المَطْلَبُ الثَّاني: أحوالُ الجاهِلِ مُرتَكِبِ الكُفرِ
ليس كُلُّ جَهْلٍ يُعذَرُ فيه الإنسانُ، كما تقَدَّم بيانُه، فمن لم يكُنْ حَديثَ عَهدٍ بكُفرٍ أي: لم يُسلِمْ حديثًا، ولم يكُنْ في بلادٍ بعيدةٍ عن مناراتِ العِلمِ، وبَعيدةٍ عن البلادِ التي يَكثُرُ فيها المسلِمونَ ويُظهِرونَ فيها شعائِرَ الإسلامِ، سواءٌ كانت باديةً أو حاضرةً؛ فهذا لا يُعذَرُ في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ البَيِّنةِ الجَلِيَّةِ، -وإن كان الأصلُ في الحواضِرِ وُجودُ العِلمِ وأهلِه، وكثرةُ الـجَهْلِ في البوادي-، لكِنَّ العِلَّةَ وُجودُ العِلمِ وعَدَمُ تفَشِّي الجَهْلِ، والظُّهورُ والخَفاءُ أمرٌ نِسبيٌّ بحَسَبَ الأمكِنةِ والأزمِنةِ، وعلى ظُهورِ العِلمِ واندِثارِه
[1448] قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الأمكِنةَ والأزمِنةَ التي تَفتُرُ فيها النُّبوَّةُ لا يكونُ حُكمُ مَن خَفِيَت عليه آثارُ النبُوَّةِ حتى أنكر ما جاءت به خطأً، كما يكونُ حُكمُه في الأمكِنةِ والأزمِنةِ التي ظهَرَت فيها آثارُ النبوَّةِ). ((بغية المرتاد)) (ص: 311). وقال ابن عثيمين: (الخَفاءُ والظُّهورُ أمرٌ نِسبيٌّ؛ قد يكون ظاهرًا عندي ما هو خَفِيٌّ عليك، وظاهِرًا عندك ما هو خَفِيٌّ عليَّ). ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 48). .
قال
الشَّافعيُّ: (العلِمُ عِلمانِ: عِلمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالغًا غيرَ مغلوبٍ على عَقْلِه جَهْلُه... مِثلُ: الصَّلواتِ الخَمسِ، وأنَّ لله على النَّاسِ صَومَ شَهرِ رَمَضانَ، وحَجَّ البيتِ إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالِهم، وأنَّه حَرَّم عليهم الزِّنا والقَتْلَ والسَّرِقةَ والخَمْرَ، وما كان في معنى هذا)
[1449] يُنظر: ((الرسالة)) (ص 357). .
وسئِلَ
أبو يوسُفَ عن امرأةٍ لا تَعرِفُ أنَّ الكُفَّارَ يَدخُلون النَّارَ، فقال: (تُعلَّمُ ولا تُكَفَّرُ)
[1450] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/132). .
وقال
البخاريُّ: (كُلُّ من لم يعرِفِ اللهَ عزَّ وجلَّ بكلامِه أنَّه غيرُ مخلوقٍ، فإنَّه يُعلَّمُ، ويُرَدُّ جَهْلُه إلى الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فمن أبى بعد العِلمِ به كان معانِدًا؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة: 115] ، ولِقَولِه:
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] )
[1451] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) (2/118). .
وقال
الخطَّابي: (من أنكَرَ فَرْضَ الزَّكاةِ في هذا الزَّمانِ، كان كافرًا بإجماعِ المسلِمين... وكذلك الأمرُ في كُلِّ من أنكر شيئًا ممَّا أجمعت الأمَّةُ عليه من أمورِ الدِّينِ إذا كان عِلمُه منتشرًا؛ كالصَّلَواتِ الخَمسِ، وصَومِ شَهرِ رَمَضانَ، والاغتسالِ من
الجنابةِ، وتحريمِ الزِّنا والخَمرِ ونِكاحِ ذواتِ المحارِمِ، ونحوِها من الأحكامِ، إلَّا أن يكونَ رَجُلًا حديثَ عَهدٍ بالإسلامِ لا يَعرِفُ حُدودَه؛ فإنَّه إذا أنكر شيئًا منها جهلًا به، لم يَكفُرْ)
[1452] يُنظر: ((معالم السنن)) (2/8). .
