الفَصلُ الثَّاني: حُكمُ إيمانِ المُقَلِّدينَ
الذي عليه السَّلَفُ وعامَّةُ الفُقَهاءِ صِحَّةُ إيمانِ المقَلِّدِ، وقد خالف في ذلك بعضُ الطَّوائِفِ، فأوجبوا على كُلِّ أحدٍ النَّظَرَ والاستدلالَ على صِحَّةِ الإيمانِ.
قال
النوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرِّوايةِ الأُخرى:
((أقاتِلُ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويؤمِنوا بي وبما جِئتُ به )) [898] أخرجها مسلم (21) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ... فيه دَلالةٌ ظاهِرةٌ لمذهَبِ المحقِّقين والجماهيرِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ أنَّ الإنسانَ إذا اعتَقَد دينَ الإسلامِ اعتِقادًا جازِمًا لا تردُّدَ فيه، كفاه ذلك، وهو مُؤمِنٌ مِن الموحِّدين، ولا يجِبُ عليه تعَلُّمُ أدِلَّة المتكَلِّمين ومعرفةُ اللهِ تعالى بها، خلافًا لِمن أوجب ذلك وجعَلَه شَرْطًا في كونِه من أهلِ القِبلةِ، وزعم أنَّه لا يكونُ له حُكمُ المُسلِمين إلَّا به، وهذا المذهَبُ هو قَولُ كثيرٍ مِن
المعتَزِلةِ وبعضِ أصحابِنا المتكَلِّمين، وهو خطأٌ ظاهِرٌ؛ فإنَّ المرادَ التَّصديقُ الجازمُ وقد حصل، ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اكتفى بالتصديقِ بما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يشتَرِطِ المعرفةَ بالدَّليلِ؛ فقد تظاهَرَت بهذا أحاديثُ في الصَّحيحينِ يحصُلُ بمجموعِها التواتُرُ بأصلِها، والعِلْمُ القَطعيُّ)
[899] يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/ 210). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (الذين أوجَبوا النَّظَرَ من الطَّوائِفِ العامَّةِ نوعان: أحَدُهما: من يقولُ: إنَّ أكثَرَ العامَّةِ تارِكوه، وهؤلاء على قولينِ: فغُلاتُهم يقولون: إنَّ إيمانَهم لا يَصِحُّ، وأكثَرُهم يقولون: يصِحُّ إيمانُهم تقليدًا، مع كونِهم عُصاةً بتَرْكِ النَّظَرِ، وهذا قَولُ جُمهورِهم، قد ذَكَر هذا طوائِفُ من الحَنَفيَّةِ وغيرِهم، كما ذَكَر من ذَكَر من الحنَفِيَّةِ في شَرحِ الفِقهِ الأكبَرِ، فقالوا: قال
أبو حنيفةَ و
سُفيانُ و
مالِكٌ و
الأوزاعيُّ وعامَّةُ الفُقَهاءِ وأهلُ الحَديثِ بصِحَّةِ إيمانِ المقَلِّدِ، ولكِنَّه عاصٍ بتركِ الاستدلالِ،... والنَّوعُ الثَّاني من مُوجِبي النَّظَرِ -وهم جمهورُهم- يقولون: إنَّه متيسِّرٌ على العامَّةِ، كما يقولُه القاضي أبو بكرٍ، و
القاضي أبو يَعْلى وغَيرُهما ممَّن يقولُ ذلك)
[900] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/93). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أمَّا التقليدُ الباطِلُ المذمومُ فهو قَبولُ قَولِ الغَيرِ بلا حُجَّةٍ؛ قال اللهُ تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ في البقرة، وفي المائدة وفي لقمان:
أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ، وفي الزخرف
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ، وفي الصَّافات:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ، وقال:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل [الأحزاب: 66، 67] الآيات، وقال
