الفَرعُ الثَّاني: تعريفُ التأويلِ اصطِلاحًا
التأويلُ في اصطلاحِ العُلَماء له ثلاثةُ مَعانٍ:
المعنى الأوَّلُ: أن يرادَ بالتأويلِ حقيقةُ ما يَؤُولُ إليه الكلامُ، وإن وافق ظاهِرَه.وهذا هو المعنى الذي يرادُ بلَفظِ التأويلِ في الكتابِ والسُّنَّةِ.
قال اللهُ تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ: هل ينتَظِرُ هؤلاء المُشرِكون الذين يُكَذِّبون بآياتِ اللهِ ويَجْحَدون لقاءَه، إلَّا تأويلَه؟ يقول: إلَّا ما يؤول إليه أمرُهم من ورودِهم على عذابِ اللهِ، وصِلِيِّهم جَحيمَه، وأشباه هذا ممَّا أوعَدَهم اللهُ به)
[1540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 240). .
وعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يقولَ في ركوعِه وسُجودِه:
((سبحانَك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحَمْدِك، اللهُمَّ اغفِرْ لي ))، يتأوَّلُ القُرآنَ
[1541] أخرجه البخاري (4968)، ومسلم (484). قال
النَّووي: (معنى يتأوَّلُ القُرآنَ يعمَلُ ما أُمِرَ به في قَولِ الله عزَّ وجلَّ:
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ * إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
[1542] يُنظر: ((شرح مسلم)) (4/ 201). .
المعنى الثَّاني: أن يرادَ بلَفظِ التأويلِ: التفسيرُوهو اصطِلاحُ كثيرٍ من المفَسِّرين، وقد سمَّى
ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ تفسيرَه: جامِعَ البيانِ عن تأويلِ آيِ القُرآنِ، ويقولُ عند تفسيرِ كُلِّ آيةٍ أو بعضِ آيةٍ: (القَولُ في تأويلِ قَولِه تعالى كذا)
[1543] يُنظر مثلًا: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 109، 110، 121). .
قال مجاهِدٌ: (إنَّ الرَّاسخين في العِلمِ يَعلَمونَ تأويلَ المتشابِهِ)
[1544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 220). ؛ فإنَّه أراد بذلك تفسيرَه وبيانَ معانيه، وهذا ممَّا يعلَمُه الرَّاسِخون.
المعنى الثَّالثُ: أن يرادَ بلَفظِ التأويلِ: صَرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه إلى ما يخالِفُ ذلك.هذا التأويلُ يكونُ مخالفًا لِما يدُلُّ عليه اللَّفظُ ويُبَيِّنُه، وتسميةُ هذا تأويلًا لم يكُنْ في عُرفِ السَّلَفِ، وإنَّما سمَّى هذا تأويلًا طائفةٌ من المتأخِّرين الخائِضين في الفِقهِ وأصولِه والكلامِ.
وهذا التأويلُ هو الذي يقصِدُه أكثَرُ من يتكَلَّمُ من المتأخِّرين في مسألةِ الصِّفاتِ والقَدَرِ ونَحوِها.
وهو من أعظَمِ أُصولِ الضَّلالِ والانحرافِ؛ حيث صار ذريعةً لغُلاةِ
الجَهميَّةِ والباطنيَّةِ والمتصَوِّفةِ في تأويلِ التكاليفِ الشَّرعيَّةِ على غيرِ مَقصودِها، أو إسقاطِها أو تأويلِ الأسماءِ والصِّفاتِ، قد اتَّفَق أئمَّةُ السَّلَف على ذَمِّ هذا التأويلِ الفاسِدِ
[1545] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/54 – 68) (4/68 - 70) (5/28 – 36) (13/277 – 313)، ويُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/175 – 233)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/208 - 225). .
وأهلُ التأويلِ المذمومِ مراتِبُ:
فهناك القرامِطةُ والباطنيَّةُ الذين يتأوَّلون الأخبارَ والأوامِرَ.
وهناك الصَّابئةُ والفلاسِفةُ الذين يتأوَّلون الأخبارَ عن اللهِ واليومِ الآخِرِ، حتى عن أكثَرِ أحوالِ الأنبياءِ.
وهناك
الجَهميَّةُ و
المعتَزِلةُ الذين يتأوَّلون آياتِ الصِّفاتِ وبعضَ ما جاء في اليَومِ الآخِرِ والقَدَرِ، وقد وافقهم بعضُ متأخِّري
الأشعريَّةِ على تأويلِ أكثَرِ نُصوصِ الصِّفاتِ، وبعضُهم في بعضِ ما جاء في اليومِ الآخِرِ، وقد يتأوَّلُ بعضُ من تغلِبُ عليهم السُّنَّة نصوصًا يكونُ تأويلُهم لها من تحريفِ الكَلِمِ عن مواضِعِه
[1546] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/287)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) للوهيبي (2/20). .