وقال
ابنُ حزم: (الحَقُّ هو أنَّ كُلَّ من ثبت له عَقدُ الإسلامِ فإنَّه لا يزولُ عنه إلَّا بنَصٍّ أو إجماعٍ، وأمَّا بالدَّعوى والافتراءِ فلا؛ فوَجَب ألَّا يُكَفَّرَ أحدٌ بقَولٍ قاله إلَّا بأن يخالِفَ ما قد صَحَّ عنده أنَّ الله تعالى قاله أو أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله، فيستجيزُ خِلافَ اللهِ تعالى وخِلافَ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسواءٌ كان ذلك في عَقدِ دينٍ أو في نِحلةٍ أو في فُتيا، وسواءٌ كان ما صَحَّ من ذلك عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منقولًا نَقْلَ إجماعِ تواتُرٍ أو نَقلَ آحادٍ، إلَّا أنَّ من خالف الإجماعَ المتيقَّنَ المقطوعَ على صِحَّتِه فهو أظهَرُ في قَطعِ حُجَّتِه ووُجوبِ تكفيرِه؛ لاتِّفاقِ الجميعِ على معرفةِ الإجماعِ وعلى تكفيرِ مخالفتِه. بُرهانُ صِحَّةِ قَولِنا: قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] )
[1453] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 138). .
وقال
ابنُ العربيِّ: (الجاهِلُ والمخطِئُ من هذه الأمَّةِ، ولو عَمِلَ من الكُفرِ والشِّركِ ما يكونُ صاحِبُه مُشرِكًا أو كافِرًا، فإنَّه يُعذَرُ بالجَهلِ والخطَأِ، حتى تتبيَّنَ له الحُجَّةُ التي يكفُرُ تاركُها بيانًا واضِحًا ما يلتَبِسُ على مِثْلِه، ويُنكِرُ ما هو معلومٌ بالضَّرورةِ من دينِ الإسلامِ ممَّا أجمعوا عليه إجماعًا جَلِيًّا قَطعيًّا، يعرِفُه كُلٌّ من المسلمينَ من غيرِ نَظَرٍ وتأمُّلٍ)
[1454] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (3/ 161) وعزاه إلى ((شرح صحيح البخاري)) لابن العربي. .
وقال
أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (من تعمَّد خلافَ أصلٍ من هذه الأصولِ، وكان جاهِلًا لم يقصِدْ إليه من طريقِ العِنادِ؛ فإنَّه لا يَكفُرُ؛ لأنَّه لم يقصِدِ اختيارَ الكُفرِ، ولا رَضِيَ به، وقد بلغ جُهدَه، فلم يقَعْ له غيرُ ذلك، وقد أعلم اللهُ سُبحانَه أنَّه لا يؤاخِذُ إلَّا بعد البيانِ، ولا يُعاقِبُ إلَّا بعد الإنذارِ، فقال تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ [التوبة: 115] ، فكُلُّ من هداه اللهُ عزَّ وجلَّ، ودخل في عَقدِ الإسلامِ، فإنَّه لا يخرجُ إلى الكُفرِ إلَّا بعد البيانِ)
[1455] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 551). .
وقال
ابنُ قُدامةَ المَقْدِسيُّ عن جاحِدِ الصَّلاةِ: (فإن كان ممنَّ لا يَعرِفُ الوُجوبَ، كحديثِ الإسلامِ، والنَّاشئِ بغيرِ دارِ الإسلامِ، أو باديةٍ بعيدةٍ عن الأمصارِ وأهلِ العِلمِ، لم يُحكَمْ بكُفْرِه، وعُرِّفَ ذلك، وتَثبُتُ له أدِلَّةُ وُجوبِها، فإن جَحَد بعد ذلك كَفَر، وأمَّا إذا كان الجاحِدُ لها ناشئًا في الأمصارِ بيْن أهلِ العِلمِ، فإنَّه يَكفُرُ بمجَرَّدِ جَحْدِها، وكذلك الحُكمُ في مباني الإسلامِ كُلِّها)
[1456] يُنظر: ((المغني)) (12/275). .
وقال النَّوويُّ عن المرتَدِّ: (وكذلك الأمرُ في كُلِّ من أنكَرَ شَيئًا ممَّا أجمعت الأمَّةُ عليه من أمورِ الدِّينِ إذا كان عِلْمُه مُنتَشِرًا؛ كالصَّلواتِ الخَمْسِ، وصَومِ شَهرِ رَمَضانَ، والاغتِسالِ مِن
الجَنابةِ، وتحريمِ الزِّنا والخَمْرِ ونِكاِح ذواتِ المحارِمِ، ونَحْوِها من الأحكامِ، إلَّا أن يكونَ رجُلًا حديثَ عهدٍ بالإسلامِ)
[1457] يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/ 205). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (لا يُكَفِّرُ العُلَماءُ مَن استحَلَّ شيئًا مِن المحرَّماتِ لقُربِ عَهْدِه بالإسلامِ، أو لنَشأتِه بباديةٍ بعيدةٍ، فإنَّ حُكْمَ الكُفرِ لا يكونُ إلَّا بَعْدَ بُلوغِ الرِّسالةِ، وكثيرٌ مِن هؤلاءِ قد لا يكونُ قد بلغَتْه النُّصوصُ المخالِفةُ لِما يراه، ولا يَعلَمُ أنَّ الرَّسولَ بُعِثَ بذلك)
[1458] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/501). .