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166]، وقال
فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر: 47] ، وفي الآية الأخرى:
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وقال:
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ، فهذا الاتِّباعُ والتقليدُ الذي ذَمَّه اللهُ هو اتِّباعُ الهوى إمَّا للعادةِ والنَّسَبِ كاتِّباعِ الآباءِ، وإمَّا للرِّئاسةِ، كاتِّباعِ الأكابِرِ والسَّادةِ والمتكَبِّرين، فهذا مِثلُ تقليدِ الرَّجُلِ لأبيه أو سَيِّدِه أو ذي سُلْطانِه، وهذا يكونُ لِمن لم يستَقِلَّ بنَفْسِه، وهو الصَّغيرُ؛ فإنَّ دينَه دينُ أُمِّه، فإن فُقِدَت فدِينُ مَلِكِه وأبيه، فإن فُقِد كاللَّقيطِ فدِينُ المتوَلِّي عليه، وهو أهلُ البَلَدِ الذي هو فيه، فأمَّا إذا بَلَغ وأعرَبَ لسانُه فإمَّا شاكِرًا وإمَّا كَفُورًا، وقد بَيَّن اللهُ أنَّ الواجِبَ الإعراضُ عن هذا التقليدِ إلى اتِّباعِ ما أنزَلَ اللهُ على رسُلِه؛ فإنَّهم حُجَّةُ اللهِ التي أعذَرَ بها إلى خَلْقِه... فإنْ عَلِمَ أنَّ مُقَلَّدَه مُصيبٌ، كتَقليدِ الرَّسولِ، أو أهلِ الإجماعِ؛ فقد قلَّده بحُجَّةٍ، وهو العِلمُ بأنَّه عالمٌ، وليس هو التقليدَ المذكورَ، وهذا التَّقليدُ واجِبٌ؛ للعِلمِ بأنَّ الرَّسولَ معصومٌ، وأهلُ الإجماعِ مَعصومون)
[901] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 15). .
وقد ذكر بَعضُ العُلَماءِ أنَّ وُجوبَ الإيمانِ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ لا يُشتَرَطُ فيه أن يكونَ عن نَظَرٍ واستدلالٍ، بل يكفي اعتقادٌ جازمٌ بذلك، فالمختارُ الذي عليه السَّلَفُ وأئِمَّةُ الفتوى من الخَلَفِ، وعامَّةُ الفُقَهاءِ: صِحَّةُ إيمانِ المقَلِّدِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ فَتَحوا أكثَرَ بلادِ العَجَمِ، وقَبِلوا إيمانَ عَوامِّهم، كأجلافِ العَرَبِ، وإن كان تحتَ السَّيفِ، أو تبعًا لكبيرٍ منهم أسلَمَ، ولم يأمروا أحدًا منهم بترديدِ نَظَرٍ، ولا سألوه عن دليلِ تصديقِه، ولا أرجَؤوا أمْرَه حتى ينظُرَ، والعَقلُ يجزِمُ في نحوِ هذا بعَدَمِ وُقوعِ الاستِدلالِ منهم؛ لاستحالتِه حينَئذٍ، فكان ما أطبَقوا عليه دليلًا أيَّ دليلٍ على إيمانِ المقَلِّدِ
[902] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 270). .
وقال السَّفارينيُّ: (النَّظَرُ ليس بشَرطٍ في حُصولِ المعرفةِ مُطلَقًا، وإلَّا لَما وُجِدَت بدونِه؛ لوُجوبِ انتِفاءِ المشروطِ بانتفاءِ الشَّرطِ، لكِنَّها قد توجَدُ؛ فظهر أنَّ النَّظَرَ لا يتعَيَّنُ على كُلِّ أحدٍ، وإنَّما يتعَيَّنُ على من لا طريقَ له سِواه، بأن بلَغَتْه دعوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلَ ما بلغَتْه دَعْوَتُه، وصَدَّق به تصديقًا جازِمًا بلا ترَدُّدٍ، فمع صِحَّةِ إيمانِه بالاتِّفاقِ لا يأثَمُ بتَرْكِ النَّظَرِ، وإن كان ظاهِرُ ما تقَدَّمَ الإثمَ مع حُصولِ الإيمانِ؛ لأنَّ المقصودَ الذي لأجْلِه طُلِبَ النَّظَرُ مِن المكَلَّفِ -وهو التصديقُ الجازِمُ- قد حصل بدونِ النَّظَرِ، فلا حاجةَ إليه، نَعَمْ، في رتبتِه انحِطاطٌ، وربَّما كان متزلزِلَ الإيمانِ، فالحَقُّ أنَّه يأثَمُ بتَرْكِ النَّظَرِ وإن حصل له الإيمانُ، ومن ثمَّ نَقَل بعضُهم الإجماعَ على تأثيمِه؛ لأنَّ جَزْمَه حينئذٍ لا ثِقةَ به؛ إذ لو عَرَضَت له شُبهةٌ، عَكَّرت عليه، وصار مترَدِّدًا، بخِلافِ الجَزمِ النَّاشئِ عن الاستِدلالِ؛ فإنَّه لا يفوتُ بذلك، واللهُ تعالى وَلِيُّ التوفيقِ)
