الجنَّةِ بلا عَذابٍ)
[647] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 275). .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببُهتانٍ تَفترونَه بين أيديكم وأرجُلِكم، ولا تَعْصُوا في معروفٍ، فمَن وفى منكم فأجرُه على اللهِ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقِبَ في الدُّنيا فهو كفَّارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَرَه اللهُ فهو إلى اللهِ؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقَبَه )) [648] أخرجه البخاري (18) واللَّفظُ له، ومسلم (1709). .
وارتكابُ الصَّغائِرِ لا يَنقُصُ المرءَ مِن مرتبةِ الإيمانِ الواجِبِ، وإن كان مذمومًا بالمعصيَةِ، ويُخشى عليه العذابُ في الدُّنيا والآخرةِ بسَبَبِها، لا سِيَّما إن أصَرَّ عليها أو أكثَرَ مِن أفرادِها.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم ينْفِه إلَّا عن صاحِبِ كبيرةٍ، وإلَّا فالمُؤمِنُ الذي يفعَلُ الصَّغيرةَ، هي مُكفَّرة عنه بفِعْلِه للحَسَناتِ، واجتنابِه للكبائِرِ، لكِنَّه ناقِصُ الإيمانِ عَمَّن اجتنب الصَّغائِرَ، فما أتى بالإيمانِ الواجِبِ ولكِنَّه خَلَطه بسَيِّئاتٍ كُفِّرَت عنه بغيرها، ونَقَص بذلك درجَتَه عمَّن لم يأتِ بذلك)
[649] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/353). .