وقال أيضًا: (كثيرٌ مِن النَّاسِ قد يَنشَأُ في الأمكِنةِ والأزمِنةِ الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ مِن عُلومِ النُّبوَّاتِ؛ حتَّى لا يبقى مَن يبلِّغُ ما بَعَث اللهُ به رَسولَه من الكِتابِ والحِكمةِ، فلا يَعلَمُ كَثيرًا ممَّا يَبعَثُ اللهُ به رَسولَه، ولا يكونُ هناك مَن يبلِّغُه ذلك، ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ؛ ولهذا اتَّفَق الأئمَّةُ على أنَّ مَن نشأَ بباديةٍ بَعيدةٍ عن أهلِ العِلمِ والإيمانِ، وكان حديثَ العَهدِ بالإسلامِ، فأنكر شيئًا مِن هذه الأحكامِ الظَّاهِرةِ المتواتِرةِ؛ فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفْرِه حتَّى يَعرِفَ ما جاء به الرَّسولُ)
[1459] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/407). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (هؤلاءِ الأجناسُ وإن كانوا قد كَثُروا في هذا الزَّمانِ، فلقِلَّةِ دُعاةِ العِلمِ والإيمانِ، وفُتورِ آثارِ الرِّسالةِ في أكثَرِ البُلدانِ، وأكثَرُ هؤلاء ليس عِندَهم مِن آثارِ الرِّسالةِ ومِيراثِ النبُوَّةِ ما يَعرِفونَ به الهدى، وكثيرٌ منهم لم يبلُغْهم ذلك، وفي أوقاتِ الفَتراتِ وأمكِنةِ الفَتراتِ يُثابُ الرَّجُلُ على ما معه من الإيمانِ القليلِ، ويَغفِرُ اللهُ فيه لِمَن لم تَقُمِ الحُجَّةُ عليه ما لا يَغفِرُ به لِمَن قامت الحُجَّةُ عليه)
[1460] يُنظر: ((الفتاوى)) (35/165). .
وقال أيضًا: (التَّكفيرُ هو من الوعيدِ؛ فإنَّه وإن كان القَولُ تكذيبًا لِما قاله الرَّسولُ، لكِنْ قد يكونُ الرَّجُلُ حديثَ عَهدٍ بإسلامٍ أو نشأَ بباديةٍ بَعيدةٍ، ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ بجَحْدِ ما يَجحَدُه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ)
[1461] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/231). .
وقال عن الجَهْلِ في شِرْكِ العبادةِ: (إنَّا بعد مَعرفةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نَعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه أن تَدعُوَ أحدًا من الأمواتِ، لا الأنبياءَ ولا الصَّالحينَ ولا غَيرَهم، لا بلَفظِ الاستغاثةِ ولا بغَيرِها، ولا بلَفظِ الاستِعاذةِ ولا بغَيرِها، كما أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه السُّجودَ لميِّتٍ ولا لغَيرِ مَيِّتٍ، ونحو ذلك، بل نَعلَمُ أنَّه نهى عن كُلِّ هذه الأمورِ، وأنَّ ذلك مِن الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، لكِنْ لغَلَبةِ الجَهْلِ، وقلَّةِ العِلمِ بآثارِ الرِّسالةِ في كثيرٍ مِن المتأخِّرينَ، لم يمكِنْ تكفيرُهم بذلك، حتى يتبيَّنَ لهم ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يخالِفُه)
[1462] يُنظر: (الرد على البكري)) (2/731). .
وقال أيضًا مُبَيِّنًا حُكمَ المسلمين الذين يستغيثون بالقُبورِ عند الشَّدائدِ، ويَنذِرون لها: (هذا الشِّركُ إذا قامت على الإنسانِ الحُجَّةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه كقَتْلِ أمثالِه من المُشرِكين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه. وأمَّا إذا كان جاهِلًا لم يَبلُغْه العِلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشِّركِ الذي قاتلَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولا سِيَّما وقد كَثُر هذا الشِّركُ في المنتَسِبين إلى الإسلامِ، ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتِّفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحُجَّةِ كافِرٌ)
[1463] يُنظر: ((جامع المسائل)) (3/151). .
