المَطْلَب الثَّالث: الكُفرُ الذي ارتكَبَه الجاهِلُ
إذا كان الكُفرُ أو الشِّركُ الأكبَرُ الذي ارتكَبَه الجاهِلُ، مِن المَسائِلِ الخَفيَّةِ التي يَجْهَلُها مِثلُه، فلا يُكَفَّرُ حتى تُقامَ عليه الحُجَّةُ، أمَّا إن كان من المَسائِلِ الظَّاهِرةِ في البَلَدِ الذي هو فيه، ولا يخفى على مِثْلِه، فلا يُعذَرُ. والمقصودُ بالظُّهورِ ليس ظُهورَ الدَّلالةِ ووُضوحَها فقط، بل ظُهورُ العِلمِ وانتِشارُه بيْن النَّاسِ واستِفاضتُه بيْنهم، كظُهورِ وُجوبِ الصَّلاةِ، وحُرمةِ الزِّنا، وما هو معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (... ولهذا يَكفُرُ جاحِدُ الأحكامِ الظَّاهرةِ المجمَعِ عليها وإن كان عامِّيًّا، دون الخَفِيَّةِ)
[1487] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (2/ 254). .
وقال أيضًا: (... وذلك يقتضي وجودَ
الرِّدَّةِ فيهم -يعني طوائِفَ من أهلِ الكلامِ- كما يوجَدُ النفاقُ فيهم كثيرًا. وهذا إذا كان في المقالاتِ الخَفِيَّةِ فقد يقال: إنَّه فيها مخطئٌ ضالٌّ لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ التي يكفُرُ صاحِبُها، لكِنَّ ذلك يقَعُ في طوائِفَ منهم في الأمورِ الظَّاهرةِ التي تعلَمُ العامَّةُ والخاصَّةُ من المسلمين أنَّها من دينِ المسلمين؛ بل اليهودُ والنصارى يعلمون أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِث بها، وكُفْرَ مخالِفِها، مِثلُ أمْرِه بعبادة اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، ونَهْيِه عن عبادة أحدٍ سوى اللهِ من الملائكة والنبيِّين والشَّمسِ والقَمَرِ والكواكبِ والأصنامِ وغيرِ ذلك؛ فإنَّ هذا أظهَرُ شعائرِ الإسلامِ، ومِثلُ أمرِه بالصَّلَواتِ الخَمسِ وإيجابِه لها وتعظيمِ شأنِها، ومِثلُ مُعاداتِه لليهودِ والنَّصارى والمُشرِكين والصَّابئين والمجوس، ومِثلُ تحريمِ الفواحِشِ والرِّبا والخَمرِ والميسِرِ ونحوِ ذلك)
[1488] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 54). .
قال أبا بطين: (فانظُرْ إلى تفريقِه -يعني
ابنَ تيميَّةَ- بيْن المقالاتِ الخَفِيَّةِ، والأمورِ الظَّاهِرةِ؛ فقال في المقالاتِ الخَفِيَّةِ التي هي كُفرٌ: قد يُقالُ إنَّه فيها مخطئٌ ضالٌّ، لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ صاحِبُها، ولم يَقُلْ ذلك في الأمورِ الظَّاهِرةِ؛ فكلامُه ظاهِرٌ في الفَرقِ بيْن الأمورِ الظَّاهِرةِ والخَفيَّةِ، فيُكفِّرُ بالأُمورِ الظَّاهِرِ حُكمُها مُطلقًا، وبما يَصدُرُ منها مِن مُسلِمٍ جَهْلًا، كاستِحلالِ مُحَرَّمٍ، أو فِعلٍ أو قَولٍ شِركيٍّ بعد التعريفِ، ولا يُكفِّرُ بالأمورِ الخَفِيَّةِ جَهْلًا، كالجَهْلِ ببَعضِ الصِّفاتِ، فلا يُكفِّرُ الجاهِلَ بها مُطلَقًا، وإن كان داعيةً، كقَولِه للجَهميَّةِ: أنتم عندي لا تَكفُرونَ؛ لأنَّكم جُهَّالٌ، وقَولُه: «عندي» يُبَيِّنُ أنَّ عَدَمَ تَكفيرِهم ليس أمرًا مُجمَعًا عليه، لكِنَّه اختيارُه، وقَولُه في هذه المسألةِ خِلافُ المشهورِ في المذهَبِ
[1489] هذا يُؤَيِّدُ أنَّ بَعضَ مَسائِلِ العُذرِ بالجَهلِ مِن المسائِلِ الاجتِهاديَّةِ، والخِلافُ فيها سائِغٌ، لذلك عدَّه مخالفًا لمذْهبِه. [1490] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/373). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (الشَّخصُ المعَيَّنُ إذا قال ذلك ما يُوجِبُ الكُفرَ، فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تارِكُها، وهذا في المَسائِلِ الخَفِيَّةِ التي قد يخفى دليلُها على بَعضِ النَّاسِ،... وأمَّا ما يقَعُ منهم في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ الجَليَّةِ، أو ما يُعلَمُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، فهذا لا يُتوقَّفُ في كُفرِ قائِلِه)
[1491] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/433). .
