المَبحثُ الأوَّلُ: أدِلَّةُ أهلِ السُّنَّةِ على هذا الأصلِ
استدَلَّ أهلُ السُّنَّةِ على كَونِ الشَّخصِ الواحِدِ قد يجتَمِعُ فيه الإيمانُ وبَعضُ شُعَبِ الكُفرِ أو النِّفاقِ، بأدِلَّةٍ من الكِتابِ والسُّنَّةِ، وبما هو واقِعٌ مُشاهَدٌ لا يخفى على أحَدٍ، ومنها:
- قَولُ اللهِ تعالى:
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران: 167] .
فأثبت لهم إيمانًا وكُفرًا، غيرَ أنَّهم أقرَبُ إلى الكُفرِ.
قال
ابنُ كثيرٍ: (استَدَلُّوا به على أنَّ الشَّخصَ قد تتقَلَّبُ به الأحوالُ، فيكونُ في حالٍ أقرَبَ إلى الكُفْرِ، وفي حالٍ أقرَبَ إلى الإيمانِ)
[869] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 160). .
وقال
السعديُّ: (في هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ العبدَ قد يكونُ فيه خَصلةُ كُفرٍ، وخَصلةُ إيمانٍ، وقد يكونُ إلى أحَدِهما أقرَبَ منه إلى الأُخرى)
[870] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 156). .
- ومن الأدِلَّة قَولُه سُبحانَه:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أثبت لهم الإيمانَ به مع مقارنةِ الشِّركِ، فإن كان مع هذا الشِّركِ تكذيبٌ لرُسُلِه، لم ينفَعْهم ما معهم من الإيمانِ باللهِ، وإن كان معه تصديقٌ لرُسُلِه، وهم مُرتَكِبونَ لأنواعٍ مِن الشِّركِ لا تخرِجُهم عن الإيمانِ بالرُّسُلِ وباليومِ الآِخِر، فهؤلاء مستَحِقُّونَ للوَعيدِ أعظَمَ مِن استِحقاقِ أربابِ الكبائِرِ)
[871] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 293). .
- ومنها قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافِقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ، كانت فيه خَصلةٌ مِن النِّفاقِ حتى يَدَعَها : إذا اؤتُمِنَ خان، وإذا حَدَّث كَذَب، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر )) [872] أخرجه البخاري (34) واللفظ له، ومسلم (58) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بن العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهم. .
فقَولُه:
((ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خَصلةٌ مِن النِّفاقِ حتى يَدَعَها )) تدلُّ على اجتماعِ إيمانِ هذا الشَّخصِ مع شُعبةٍ مِن شُعَبِ النِّفاقِ دونَ أن يكونَ مُنافِقًا خالصًا.
- ومنها أحاديثُ الشَّفاعةِ، وأنَّه يَخرُجُ من النَّارِ من كان في قَلْبِه ذَرَّةٌ من إيمانٍ، التي تدُلُّ على أنَّهم استحَقُّوا النَّارَ بمعاصيهم -وهي مِن شُعَبِ الكُفْرِ- ثم استحَقُّوا الجنَّةَ بإيمانِهم
[873] لفظ الحديث: (( ..فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي فيقال: انطلق، فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول يا رب، أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان. فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي. فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل)) أخرجه البخاري (7510) واللفظ له، ومسلم (193) من حديثِ أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه. .
ثمَّ إنَّ الواقِعَ يؤكِّدُ على وجودِ مُؤمِنين اجتَمَع فيهم إيمانٌ ونِفاقٌ، وطاعةٌ وفجورٌ، وسُنَّةٌ وبِدعةٌ، ولا يُنكِرُ هذا إلَّا مُكابِرٌ
[874] يُنظر: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق بن طاهر (ص: 153). .
قال
ابنُ حزمٍ: (هذا الذي أنكروه أي: أهلُ البِدَع لا نُكْرةَ فيه، بل هو أمرٌ موجودٌ مُشاهَدٌ، فمن أحسَنَ مِن وَجهٍ وأساء من وَجهٍ آخَرَ، كمن صَلَّى ثم زنى، فهو محسِنٌ محمودٌ، وَلِيٌّ لله فيما أحسَنَ فيه من صلاةٍ، وهو مُسيءٌ مذمومٌ عدوٌّ للهِ فيما أساء فيه من الزِّنا؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [التوبة: 102] ، فبالضَّرورةِ ندري أنَّ العَمَلَ الذي شَهِدَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أنَّه سَيِّئٌ، فإنَّ عامِلَه فيه مذمومٌ مُسيءٌ عاصٍ للهِ تعالى)
[875] يُنظر: ((الفصل)) (3/ 129). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (الرَّجُلُ قد يجتَمِعُ فيه كُفرٌ وإيمانٌ، وشِركٌ وتوحيدٌ، وتقوى وفجورٌ، ونِفاقٌ وإيمانٌ، هذا من أعظَمِ أصولِ أهلِ السُّنَّةِ، وخالفهم فيه غيرُهم من أهلِ البِدَعِ، كالخوارجِ والمعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ.
ومسألةُ خُروجِ أهلِ الكبائِرِ مِنَ النَّارِ وتخليدِهم فيها مبنيَّةٌ على هذا الأصلِ، وقد دَلَّ عليه القُرآنُ والسُّنَّةُ والفِطرةُ وإجماعُ الصَّحابةِ؛ قال تعالى:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ، فأثبَتَ لهم إيمانًا به سُبحانَه مع الشِّركِ، وقال تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 14] ، فأثبت لهم إسلامًا وطاعةً لله ورَسولِه مع نفيِ الإيمانِ عنهم، وهو الإيمانُ المطلَقُ الذي يستَحِقُّ اسمَه بمُطلَقِه الذين آمنوا باللهِ ورَسولِه ثمَّ لم يرتابوا وجاهَدوا بأموالِهم وأنْفُسِهم في سَبيلِ اللهِ، وهؤلاء ليسوا منافِقين في أصَحِّ القَولَينِ، بل هم مُسلِمون بما معهم من طاعةِ اللهِ ورَسولِه، وليسوا مُؤمِنين وإن كان معهم جزءٌ من الإيمانِ أخرَجَهم من الكُفْرِ)
[876]يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 60). .