وقال أيضًا مُبَيِّنًا بعضَ أفعالِ المُشرِكين من هذه الأمَّةِ، وأنَّهم قد يُعذَرون بالجَهْلِ: (فمنهم من يصَلِّي إلى القَبرِ، ومنهم من يسجُدُ له، ومنهم من يسجُدُ من بابِ المكانِ المبنيِّ على القبرِ، ومنهم من يستغني بالسُّجودِ لصاحِبِ القبرِ عن الصَّلَواتِ الخَمسِ، فيَسجُدون لهذا الميِّتِ ولا يَسجُدون للخالقِ، وقد يكونُ ذلك الميِّتُ ممَّن يُظَنُّ به الخيرُ، وليس كذلك، كما يُوجَدُ مِثلُ هذا في مِصرَ، والشَّامِ، والعراقِ، وغيرِ ذلك. ومنهم من يطلُبُ من الميِّتِ ما يطلُبُ من اللهِ، فيقولُ: اغفِرْ لي، وارزُقْني، وانصُرْني، ونحوَ ذلك، كما يقولُ المصَلِّي في صلاتِه للهِ تعالى، إلى أمثالِ هذه الأمورِ التي لا يَشُكُّ من عرَف دينَ الإسلامِ أنَّها مخالفةٌ لدينِ المرسَلين أجمعين؛ فإنَّها من الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، بل من الشِّركِ الذي قاتَلَ عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المشرِكين، وأنَّ أصحابَها إن كانوا يُعذَرون بالجَهلِ، وأنَّ الحُجَّةَ لم تَقُمْ عليهم، كما يُعذَرُ من لم يُبعَثْ إليه رسولٌ، كما قال تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وإلَّا كانوا مستحِقِّين من عقوبةِ الدُّنيا والآخِرةِ ما يستحِقُّه أمثالُهم من المُشرِكين، قال تعالى:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] )
[1464] يُنظر: ((قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق)) (ص: 69). .
وقال أيضًا: (مع أنِّي دائمًا -ومن جالسني يعلَمُ ذلك مني- أنِّي من أعظَمِ النَّاسِ نَهيًا عن أن يُنسَبَ معيَّنٌ إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومَعصيةٍ، إلَّا إذا عُلِمَ أنَّه قد قامت عليه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ التي من خالفها كان كافِرًا تارةً، وفاسِقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرِّرُ أنَّ اللهَ قد غَفَر لهذه الأمَّةِ خَطَأَها، وذلك يعُمُّ الخطَأَ في المسائِلِ الخَبريَّةِ القَوليَّةِ، والمسائِلِ العَمَليَّةِ)
[1465] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 229). .
وقال أيضًا: (المقالةُ تكونُ كُفرًا: كجَحْدِ وُجوبِ الصَّلاةِ والزكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، وتحليلِ الزِّنا والخَمرِ والميسِرِ ونكاحِ ذواتِ المحارِمِ، ثمَّ القائِلُ بها قد يكونُ بحيثُ لم يبلُغْه الخِطابُ، وكذا لا يكفُرُ به جاحِدُه؛ كمن هو حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ، أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ لم تبلُغْه شرائعُ الإسلامِ، فهذا لا يُحكَمُ بكُفرِه بجَحْدِ شَيءٍ ممَّا أُنزِلَ على الرَّسولِ إذا لم يعلَمْ أنَّه أُنزل على الرَّسولِ)
[1466] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 354). .
وقال أيضًا: (من لم يبلُغْه أمرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شيءٍ مُعَيَّنٍ، لم يَثبُتْ حُكمُ وُجوبِه عليه)
[1467] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (22/102). .
وقال
الذَّهبيُّ: (ينبغي للعالِمِ ألَّا يَستَعجِلَ على الجاهِلِ، بل يَرفُقُ به، ويُعَلِّمُه مِمَّا عَلَّمَه اللهُ، ولا سِيَّما إذا كان قريبَ العَهدِ بجاهليَّتِه، قد نشأ في بلادِ الكُفرِ البَعيدةِ، وأُسِرَ وجُلِبَ إلى أرضِ الإسلامِ، وهو تُركيٌّ كافرٌ، أو كرجيٌّ مُشرِكٌ لا يَعرِفُ بالعَربيِّ، فاشتراه أمير تُركيٌّ لا عِلمَ عِندَه ولا فَهْمَ، فبالجَهدِ إن تلَفَّظ بالشَّهادَتينِ، فإنْ فَهِمَ بالعربيِّ حتى يَفقَهَ معنى الشَّهادتينِ بعد أيامٍ وليالٍ فبها ونِعْمَت، ثم قد يصَلِّي وقد لا يصَلِّي، وقد يُلقَّنُ الفاتحةَ مع الطُّولِ إن كان أستاذُه فيه دينٌ ما، فإن كان أستاذُه شَبيهًا به فمِن أين لهذا المسكينِ أن يَعرِفَ شَرائِعَ الإسلامِ، والكبائِرَ واجتِنابَها، والواجِباتِ وإتيانَها؟! فإنْ عَرَف هذا مُوبِقاتِ الكبائِرِ وحَذِرَ منها، وأركانَ الفرائِضِ واعتَقَدها، فهو سعيدٌ، وذلك نادِرٌ، فينبغي للعَبدِ أن يحمَدَ اللهَ تعالى على العافيةِ، فإن قيل: هو فرَّطَ؛ لكَونِه ما سأل عمَّا يجِبُ عليه، قيل: هذا ما دار في رأسِه، ولا استشعَرَ أنَّ سُؤالَ مَن يُعَلِّمُه يَجِبُ عليه،
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ، فلا يأثَمُ أحدٌ إلَّا بعد العِلمِ، وبعد قيامِ الحُجَّةِ عليه، واللهُ لَطيفٌ بعبادِه، رَؤوفٌ بهم؛ قال اللهُ تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقد كان سادةُ الصَّحابةِ بالحَبَشةِ، وينزِلُ الواجِبُ والتَّحريمُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا يَبلُغُهم تحريمُه إلَّا بعد أشهُرٍ، فهم في تلك الأشهُرِ معذورونَ بالجَهْلِ حتَّى يَبلُغَهم النَّصُّ؛ فكذا يُعذَرُ بالجَهْلِ كُلُّ من لم يَعلَمْ حتَّى يَسمَعَ النَّصَّ. واللهُ تعالى أعلَمُ)
[1468] يُنظر: ((الكبائر)) (ص: 110). .
