المَطْلَبُ الثَّالثُ: المَوقِفُ من أهلِ التأويلِ
الخِلافُ بين العُلَماء في حدودِ التأويلِ المقبولِ وغيرِ المقبول، أدَّى إلى خلافٍ بينهم في الحُكمِ على الفِرَق المتأوِّلةِ.
قال
الخطَّابي في حديث:
((ألَا إنَّ من قَبْلَكم من أهلِ الكِتابِ افتَرَقوا على اثنتينِ وسبعين مِلَّةً، وإنَّ هذه المِلَّةَ ستَفترِقُ على ثلاثٍ وسبعين؛ اثنتانِ وسبعون في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، وهي الجماعةُ )) [1584] أخرجه أبو داود (4597) واللفظ له، وأحمد (16937) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. صححه الحاكم في ((المستدرك)) (443)، وشعيب الأرناؤوط بشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحسنه لغيره الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (577)، وحسن إسناده ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). : (فيه دَلالةٌ على أنَّ هذه الفِرَقَ كُلَّها غيرُ خارجةٍ مِن الديِّن؛ إذ قد جعلهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّهم من أمَّتِه، وفيه: أن المتَأَوِّلَ لا يخرُجُ من المِلَّةِ، وإن أخطأَ في تأويلِه)
[1585] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/295). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا السَّلَفُ والأئِمَّةُ فلم يتنازعوا في عَدَمِ تكفيرِ
المرجِئةِ والشِّيعةِ المفضِّلة ونحو ذلك، ولم تختَلِفْ نصوصُ
أحمد في أنَّه لا يُكفِّر هؤلاء، وإن كان من أصحابِه من حكى في تكفيرِ جميع أهلِ البِدَعِ -من هؤلاء وغيرِهم- خلافًا عنه، أو في مذهَبِه، حتى أطلق بعضُهم تخليدَ هؤلاء وغيرِهم، وهذا غَلَطٌ على مَذهَبِه، وعلى الشَّريعةِ، ومنهم من لم يكفِّرْ أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهلِ البِدَعِ بأهل المعاصي، قالوا: فكما أنَّ من أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة أنَّهم لا يكَفِّرون أحدًا بذنبٍ، فكذلك لا يكفِّرون أحدًا ببدعةٍ، والمأثورُ عن السَّلَف والأئمَّة إطلاقُ أقوالٍ بتكفيرِ
الجَهميَّةِ المحْضَةِ الذين يُنكِرون الصِّفاتِ، … وأمَّا
الخوارجُ والرَّوافضُ ففي تكفيرِهم نزاعٌ وتردُّدٌ عن
أحمد وغيره، وأمَّا القَدَريَّة الذين ينفون الكتابةَ والعِلمَ فكفَّروهم، ولم يكفِّروا من أثبت العِلمَ، ولم يثبِتْ خَلقَ الأفعالِ)
[1586] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/351) (7/507). .
وقال أيضًا: (سَبَبُ هذا التنازع تعارُضُ الأدِلَّة؛ فإنَّهم يرون أدِلَّةً توجِبُ إلحاقَ أحكامِ الكُفرِ بهم، ثمَّ إنَّهم يرون من الأعيانِ الذين قالوا تلك المقالاتِ من قام به من الإيمانِ ما يمتنعُ أن يكونَ كافرًا، فيتعارضُ عندهم الدَّليلان، وحقيقةُ الأمرِ أنَّهم أصابوا في ألفاظِ العمومِ في كلامِ الأئمَّةِ ما أصاب الأوَّلين في ألفاظ العمومِ في نصوصِ الشَّارع، كلَّما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافرٌ، اعتقد المستَمِعُ أنَّ هذا اللَّفظَ شامِلٌ لكلِّ من قاله، ولم يتدبَّروا أنَّ التكفيرَ له شروطٌ وموانِعُ قد تنتفي في حَقِّ المعَيَّن، وأنَّ تكفيرَ المطْلَقِ لا يستلزِمُ تكفيرَ المعَيَّن، إلَّا إذا وُجِدت الشُّروطُ وانتفت الموانعُ، يُبَيِّنُ هذا أنَّ
الإمامَ أحمد وعامَّةَ الأئمَّةِ الذين أطلقوا هذه العموماتِ
[1587] مثل قولهم: من قال: القرآنُ مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، ومن قال: إن الله لا يُرى في الآخرةِ، فهو كافِرٌ، ونحو ذلك. لم يكَفِّروا أكثَرَ من تكلَّم بهذا الكلامِ بعينِه)
[1588] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/487). .