[903] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/270). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (أمَّا مَسائِلُ العقيدةِ التي يجِبُ على الإنسانِ فيها الجَزمُ، فقد اختلف العُلَماءُ رحمهم اللهُ: هل يجوزُ فيها التقليدُ أو لا بدَّ من الوقوفِ على الدَّليلِ؟... فمنهم من قال: إنَّه يكفي، ومنهم من قال: إنَّه لا يكفي... وعلى هذا فكُلُّ شَيءٍ يُطلَبُ فيه الجزمُ فلا تُقَلِّدْ فيه؛ لأنَّ هذا ينافي المطلوبَ، وهو الجَزمُ، والتقليدُ يفيد الظَّنَّ، فلا يجوزُ أن نقَلِّدَ... ثمَّ قال المؤلِّفُ رحمه الله تعالى يعني السَّفارينَّي:
وقيل يكفي الجزمُ إجماعًا بما... يُطلَبُ فيه عندَ بَعضِ العُلَما
وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، والدَّليلُ على ذلك أنَّ اللهَ أحال على سؤالِ أهلِ العِلْمِ في مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ التي يجب فيها الجَزمُ، فقال:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] ، وواضِحٌ أنَّنا نسألُهم لنأخُذَ بقَولِهم، ومعلومٌ أنَّ الإيمانَ بأنَّ الرُّسُلَ رِجالٌ هو من العقيدةِ، ومع ذلك أحالنا اللهُ فيه إلى أهلِ العِلْمِ.
وقال تعالى:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ، وإنَّما يسألُهم ليرجِعَ إليهم، وإذا كان هذا الخِطابُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَشُكَّ، فنحن إذا شكَكْنا في شيءٍ من أمورِ الدِّينِ فنَرجِعُ إلى الذين يقرؤون الكتابَ، أي: إلى أهلِ العِلْمِ؛ لنأخُذَ بما يقولون، وهذا عامٌّ يشمَلُ مَسائِلَ العقيدةِ.
ثمَّ إنَّنا لو ألزَمْنا العامِّيَّ بتَرْكِ التقليدِ، والتزامِ الأخذِ بالاجتهادِ؛ لألزَمْناه بما لا يُطيقُ، وقد قال اللهُ تعالى:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، وقال:
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [المؤمنون: 61، 62]. فالصَّوابُ المجزومُ به هو القَولُ الثَّاني؛ وهو أنَّ ما يُطلَبُ فيه الجَزمُ يُكتفى فيه بالجَزمِ، سواءٌ عن طريقِ الدَّليلِ أو عن طريقِ التقليدِ.
قال المؤلِّفُ رحمه الله: «فالجازِمون من عوامِّ البَشَرِ» يعني: الذين يجزِمون بما يعتَقِدون من العوامِّ الذين ليس عِندَهم عِلمٌ؛ لأنَّهم عوامُّ، قال: «فمُسلِمون» يعني: فهم مُسلِمون، وإن كانوا لم يأخُذوا ما يُطلَبُ فيه الجزمُ عن طريقِ الاجتِهادِ.
ثمَّ قال: «عندَ أهلِ الأثَرِ» وكفى بأهلِ الأثَرِ قُدوةً؛ فأهلُ الأثَرِ يرَون أنَّه يجوزُ التقليدُ فيما يُطلَبُ فيه الجزمُ، والمقصودُ: أن يحصُلَ الجَزمُ سواءٌ عن طريقِ التقليدِ أو عن طريقِ الاجتِهادِ، وإذا كان هذا هو ما يراه أهلُ الأثَرِ، فهو الذي نراه نحن، وهو الصَّحيحُ)
[904] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 307-312). .