وقال
ابنُ القَيِّم: (وكذلك لو نَطَق بكَلِمةِ الكُفرِ من لا يعلَمُ معناها، لم يَكفُرْ)
[1469] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (4/ 447). .
وقال أيضًا: (قال سُبحانَه:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 36، 37]، فأخبر سُبحانَه أنَّ ابتلاءَه بقرينِه من الشَّياطينِ وضلالَه به، إنما كان بسَبَبِ إعراضِه وعُشُوِّه عن ذِكْرِه الذي أنزله على رَسولِه، فكان عقوبةُ هذا الإعراضِ أن قَيَّض له شيطانًا يقارِنُه، فيصُدُّه عن سبيلِ رَبِّه وطريقِ فلاحِه، وهو يحسَبُ أنَّه مُهتَدٍ، حتى إذا وافى رَبَّه يومَ القيامةِ مع قَرينِه، وعاين هَلاكَه وإفلاسَه، قال:
يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38].
وكلُّ من أعرض عن الاهتداءِ بالوَحيِ الذي هو ذِكْرُ اللهِ، فلا بُدَّ أن يقولَ هذا يومَ القيامةِ.
فإن قيل: فهل لهذا عُذرٌ في ضلالِه إذا كان يحسَبُ أنَّه على هُدًى، كما قال تعالى:
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ؟
قيل: لا عُذْرَ لهذا وأمثالِه من الضُّلَّالِ الذين مَنشَأُ ضَلالِهم الإعراضُ عن الوَحيِ الذي جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو ظَنَّ أنَّه مهتدٍ؛ فإنَّه مُفرِّطٌ بإعراضِه عن اتِّباعِ داعي الهُدى، فإذا ضَلَّ فإنَّما أُتي من تفريطِه وإعراضِه، وهذا بخلافِ من كان ضلالُه لعدَمِ بلوغِ الرِّسالةِ وعَجْزِه عن الوُصول إليها، فذاك له حكمٌ آخَرُ، والوعيدُ في القرآنِ إنما يتناوَلُ الأوَّلَ، وأمَّا الثَّاني فإنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليه، كما قال تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وقال تعالى:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] )
[1470] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 119). .
وقال
ابن حجر الهيتمي مُعَلِّقًا على أحَدِ كُتُبِ الأحنافِ: (فمن مسائِلِ الفَصلِ الأوَّلِ المعقودِ للمُتَّفَقِ على أنَّه كُفرٌ في زَعْمِه: أنَّ من تلفَّظ بلَفظِ الكُفرِ يَكفُرُ وإن لم يعتَقِدْ أنَّه كُفرٌ، ولا يُعذَرُ بالجَهلِ، وكذا كُلُّ من ضَحِكَ عليه أو استحسَنَه، أو رَضِيَ به، يَكفُرُ. انتهى.
وإطلاقُه الكُفرَ حينئذٍ مع الجَهلِ وعَدَمِ العُذرِ به: بعيدٌ. وعندنا إن كان بعيدَ الدَّارِ عن المسلمين بحيثُ لا يُنسَبُ لتقصيرٍ في تركِه المجيءَ إلى دارِهم للتعَلُّمِ، أو كان قريبَ العَهدِ بالإسلامِ؛ يُعذَرُ بجَهْلِه، فيُعَرَّفُ الصَّوابَ، فإن رجع إلى ما قاله بعد ذلك كَفَر، وكذا يقالُ فيمن استحسن ذلك أو رَضِيَ به)
[1471] يُنظر: ((الإعلام بقواطع الإسلام)) (ص: 136). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (إنَّ الذي لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ هو الذي حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ، أو الذي نشأَ بباديةٍ بعيدةٍ، أو يكونُ ذلك في مَسائِلَ خَفِيَّةٍ، مِثلُ الصَّرفِ والعَطفِ، فلا يُكَفَّرُ حتى يُعرَّفَ)
[1472] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/93). .