ثم ضرب مثالًا كرَّره في عِدَّةِ مواضِعَ، وهو موقِفُ
أحمدَ من أعيانِ
الجَهميَّةِ، فقال: (
أحمدُ لم يكفِّرْ أعيانَ
الجهميَّةِ، ولا كُلَّ من قال: إنَّه جهميٌّ، كفَّره، ولا كُلَّ من وافق
الجَهميَّةَ في بعضِ بِدَعِهم، بل صلَّى خَلْفَ
الجهميَّةِ الذين دعَوا إلى قَولهم، وامتَحَنوا النَّاسَ وعاقبوا من لم يوافِقْهم بالعقوباتِ الغليظةِ، لم يكفِّرْهم
أحمدُ وأمثالُه، بل كان يعتقِدُ إيمانَهم وإمامتَهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمامَ بهم في الصَّلَواتِ خَلْفَهم، والحَجَّ والغَزْوَ معهم، والمنعَ من الخروجِ عليهم ما يراه لأمثالِهم من الأئِمَّةِ، وينكِرُ ما أحدثوا من القَولِ الباطِلِ الذي هو كُفرٌ عظيمٌ، وإن لم يعلموا هم أنَّه كفرٌ، وكان ينكِرُه ويجاهِدُهم على رَدِّه بحَسَبِ الإمكانِ، فيجمَعُ بين طاعةِ اللهِ ورَسولِه في إظهارِ السُّنَّةِ والدِّينِ، وإنكارِ بِدَعِ
الجهميَّةِ الملْحِدين، وبيْن رعايةِ حُقوقِ المؤمنينَ من الأئِمَّة والأمَّةِ، وإن كانوا جُهَّالًا مُبتَدِعين، وظَلَمةً فاسِقينَ)
[1589] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/507) (12/488) (23/348). .
وقال أيضًا: (… فإذا رأيت إمامًا قد غَلَّظ على قائلٍ مقالتَه، أو كَفَّره فيها، فلا يُعتَبَرُ هذا حكمًا عامًّا في كلِّ من قالها، إلَّا إذا حصل فيه الشَّرطُ الذي يستحِقُّ به التغليظَ عليه، والتكفيرَ له، فإنَّ من جحد شيئًا من الشَّرائعِ الظَّاهرةِ، وكان حديثَ العَهدِ بالإسلامِ، أو ناشئًا ببلَدِ جَهلٍ؛ لا يكفُرُ حتى تبلغُه الحُجَّة النبويَّة، وكذلك العكسُ، إذا رأيتَ المقالةَ المخطِئةَ قد صدرت من إمامٍ قديمٍ فاغتُفِرَت؛ لعَدَمِ بلوغِ الحُجَّة له، فلا يُغتَفَرُ لمن بلغته الحُجَّةُ ما اغتُفِرَ للأوَّلِ)
[1590] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/61). .
وقال البابرتي: (قُوَّةُ الشُّبهةِ تمنَعُ التكفيرَ من الجانِبَينِ؛ ألا ترى أنَّ أهلَ البِدَعِ لم يُكَفَّروا بما مَنَعوه ممَّا دَلَّ عليه الدَّليلُ القَطعيُّ في نظَرِ أهلِ السُّنَّةِ؛ لتأويلِهم)
[1591] يُنظر: ((العناية شرح الهداية)) (1/ 19). .
وقال عبدُ الحَقِّ الدهلوي: (الصَّوابُ ألَّا نتسارَعَ إلى تكفيرِ أهلِ الأهواءِ المتأَوِّلين؛ لأنَّهم لا يَقصِدون بذلك اختيارَ الكُفرِ، ولا يَرْضَون به، وقد تمسَّكوا بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وبَذَلوا جُهْدَهم في إصابةِ الحَقِّ فأخطَؤوا، والتكفيرُ لا يُطلَقُ إلَّا بعد البيانِ الجَلِيِّ)
[1592] يُنظر: ((لمعات التنقيح)) (1/ 395). .
وقال
السَّعديُّ: (أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَسلُكون معهم ومع جميعِ أهلِ البِدَعِ المسلَكَ المستقيمَ المبنيَّ على الأصولِ الشَّرعيَّة والقواعِدِ المرضيَّة، يُنصِفونهم، ولا يُكفِّرون منهم إلَّا من كَفَّره اللهُ ورسولُه، ويعتَقِدون أنَّ الحُكمَ بالكُفرِ والإيمانِ من أكبَرِ حقوقِ الله وحقوقِ رَسولِه.
فمن جحد ما جاء به الرَّسولُ أو جحد بعضَه غيرَ متأوِّلٍ من أهلِ البِدَعِ، فهو كافرٌ؛ لأنَّه كَذَّب اللهَ ورسولَه، واستكبر على الحَقِّ وعانده، فكُلُّ مبتدعٍ من جَهميٍّ وقَدَريٍّ وخارجيٍّ ورافضيٍّ ونحوِهم، عَرَف أنَّ بدعَتَه مناقِضةٌ لِما جاء به الكِتابُ والسُّنَّة، ثم أصرَّ عليها ونصرها؛ فهو كافِرٌ باللهِ العظيمِ، مشاقٌّ لله ورَسولِه من بعدِ ما تَبيَّنَ له الهدى.
