المَبْحَثُ السَّادِسُ: من قواعِدِ وضوابِطِ التَّكفيرِ عند أهلِ السُّنَّةِ: التَّثبُّتُ مِنْ أنَّ ما صدَرَ مِنَ المُسْلِم هو مِنْ الكُفرِ البَيِّنِ عند العُلَماءِ، وعَدَمُ التَّكفيرِ بالمآلاتِ واللَّوازِمِ إلَّا إذا التُزِمَت
قال اللهُ تعالى:
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] .
قال
ابنُ كثير: (قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ: يقولُ: لا تَقُلْ. وقال العوفي عنه: لا تَرْمِ أحدًا بما ليس لك به عِلمٌ. وقال
محمَّدُ بنُ الحَنَفيَّةِ: يعني شهادةَ الزُّورِ. وقال قتادةُ: لا تَقُلْ: رأيتُ ولم تَرَ، وسمعتُ ولم تسمَعْ، وعَلِمْتُ ولم تعلَمْ؛ فإنَّ اللهَ سائلِكُ عن ذلك كُلِّه. ومضمونُ ما ذكَروه: أنَّ اللهَ تعالى نهى عن القَوْلِ بلا عِلمٍ، بل بالظَّنِّ الذي هو التَّوهُّمُ والخيالُ، كما قال تعالى:
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] ، وفي الحديث:
((إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحديثِ )) [1324] أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563) مُطَوَّلًا مِن حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. )
[1325] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 75). .
قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (فالواجِبُ في النَّظرِ ألَّا يُكَفَّرَ إلَّا مَنْ اتَّفَق الجَميعُ على تَكفيرِه، أو قام على تَكفيرِه دَليلٌ لا مَدفَعَ له مِنْ كِتابٍ أو سُنَّةٍ)
[1326] يُنظر: ((التمهيد)) (17/22). .
وقال
ابنُ عُثيمينَ: (فيَجِبُ قبل الحُكمِ على المُسلِمِ بكُفرٍ أو فِسقٍ أن يُنظَرَ في أمرَينِ:
أحدُهما: دَلالةُ الكِتابِ أو السُّنَّةِ على أنَّ هذا القَولَ أو الفِعلَ مُوجِبٌ للكُفرِ أو الفِسقِ.
الثَّاني: انطِباقُ هذا الحُكمِ على القائِلِ المُعَيَّنِ أو الفاعِلِ المُعَيَّنِ، بحيث تتِمُّ شُروطُ التَّكفيرِ أو التَّفسيقِ في حَقِّه، وتنتفي الموانِعُ)
[1327] يُنظر: ((القواعد المثلى)) (ص: 88). .
وقال أيضًا: (إذا تمَّت شروطُ التَّكفيرِ في حَقِّه جاز إطلاقُ الكُفْرِ عليه بعَينِه، ولو لم نَقُل بذلك ما انطَبَق وَصفُ
الرِّدَّةِ على أحدٍ، فيعامَلُ معاملةَ المرتَدِّ في الدُّنْيا، هذا باعتبارِ أحكامِ الدُّنْيا، أمَّا أحكامُ الآخِرةِ فتُذكَرُ على العمومِ لا على الخُصوصِ؛ ولهذا قال أهلُ السُّنَّة: لا نشهَدُ لأحَدٍ بجَنَّةٍ ولا نارٍ إلَّا لمن شَهِدَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1328] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/125). .
فلا يجوزُ التَّكفيرُ بأقوالٍ وأعمالٍ مُحتَمِلةِ الدَّلالةِ قبل التَّحقُّقِ من قَصدِ قائِلِها أو فاعِلِها، أو التَّكفيرُ بلازِمِ القَولِ أو بما يَؤُولُ إليه القَوْلُ.
قال
ابنُ حزمٍ: (أمَّا مَنْ كَفَّرَ النَّاسَ بما تَؤُولُ إليه أقوالُهم، فخَطَأٌ؛ لأنَّه كَذِبٌ على الخَصمِ، وتقويلٌ له ما لم يَقُلْ به، وإنْ لَزِمَه فلم يَحصُلْ على غيرِ التَّناقُضِ فقط، والتَّناقُضُ ليس كُفرًا، بل قد أحسَنَ إذ فَرَّ مِنْ الكُفرِ)
[1329] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل)) (3/139). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (التَّكفيرُ لا يكونُ بأمرٍ مُحتَمِلٍ)
[1330] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/963). .
وقال
الشَّاطبي: (الذي كُنَّا نَسمَعُه من الشّيوخِ أنَّ مَذهَبَ المحَقِّقين من أهلِ الأصولِ: أنَّ الكُفْرَ بالمآلِ ليس بكُفرٍ في الحالِ. كيف والكافِرُ يُنكِرُ ذلك المآلَ أشَدَّ الإنكارِ، ويرمي مخالِفَه به؟! فلو تبَيَّن له وجهُ لُزومِ الكُفْرِ من مقالتِه لم يَقُلْ بها على حالٍ)
[1331] يُنظر: ((الاعتصام)) (3/135). .
وقال
ابنِ حَجَرٍ: (الذي يَظهَرُ أنَّ الذي يُحكَمُ عليه بالكُفرِ: مَنْ كان الكُفرُ صريحَ قَولِه، وكذا مَنْ كان لازِمَ قَولِه، وعُرِضَ عليه فالتَزَمَه، أمَّا مَنْ لم يلتَزِمْه، وناضَلَ عنه، فإنَّه لا يكونُ كافِرًا، ولو كان اللَّازِمُ كُفرًا)
[1332] ينظر: ((فتح المغيث)) للسخاوي (2/ 73). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّ الحُكمَ على الرَّجُلِ المُسلِمِ بخُروجِه مِنْ دِينِ الإسلامِ ودُخولِه في الكُفرِ لا ينبغي لمُسلِمٍ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يُقدِمَ عليه إلَّا ببُرهانٍ أوضَحَ مِنْ شَمسِ النَّهارِ؛ فإنَّه قد ثَبَت في الأحاديثِ الصَّحيحةِ المَرْويَّةِ من طريقِ جماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ أنَّ:
((مَنْ قال لأخيه: يا كافِرُ، فقد باء بها أحدُهما )) [1333] أخرجه البخاري (6104)، ومسلم (60) باختلافٍ يسير ٍمِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمر رَضِيَ اللهُ عنهما. .