وقال أيضًا: (لا نُكفِّرُ من عبدَ الصَّنَمَ الذي على قَبْرِ عبد القادِرِ، والصَّنمَ الذي على قَبْرِ
أحمد البَدَوي، وأمثالَهما؛ لأجْلِ جَهْلِهم، وعَدَمِ من ينَبِّهُهم)
[1473] يُنظر: ((فتاوى ومسائل)) (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (ص: 11). .
وقال أيضًا: (وأمَّا ما ذكر الأعداءُ عَنِّي أِّني أُكَفِّرُ بالظَّنِّ، وبالموالاةِ، أو أُكفِّرُ الجاهِلَ الذي لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ؛ فهذا بهتانٌ عظيمٌ، يريدون به تنفيرَ النَّاسِ عن دينِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1474] يُنظر: ((الرسائل الشخصية)) (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (ص: 25). .
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: (وقد مَثَّل العُلَماءُ هذا الصِّنفَ بمن نشَأَ بباديةٍ، أو وُلِدَ في بلادِ الكُفَّارِ، ولم تَبلُغْه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ)
[1475] يُنظر: ((مصباح الظلام)) (ص: 498). .
وقال سُلَيمانُ بنُ سَحمانَ: (الرَّجُلُ الجاهِلُ إن كان معه الأصلُ الذي يَدخُلُ به الإنسانُ في الإسلامِ، فهو مُسلِمٌ، ولو كان جاهِلًا بتفاصيلِ دينِه؛ فإنَّه ليس على عوامِّ المسلمينَ مِمَّن لا قُدرةَ لهم على مَعرفةِ تفاصيلِ ما شَرَعه اللهُ ورَسولُه أن يَعرِفوا على التَّفصيلِ ما يَعرِفُه من أقدَرَه اللهُ على ذلك من عُلَماءِ المُسلِمينَ وأعيانِهم، فيما شَرَعه اللهُ ورَسولُه من الأحكامِ الدِّينيَّةِ، بل عليهم أن يُؤمِنوا بما جاء به الرَّسولُ إيمانًا عامًّا مُجمَلًا، كما قَرَّرَ ذلك شيخُ الإسلامِ في "المنهاجِ". وإن لم يُوجَدْ معه الأصلُ الذي يُدخِلُ في الإسلامِ، فهو كافِرٌ، وكُفْرُه هو بسبَبِ الإعراضِ عن تعَلُّمِ دِينِه، لا عَلِمَه، ولا تعَلَّمه، ولا عَمِلَ به. والتَّعبيرُ بأنَّ ظاهِرَه لا إسلامٌ ولا كُفرٌ لا معنى له عندي؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكونَ مُسلِمًا جاهِلًا، أو كافِرًا جاهِلًا، فمن كان ظاهِرُه الكُفرَ، فهو كافِرٌ، ومن ظاهِرُه المعاصي فهو عاصٍ، ولا نُكَفِّرُ إلَّا مَن كَفَّر اللهُ ورَسولُه بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه)
[1476] يُنظر: ((منهاج الحق والاتباع)) (ص: 79)، ((الدرر السنية)) (10/470). .
وقال محمود شكري الألوسيُّ: (دُعاةُ غيرِ اللهِ وعَبَدَةُ القُبورِ إذا كانوا جَهَلةً بحُكمِ ما هم عليه، ولم يكُنْ أحَدٌ من أهلِ العِلمِ قد نبَّهَهم على خَطَئِهم؛ فليس لأحَدٍ أن يُكَفِّرَهم)
[1477] يُنظر: ((غاية الأماني)) (1/53). .
وقال
محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (قِسمٌ يجحَدُ ما عَلِمَ أنَّ الرَّسولَ جاء به، وخالف ما عَلِمَ بالضَّرورةِ أنَّ الرَّسولَ جاء به؛ فهذا يَكفُرُ بمجَرَّدِ ذلك، سواءٌ في الأصولِ أو الفروعِ، ولا يحتاجُ إلى تعريفٍ، ما لم يكُنْ حديثَ عَهدٍ بالإسلامِ)
[1478] يُنظر: ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (12/ 190). .