ومن كان من أهلِ البِدَعِ مُؤمنًا باللهِ ورَسولِه ظاهرًا وباطنًا، مُعَظِّمًا لله ورَسولِه، ملتزمًا ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه خالف الحَقَّ وأخطأ في بعض المقالاتِ، وأخطأ في تأويلِه، من غيرِ كُفرٍ وجَحْدٍ للهُدى الذي تبيَّنَ له؛ لم يكن كافرًا، ولكنَّه يكون فاسقًا مبتَدِعًا، أو مبتَدِعًا ضالًّا، أو معفوًّا عنه لخفاءِ المقالةِ، وقوَّةِ اجتهادِه في طَلَبِ الحَقِّ الذي لم يظفَرْ به.
ولهذا كان
الخوارجُ و
المُعتَزِلةُ والقدَريَّةُ ونحوُهم من أهلِ البِدَعِ أقسامًا متنَوِّعةً:
منهم من هو كافِرٌ بلا ريبٍ كغلاةِ
الجَهميَّةِ
[1593] مع التفريق بين التكفيرِ بالعمومِ والتكفيرِ بالتعيينِ. الذين نفَوا الأسماءَ والصِّفاتِ، وقد عرفوا أنَّ بِدْعَتَهم مخالفةٌ لما جاء به الرَّسولُ، فهؤلاء مكَذِّبون للرَّسولِ، عالِمون بذلك.
ومنهم من هو مبتَدِعٌ ضالٌّ فاسِقٌ ك
الخوارجِ المتأوِّلين، و
المعتَزِلة المتأوِّلين، الذين ليس عندهم تكذيبٌ للرَّسولِ، ولكنَّهم ضلُّوا ببدعتِهم، وظنُّوا أنَّ ما هم عليه هو الحَقُّ؛ ولهذا اتَّفق الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم في الحُكمِ على بدعةِ
الخوارجِ ومُروقِهم، كما وردت بذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ فيهم، واتَّفَقوا أيضًا على عدمِ خروجِهم من الإسلامِ
[1594] ذكر الطبري والخطَّابي الإجماعَ على عدَمِ كفرِ الخوارجِ، ونُقِل عن غيرهم من الأئمَّةِ خلافُ ذلك. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/299 – 301)، ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص: 388). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/282). مع أنَّهم استحلُّوا دماء المسلمين، وأنكروا الشَّفاعةَ في أهلِ الكبائِرِ، وكثيرًا من الأصولِ الدِّينيَّةِ، ولكِنْ تأويلُهم منع من تكفيرِهم.
ومن أهلِ البِدَعِ من هو دون هؤلاء ككثيرٍ مِن القَدَريَّة وكالكُلَّابية والأشعرَّية، فهؤلاء مبتَدِعةٌ ضالُّون في الأصولِ التي خالفوا فيها الكتابَ والسُّنَّةَ، وهي معروفةٌ مشهورة، وهم في بِدَعِهم مراتِبُ بحَسَبِ بُعْدِهم عن الحَقِّ وقُربِهم، وبحسَبِ بَغْيِهم على أهلِ الحَقِّ بالتكفيرِ والتفسيقِ والتبديعِ، وبحسَبِ قُدرتِهم على الوصولِ إلى الحَقِّ، واجتهادِهم فيه، وضِدِّ ذلك، وتفصيلُ القولِ فيه يطولُ جِدًّا)
[1595] يُنظر: ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: 244 - 246). .
وخلاصةُ موقِفِ السَّلَفِ من المتأوِّلين أنَّهم لا يحكُمون على جميعِ الفِرَق المتأوِّلة المنتَسِبة لهذه الأمَّةِ حُكمًا عامًّا بالكُفرِ أو عَدَمِه، وإذا حكموا على بعضِها بالكُفرِ كحُكمِهم على غلاةِ
الجَهميَّة فيُفَرِّقون بين الحُكمِ العامِّ، وبين الحُكمِ على المعَيَّن، فالمعَيَّنون متفاوتون بحسَبِ قيامِ الحُجَّة عليهم أو عَدَمِ قيامِها، وبحسَبِ اجتهادِهم وتأويلِهم، أو استكبارِهم وجَحْدِهم، ففيهم المنافِقُ والزِّنديق، وفيهم المبتَدِعُ الضَّالُّ، وفيهم الفاسِقُ، وفيهم المجتَهِدُ المغفورُ له خطؤه. واللهُ أعلَمُ
[1596] ينظر: ((الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)) لابن القيم (1/ 464)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) للوهيبي (2/31). .