وقال
ابنُ باز: (الجَهْلُ يكونُ فيما يمكِنُ خَفاؤه، أمَّا الأُمورُ الظَّاهِرةُ مِن الدِّينِ فلا يُعذَرُ فيها الجاهِلُ؛ كأمورِ التَّوحيدِ، وأمورِ الصَّلاةِ، ... أمَّا الذي يُمكِنُ جَهْلُه، مِثلُ بَعضِ الصِّفاتِ؛ صِفاتِ اللهِ التي خَفِيَت عليه، أو ما درى أنَّها من صِفاتِ اللهِ فأنكَرَها، ثمَّ عَلِمَ وبُيِّنَ له؛ ما يُكَفَّرُ بذلك؛ لأنَّ مِثلَ هذا قد يَجْهَلُ بعضَ الصِّفاتِ، أو مِثل بَعضِ حُقوقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جَهِلَها، ما درى عن بعضِ الحُقوقِ التي تخفى على العامِّيِّ، أو ما أشبَهَ ذلك، أو إنسانٌ في أطرافِ أمريكا أو أطرافِ أفريقيا في بعضِ المحلَّاتِ البَعيدةِ عن الإسلامِ، مِثلُ هذا كأهلِ الفَترةِ يُبَيَّنُ له ولا يُكَفَّرُ حتَّى يُبَيَّنَ له ويَعلَمَ، فإذا ما أصَرَّ على ذلك وأصَرَّ على الكُفرِ، يُقتَلُ)
[1492] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/ 217). .
وجاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ: (يختَلِفُ الحُكمُ على الإنسانِ بأنَّه يُعذَرُ بالجَهْلِ في المَسائِلِ الدِّينيَّةِ أو لا يُعذَرُ؛ باختِلافِ البَلاغِ وعدَمِه، وباختِلافِ المسألةِ نَفْسِها وُضوحًا وخَفاءً، وتفاوُتِ مَدارِكِ النَّاسِ قُوَّةً وضَعفًا)
[1493] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (2/ 147). .
وسُئِلَ
ابنُ عُثَيمين: هل هناك فَرقٌ بين المَسائِلِ الظَّاهِرةِ والمَسائِلِ الخَفيَّةِ؟
فأجاب: (الخَفِيَّةُ تُبيَّنُ مِثلُ هذه المسألةِ، لو فَرَضْنا أنَّه يقولُ: أنا أعيش في قومٍ يَذبَحونَ للأولياءِ، ولا أعلَمُ أنَّ هذا حرامٌ، فهذه تكونُ خَفِيَّةً؛ لأنَّ الخَفاءَ والظُّهورَ أمرٌ نِسبيٌّ؛ قد يكون ظاهرًا عندي ما هو خَفِيٌّ عليك، وظاهِرٌ عندك ما هو خَفِيٌّ عليَّ)
[1494] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 48). .
وقال: (تجب إقامةُ الحُجَّةِ قبل التكفيرِ، وذلك في كُلِّ المسائِلِ التي يمكِنُ أن يجهَلَها النَّاسُ، فلا نَقسِمُ المسائِلَ إلى مسائِلَ ظاهرةٍ ومَسائِلَ خَفِيَّةٍ
[1495] أي: عند تعليم الناس وإقامة الحُجَّةِ عليهم. ؛ لأنَّ الظُّهورَ والخفاءَ أمرٌ نِسبيٌّ؛ قد تكونُ المسألةُ ظاهرةً عندي وخَفِيَّةً عند غيري، فلا بُدَّ إذَن من إقامةِ الحُجَّةِ وعَدَمِ التسَرُّعِ في التكفيرِ؛ لأنَّ إخراجَ رجُلٍ مِن مِلَّةِ الإسلامِ ليس بالأمرِ الهَيِّنِ، وهناك موانِعُ تمنَعُ من تكفيرِ الشَّخصِ، وإن قال أو فعل ما هو كُفرٌ)
[1496] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 48). .
وقال أيضًا: (الجَهلُ بالحُكمِ فيما يُكَفِّرُ، كالجَهلِ بالحُكمِ فيما يُفَسِّقُ، فكما أنَّ الجاهِلَ بما يُفَسِّقُ يُعذَرُ بجَهْلِه، فكذلك الجاهِلُ بما يكَفِّرُ يُعذَرُ بجَهْلِه ولا فَرْقَ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ:
وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ. ويقولُ الله تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. وهذا يشمَلُ كُلَّ ما يُعَذَّبُ عليه الإنسانُ. ويقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة: 115] ، لكِنْ إذا كان هذا الجاهِلُ مُفَرِّطًا في التعَلُّمِ ولم يسألْ ولم يبحَثْ فهذا محلُّ نظَرٍ؛ فالجُهَّالُ بما يُكَفِّرُ وبما يُفَسِّقُ، إمَّا ألَّا يكونَ منهم تفريطٌ وليس على بالهم إلَّا أن هذا العَمَلَ مُباحٌ، فهؤلاء يُعذَرونَ، ولكِنْ يُدْعَون للحَقِّ، فإن أصَرُّوا حُكِمَ عليهم بما يقتضيه هذا الإصرارُ، وأما إذا كان الإنسانُ يَسمَعُ أنَّ هذا محَرَّمٌ أو أنَّ هذا مُؤَدٍّ للشِّركِ، ولكِنَّه تهاوَنَ أو استكبَرَ، فهذا لا يُعذَرُ بجَهْلِه)
[1497] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 126). .