وقال
ابنُ باز بعد أن ذَكَر صُوَرًا مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ والكُفرِ الأكبَرِ، وأنَّ الأصلَ ألَّا يُعذَرَ صاحِبُه: (لكِنْ لو كان في بَعضِ البِلادِ البَعيدةِ عن الإسلامِ، أو في مَجاهِلِ أفريقيا التي لا يُوجَدُ حَولَها مسلِمونَ، قد يُقبَلُ منه دعوى الجَهْلِ، وإذا مات على ذلك يكونُ أمرُه إلى اللهِ، ويكونُ حُكمُه حُكمَ
أهلِ الفَترةِ، والصَّحيحُ أنَّهم يُمتَحَنونَ يومَ القيامةِ، فإن أجابوا وأطاعوا دَخَلوا الجنَّةَ، وإن عَصَوا دَخَلوا النَّارَ، أمَّا الذي بين المسلِمينَ، ويقومُ بأعمالِ الكُفرِ باللهِ، ويَترُكُ الواجِباتِ المعلومةَ؛ فهذا لا يُعذَرُ؛ لأنَّ الأمرَ واضِحٌ، والمسلمونَ -بحَمْدِ اللهِ- موجودونَ، ويَصومونَ ويَحُجُّونَ، ويَعرِفونَ أنَّ الزِّنا حرامٌ، وأنَّ الخَمرَ حرامٌ، وأنَّ العُقوقَ حَرامٌ، وكُلُّ هذا معروفٌ بيْن المسلمينَ، وفاشٍ بينهم؛ فدَعوى الجَهْلِ في ذلك دعوى باطِلةٌ، واللهُ المستعانُ)
[1479] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (7/136). .
وسُئِلَ: هل يُعذَرُ المسلِمُ إذا فَعَل شيئًا من الشِّرْكِ، كالذَّبحِ والنَّذرِ لِغَيرِ اللهِ جاهِلًا؟
فقال: (الأُمورُ قِسمانِ: قِسمٌ يُعذَرُ فيه بالجَهْلِ، وقِسمٌ لا يُعذَرُ فيه بالجَهْلِ، فإذا كان مَن أتى ذلك بين المسلِمينَ، وأتى الشِّركَ باللهِ، وعبَدَ غَيرَ اللهِ، فإنَّه لا يُعذَرُ؛ لأنَّه مُقَصِّرٌ لم يَسأَلْ، ولم يتبصَّرْ في دينِه، فيكونُ غيرَ مَعذورٍ في عبادتِه غيرَ اللهِ مِن أمواتٍ أو أشجارٍ، أو أحجارٍ أو أصنامٍ؛ لإعراضِه وغَفْلتِه عن دينِه، ... والقِسمُ الثَّاني: من يُعذَرُ بالجَهْلِ، كالذي ينشَأُ في بلادٍ بَعيدةٍ عن الإسلامِ في أطرافِ الدُّنيا، أو لأسبابٍ أُخرى)
[1480] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/ 26). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (من كان جاهِلًا فإنَّه لا يُؤاخَذُ بجَهْلِه في أيِّ شَيءٍ كان مِن أُمورِ الدِّينِ، ولكِنْ يَجِبُ أن نعلَمَ أنَّ مِن الجَهَلةِ من يكونُ عِندَه نوعٌ مِنَ العِنادِ، أي: إنَّه يُذكَرُ له الحَقُّ، ولكِنَّه لا يَبحَثُ عنه، ولا يتَّبِعُه، بل يكونُ على ما كان عليه أشياخُه، ومن يُعَظِّمُهم ويتَّبِعُهم، وهذا في الحقيقةِ ليس بمَعذورٍ؛ لأنَّه قد بلَغَه مِنَ الحُجَّةِ ما أدنى أحوالِه أن يكونَ شُبهةً يحتاجُ أن يبحَثَ ليتبيَّنَ له الحَقُّ، وهذا الذي يُعَظِّمُ من يُعَظِّمُ مِن مَتبوعيه شأنُه شأنُ من قال اللهُ عنهم:
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، وفي الآيةِ الثَّانيةِ:
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، فالمهِمُّ أنَّ الجَهْلَ الذي يُعذَرُ به الإنسانُ بحيث لا يَعلَمُ عن الحَقِّ، ولا يُذكَرُ له: هو رافِعٌ للإثمِ، والحُكمُ على صاحِبِه بما يَقتَضيه عَمَلُه، ثمَّ إن كان ينتَسِبُ إلى المسلِمينَ، ويَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ؛ فإنَّه يُعتَبَرُ منهم)
[1481] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 128). .
وسُئِلَ: ما رأيُ فَضيلتِكم بمن يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ، ثمَّ يَذبَحُ لغيرِ اللهِ، فهل يكونُ مُسلِمًا؟ مع العِلمِ أنَّه نشأ في بلادِ الإسلامِ؟
فأجاب: (الذي يتقَرَّبُ إلى غيرِ اللهِ بالذَّبحِ له: مُشرِكٌ شِركًا أكبَرَ، ولا ينفَعُه قَولُ «لا إلهَ إلَّا اللهُ»، ولا صلاةٌ، ولا غيرُها، اللَّهُمَّ إلَّا إذا كان ناشئًا في بلادٍ بعيدةٍ، لا يدري عن هذا الحُكمِ، كمَن يعيشُ في بلادٍ بعيدةٍ يَذبَحونَ لغَيرِ اللهِ، ويَذبَحونَ للقُبورِ، ويَذبَحونَ للأولياءِ، وليس عِندَهم في هذا بأسٌ، ولا يعلمون أنَّ هذا شِركٌ أو حرامٌ؛ فإن هذا يُعذَرُ بجَهْلِه، أمَّا إنسانٌ يُقالُ له: هذا كُفرٌ، فيَقولُ: لا، ولا أترُكُ الذَّبحَ للوليِّ، فهذا قامت عليه الحُجَّةُ، فيكونُ كافِرًا... فإذا نُصِحَ وقيل له: إنَّ هذا شِركٌ، وبُيِّنَت له الأدِلَّةُ في ذلك، وأُقيمَت عليه الحُجَّةُ الشَّرعيَّةُ فلم يعبَأْ ولم يهتَمَّ، صار مُشرِكًا كافِرًا مُرتَدًّا يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ)
[1482] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 48). .
وقال أيضًا: (الإنسانُ لا يَعرِفُ ما حرَّم اللهُ سُبحانَه وتعالى إلَّا بعِلمٍ مِن قِبَل الرُّسُل، فإذا كان هذا الإنسانُ مُسلِمًا يصَلِّي، ويصوم، ويزكِّي، ويحُجُّ، ويستغيثُ بغير اللهِ، وهو لا يدري أنَّه حرامٌ، فهو مسلِمٌ؛ لكن بشَرطِ أن يكونَ مِثلُه يجهَلُه، بحيث يكونُ حديثَ عَهدٍ بالإسلام، أو في بلادٍ انتشر فيها هذا الشيءُ، وصار عندهم كالمباحِ، وليس عندهم عُلَماءُ يُبَيِّنون لهم، أمَّا لو كان في بلدٍ التوحيدُ فيها ثابتٌ مطمئنٌّ، فإنَّ ادِّعاءهَ الجَهلَ قد يكون كاذبًا فيه)
[1483] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 43) .
وسُئِل عمَّن يقع في شِركِ العبادةِ جاهِلًا: هناك شُبهةٌ، وهي أنَّه يقال: إنَّ فِعْلَه شركٌ، وهو ليس بمُشركٍ! فكيف نرُدُّ؟ فأجاب: (هذا صحيحٌ، ليس بمشركٍ إذا لم تقُمْ عليه الحُجَّةُ)
[1484] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 48). .
وقال أيضًا: (هؤلاء الذين يأتون إلى الأولياءِ ويَدْعونَهم وهم جُهَّالٌ، ليس عندهم من يعَلِّمُهم، ولا من ينبِّهُهم، ولكنَّهم يقولون: نحن مسلمون، يُصلُّون، ويتصَدَّقون، ويصومون، ويحُجُّون، ويجتَهِدون، ويتهَجَّدون، لكِنْ لا يعلَمونَ عن هذا الأمرِ شَيئًا، ولم ينَبِّهُهم عليه أحدٌ، ولم يخبِرْهم به أحدٌ، فهؤلاء معذورون بجَهْلِهم، ويُحكَمُ بأنَّهم مسلمون، وأمَّا من بلَغَه أنَّ هذا شِركٌ، ولكِنَّه أصَرَّ وقال: إنَّ هذا دينُ آبائي وأجدادي، ولا يمكِنُ أن أحيدَ عنه، فهذا يُحكَمُ بكُفْرِه)
[1485] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 36). .
وقال أحمد بن حجر آل بوطامي: (هل يُحكَمُ على الشَّخصِ المعَيَّن أو الطَّائفة المخصوصة المتلَوِّثة بتلك الخِصالِ المنافية للتوحيدِ بالشِّركِ والكُفرِ، مع أنَّها مؤمِنةٌ باللهِ والرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآتيةٌ بسائِرِ الشَّرائعِ؟
الجوابُ: يقالُ: هذا العَمَلُ شِركٌ أو كُفرٌ مَثَلًا ؛كالسُّجودِ لوَليٍّ، أو الطوافِ بقَبْرِه، أو النَّذرِ له.
ولكِنَّ الشَّخصَ المعَيَّن أو الطَّائفةَ المخصوصةَ لا نبادِرُها بالتكفيرِ، بل الواجِبُ تبليغُها بآياتِ القُرآنِ وأحاديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، المبَيِّنةِ للشِّركِ والمحَذِّرةِ عنه، وأنْ ليس لصاحِبِه نصيبٌ من الجَنَّةِ، وأنَّ هذه الأعمالَ هي شِركٌ، فإذا أصَرَّ الشَّخصُ المعَيَّنُ أو الطائفةُ المخصوصةُ وعاندت ولم تَقبَلْ، فعند ذلك يحِلُّ عليها إطلاقُ الشِّركِ أو عليه إن كان فَرْدًا مُعَيَّنًا)
[1486] يُنظر: ((العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية)) (1/57). .